الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لنا مع رسولنا حقوق يجب علينا أن نؤديها، أعظمها وأجلها وأكبرها الأروع في حقوق النبي الأربع، وهي: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
الخطبة الأولى:
الحمـد لله العلي الأرفقِ | جامع الأشيـاء والمفـرِّقِ |
ذي النعم الواسعة الغزيرة | والحكـم الباهرة الكثيرة |
ثم الصلاة مع سلام دائمِ | على الرسول القرشي الخاتم |
وآلـه وصحبـه الأطهارِ | الحائزي مراتـب الفخارِ |
اعلم –هديتَ- أن أفضل المنن | تقوى تزيل الشك عنك والدرن |
وتجلـب الخير لكـل مطلوب | وتوصـل العبـد إلى المطلوب |
ثم اعلموا -عباد الله- أن الله -عز وجل- قد قال -جل في علاه-: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:128].
في هذه الآية الكريمة يمتن الله -عز وجل- على عباده أن بعث إليهم رسولاً من أنفسهم، يعرفون حسبه ونسبه ومدخله ومخرجه، يعرفونه في حله وترحاله، يجالسونه ويسألونه، يشاركونه ويؤاكلونه: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)، يشق على أمته الذي يعنتها ويشق عليها: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة".
ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، صلوات ربي وسلامه عليه، حريص على هدايتهم واستقامتهم وصلاحهم، عند أبي داود يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم". فصلوات ربي وسلامه عليه.
يا رب إن ذنوبي في الورى كثرت | وليس لي عمل في الحشر ينجيني |
ولقـد أتيتك بالتوحيـد يصحبه | حب الرسول وهذا القدر يكفيني |
حريص على هداية الأمة، دل الأمة على كل خير، ونبّه الأمة وحذرهم من كل شر، توفّاه الله وقد تركنا على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، صلوات الله وسلامه عليه.
يقول سبحانه ممتنًا على عباده: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:151]، ويقول سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164].
عباد الله: لنا مع رسولنا حقوق يجب علينا أن نؤديها، أعظمها وأجلها وأكبرها الأروع في حقوق النبي الأربع، وهي: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
طاعته فيما أمر: أوجب الله -عز وجل- على الأمة طاعته واتباعه وامتثال أمره واجتناب نهيه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ)، وقال سبحانه: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:132].
وقد جاءت طاعته في القرآن في أكثر من ثلاثين آية: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]، بل جعل طاعته من طاعتِه: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ)، وليس هناك على وجه هذه الأرض إنسان تجب طاعته وتقديم أمره سواه، صلوات ربي وسلامه عليه، ولهذا خذ قاعدة: كل إنسان سائغ الإتباع إلا محمد بن عبد الله واجب الاتباع، كل إنسان إذا أمر بأمر فإنه إن أمر بمعروف أطيع وإلا فلا، أما محمد بن عبد الله فتجب طاعته بالتوّ، ولهذا في البخاري من حديث أبي هريرة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: "من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
وطاعته -عباد الله- فيها الفوز والفلاح والصلاح والإصلاح والنجاح، كما رواه مسلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام قال: "ومن يطع الله ورسوله فقد رشد"، بأبي هو وأمي -صلوات ربي وسلامه عليه-، حريص على الأمة باتباعه وطاعته والانقياد لأمره.
عند مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارًا، فجعلت الجنادب والفراش يقعن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عنها، وأنتم تتفلتون على يدي". صلوات الله وسلامه عليه.
طاعته -عباد الله- فيها النور والسعادة، وفيها محبة الله ومغفرة الذنوب: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:31].
والعنصر الثاني -عباد الله- تصديقه فيما أخبر، تصديقه -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ هو كما قال سبحانه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3، 4]، وقال سبحانه: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر:33]. وتقول قريش معبرة معترفة: "ما عهدنا عليك كذبًا". صلوات الله وسلامه عليه. والصحابة -رضي الله عنهم- يعلنونها مدوية: حدثنا الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه-.
ولهذا -عباد الله- كان أول المصدقين وأول الموقنين أبو بكر الصديق، لقب بالصديق لقوة تصديقه، ولما حصلت حادثة المعراج وما فيها من الآيات والعبر فرحت قريش ليدسوا على أبي بكر ويخلخلوا صدقه واتباعه لصاحبه -عليه الصلاة والسلام-، فجاؤوا إليه -وأبو بكر لم يعلم بها- فقالوا: "إن صاحبك يزعم أنه أسري به في ليلة واحدة، وفعل كيت وكيت، وهذا لا يمكن، إذ نحن نرسل العير إلى الشام ذاهبة شهرًا وراجعة شهرًا".
فما تظنون أن يقول أبو بكر -رضي الله عنه-؟! أتظنون أن يقول: أمهلوني أو أنظروني لأتثبت وأنظر؟! لا والله، قال: "إني لأصدقه بما هو أقرب من ذلك، بهذا الوحي الذي ينزل من السماء". (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى).
تصديقه -عليه الصلاة والسلام- بامتثال أمره واجتناب نهيه، تصديق أخباره وتقدميها على العقول الفاسدة، تصديقه -عليه الصلاة والسلام- وإن لم يعلم المرء العلة والحكمة؛ إذ يجب التسليم المطلق والطاعة المطلقة: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء:65].
تصديقه -عباد الله- على ثلاثة أنحاء: الناحية الأولى: في الأمور الماضية في أحوال الأمم السابقة من قصص بني إسرائيل أو الرسل والأنبياء أو نحو ذلك من الأمور الغابرة، تصديقه فيما صحّ عنه بأن ذلك كالشمس في رابعة النهار، كما يحدثنا عن بني إسرائيل عن قصصهم أو عن الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-.
والناحية الثانية: تصديقه في الأمور الحاضرة من أشراط الساعة الصغرى أو ما يقع للأمة، فإذا ثبت النص يجب التصديق بدون تخصيص أو تقييد أو تريث أو شك أو غير ذلك.
أو كذلك الناحية الثالثة من أمور قادمة كأشراط الساعة الكبرى وأحوال القبر وفتنة القبر وعذابه.
وأن كـلاً مـقعـد مسـؤول | ما الرب ما الدين وما الدين ما الرسول |
فـعنـد ذا يثبـت المهـيمـن | بثـابـت القـول الـذيـن آمنـوا |
ويـوقن المـرتاب عنـد ذلـك | بـأنـمـا مـورده الـمهـالـك |
تصديقه بالبعث، تصديقه بأهوال القيامة وأحوالها، الحوض والشفاعة والصراط والموقف وما فيه، والجنة وما فيها والنار وما فيها، فإذاً تصديقه في الأمور الماضية وفي الأمور الحاضرة وفي الأمور المستقبلة.
وثالث العناصر -أيها المسلمون-: وما نهى عنه فانتهوا، كما قال سبحانه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة يقول -عليه الصلاة والسلام-: "وما أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه". إذا جاءنا النهي عن رسولنا يجب أن ننتهي بالكلية، ولهذا الأمر نأتي به حسب الاستطاعة، وأما النواهي فإننا نتركها بالكلية، ولهذا -عباد الله- يجب أن نجتنب نهيه، وأن لا نقدم عليه قول قائل أو شهوة أو شبهة أو نحو ذلك.
في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلاً كان يأكل بشماله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُل بيمينك"، فقال لا أستطيع: فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا استطعت"، فما رفعها إلى فيه، وقفت بين فيه وبين موضعها مشلولة -عياذًا بالله-.
فلهذا -عباد الله- يجب الانتهاء عن المناهي والزواجر التي نهى عنها رسول الله، فإن استطعت ألا تعصي الله ولو بخطوة واحدة فافعل كما قاله الإمام ابن باز -عليه رحمه الله-.
هذا ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي التوفيق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دل الأمة على كل جليل ودقيق، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أهل الهدى والتحقيق.
ورابع العناصر من الحقوق للرسول -عليه الصلاة والسلام-: ألا يعبد الله إلا بما شرع، وهذا أصل عظيم من أصول الدين، ذلكم -عباد الله- أن الدين مبني على أصلين عظيمين كبيرين، الأصل الأول: ألا نعبد إلا الله، والأصل الثاني: ألا نعبد الله إلا بما شرع رسول الله.
ولهذا فالعبادة -عباد الله- لابد لها من شرطين أساسين: الإخلاص والمتابعة، الإخلاص في قوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء)، وقول الله –عز وجل- في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه".
والمتابعة -عباد الله-: ألا نعبد الله إلا من طريق رسول الله.
أخي تدري أين طريق الجنة؟! | طريقها الكتاب ثم السنة |
ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
وفي رواية لمسلم علّقها البخاري: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". في حديث العرباض عند أبي داود والترمذي وصححه قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ".
بل -عباد الله- كان يحذر الأمة من الابتداع في دين الله في كل خطبة -عليه الصلاة والسلام-، فعند مسلم عن جابر: "كان رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إذا خطب احمرَّتْ عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنه مُنذِرُ جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: "بُعثتُ أنا والساعةُ كهاتَين"، ويقرنُ بين أصبعَيه السَّبَّابةَ والوُسطى. ويقول: "أما بعدُ: فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ".
ولهذا -عباد الله- يجب أن لا نعبد الله بأمر ما أو فعل ما حتى ننظر إلى إخلاصنا وصوابنا على سنة رسولنا، فربنا يقول: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً؛ لأن العبرة بإحسان العمل وإتقانه وضبطه والإتيان به على وجهه لا بكثرته وكميته، ولهذا يقول -عليه الصلاة والسلام- ونحن نمارس الصلوات الخمس: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وفي الوضوء يقول: "من توضأ نحو وضوئي هذا"، وفي الحج يقول: "خذوا عني مناسككم".
واعلـم بأن الأجر ليس بحاصل | إلا إذا كانت به صفتان |
لابد من إخلاصه ونقائه وخلـ | ـوِّه من سـائر الأدران |
وكذا متـابعة الرسـول فإنها | شرط بحكم نبينا العدنان |
فعلينا -عباد الله- ألا نعبد الله إلا بما شرع رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-.
هذا؛ وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشريعته.