الرحمن
هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
نحنُ نحتاجُ للرجوعِ إلى كتابِ ربِّنا؛ لنعرفَ طريقَ النَصْرِ والتَمكينِ، وكيفَ السَبيلُ للخروجِ بالأمَّةِ من تَسَلُّطِ الأعداءِ الظالمينَ، فما أجملَها من عِبْرَةٍ إن كانتْ من الخبيرِ الحَميدِ، وما أعظمَها من ذكرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ؟!. فتعالوا لنغوصَ في كتابِ اللهِ -تعالى-، ونستخرجُ شيئاً من الدُّرِّ المكنونِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى)[البقرة: 246]. اجتمعَ الملأُ من بني إسرائيلَ، وهم الأشرافُ والسادةُ، وذلك بعدَ وفاةِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فلأنَّ اللهَ -تعالى- قالَ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)[النحل: 89].
فنحنُ نحتاجُ للرجوعِ إلى كتابِ ربِّنا؛ لنعرفَ طريقَ النَصْرِ والتَمكينِ، وكيفَ السَبيلُ للخروجِ بالأمَّةِ من تَسَلُّطِ الأعداءِ الظالمينَ، فما أجملَها من عِبْرَةٍ إن كانتْ من الخبيرِ الحَميدِ، وما أعظمَها من ذكرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ؟!.
فتعالوا لنغوصَ في كتابِ اللهِ -تعالى-، ونستخرجُ شيئاً من الدُّرِّ المكنونِ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى)[البقرة: 246].
اجتمعَ الملأُ من بني إسرائيلَ، وهم الأشرافُ والسادةُ، وذلك بعدَ وفاةِ نبيِ اللهِ موسى -عليه الصلاة والسلام- بزَمنٍ، وكانَ قد تَسَلَّطَ عليهم الأعداءُ وأخرجوهم من بلادِهم؛ فعلِموا أنه لا مخرجَ لهم من الذُّلِ والهَوانِ الذي يعيشونَ فيه إلا بالرجوعِ إلى أهلِ العلمِ واستشارتِهم، والأخذُ برأيِهم، وحيثُ أن أهلَ العلمِ في زمانِهم هم الأنبياءُ؛ كما قَالَ صلى الله عليه وسلم: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ".
(قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ)[البقرة: 246].
فكأنَهم أيقنوا أن اختلافَهم وتَفَرَّقَهم، هو سببٌ أصيلٌ في حالِ الضعفِ التي يعيشونَها، وأنه لا بُدَّ أن يجتمعوا تحتَ قائدٍ واحدٍ ليواجِهوا الأعداءَ.
وعَلِموا أنه لا نصرَ إلا لمن كانَ يُقاتلُ في سبيلِ اللهِ -تعالى-، لا في سبيلِ وَطنيَّةٍ ولا عُروبةٍ ولا قوميَّةٍ.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فاختصرَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- الإجابةَ لتكونَ صالحةً لكلِ زمانٍ ومكانٍ بقولِه: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ".
ولكن الخَلَلَ أنهم تجاوزوا نبيَّهم، وطلبوا مَلِكاً تحتَ لِواءِه يُقاتلونَ، وعادةَ الملوكِ أن لهم أموالاً طائلةً على أتباعِهم يُغدِقونَ، فأيُّ قتالٍ في سبيلِ اللهِ يَزعُمونَ؟
ولما كانَ الأنبياءُ أعلمَ الناسِ بطبيعةِ أقوامِهم، عَلِمَ أن هذا الحماسَ الخالي من وسائلِ الاستعدادِ الحقيقيِّ، من تقويةِ الإيمانِ في القلبِ، وإعدادِ القوَّةِ للحربِ، من أعظمِ أسبابِ الفشلِ: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ)[البقرة: 246].
فالفرصةَ أمامَكم لتتراجعوا عن قرارِكم، وتعمَلوا على الأخذِ بأسبابِ القوَّةِ الإيمانيَّةِ والحربيَّةِ قبلَ أن يُفرضَ عليكم القتالُ فتقولوا: (رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ)[النساء:77].
ولكنهم أَصَرُّوا على رأيِهم: (قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا)[البقرة: 246].
تصريحاتٌ مُشَجِّعةٌ، وأسبابٌ مُقنِعَةٌ، فماذا بعدَ الإخراجِ من الدِّيارِ، وسبيِ الأبناءِ الصِّغارِ؟
ولكن الحقيقةَ: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[البقرة: 246].
كثيرٌ هم الذين يُجيدونَ التَعبيرَ، ويلعبونَ بعوَاطفِ الجماهيرِ: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)[الأحزاب: 19].
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) [البقرة: 247].
فبعدَ أن أوجبَ اللهُ -تعالى- عليهم القِتالَ، اختارَ لهم طالوتَ ليكونَ القائدَ الذي يُقاتلونَ تحتَ رايتِه: (قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) [البقرة: 247].
فكأنهم كانوا يتوقعونَ أن يكونَ الترشيحَ فيهم: (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ)[البقرة: 247].
فلا أدري أيريدونَ مَلِكاً يُقاتلونَ معه أو مَلِكاً يستمتعونَ في قُصُورِه ويَحثُونَ من خزائنِه؟ (قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ)[البقرة: 247].
فأعظمُ مُؤَهَّلٍ لطالوتَ في القِيادةِ، أنه اختيارُ عالمِ الغيبِ والشَّهادةِ، وفوقَ ذلك: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)[البقرة: 247].
وهذه أهمُ صِفاتٍ للقائدِ، علمٌ بالأحكامِ الشرعيَّةِ، ومعرفةٌ بالأساليبِ الحربيَّةِ، وقوَّةٌ في التركيبةِ البدَنيَّةِ: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 247].
فسبحانَ واسعِ العطاءِ، وعالمِ الخفاءِ، يؤتي المُلكَ من يشاءُ، ثم يُهيِّئ له أسبابَ التَمكينِ والجَلاءِ.
ثُمَّ جعلَ اللهُ -تعالى- لاصطفاءِ طالوتَ مُعجزةً ظاهرةً؛ لأجل أن لا تختلفَ عليه الآراء: (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [البقرة: 248].
فجاءَهم الصندوقُ الذي فيه بقايا مما تركَ موسى وهارونُ، قالَ ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: "جاءتْ الملائكةُ تحملُ التابوتَ بينَ السماءِ والأرضِ حتى وضعتْه بينَ يَديْ طالوتَ والناسُ يَنظرونَ".
فكانَ فيه سكينةٌ وطُمأنينةٌ لقلوبِهم بأن طالوتَ هو الملِكُ المُختارُ؛ من اللهِ العَزِيزِ الجَبَّارِ، وهكذا يجعلُ اللهِ -تعالى- لمن يختارُهم في كلِّ زمانٍ آياتٍ واضحاتٍ، تطمئنُ لهم قلوبُ أهلِ الإيمانِ والطاعاتِ، ويَنفرُ منهم المنافِقونَ وأهلُ البِدعِ المُحدَثاتِ، سُنَّةُ اللهِ -تعالى-: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43].
(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ) [البقرة: 249].
وخرجَ بالجَيشِ من البِلادِ.
(قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)[البقرة: 249].
إنَّ اللَّهَ مُخْتَبِركُمْ بِنَهَرٍ لِيَعْلَمَ كَيْفَ طَاعَتُكُمْ لَهُ؟
(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي)[البقرة: 249].
أي ليسَ من أتباعي وسوفَ لن يُواصلَ المسيرَ مع الجيشِ إلى القِتالِ.
(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)[البقرة: 249].
ومن لم يَذقْ الماءَ فإنه من جَيشي، ولا بأسَ لِمَنْ اغْتَرَفَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ، فأباحَ لهم غُرفةً واحدةً تَيسيراً عليهم ورحمةً بهم، فلا إلهَ إلا اللهُ الرحيمُ حتى في ابتلاءِه، فيبتلي بالقَليلِ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ) [البقرة: 155].
ولا يأخذُ الكُلَّ، بل: (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة: 155].
وهكذا: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179].
فيَختبرُ عبادَه الذين يريدونَ القِتالَ في سَبيلِه، لأجلِ أن يتبيَّنَ الصَّادقُ من الكاذبِ، فلا يُقاتلُ في سبيلِه إلا مؤمِناً صادقاً لا يَفِرُّ إِذَا اِلتَقى الجَيشانِ، والتَحمَ الصَّفانِ.
فما هي نتيجةُ الاختبارِ؟.
(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ).
تصفيةٌ إيمانيَّةٌ مُتتابِعةٌ.
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ)[البقرة: 249].
فلما خرجَ بالقليلِ واختبرَهم بالنَهَرِ.
(فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)[البقرة: 249].
فلم يبقَ معه بعدَ ذلك إلا أقلَ القليلِ.
عَنِ الْبَرَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلاَثَمِائَةٍ".
(لَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)البقرة: 249].
وهذه فئةٌ من المؤمنينَ نظروا إلى عَددِ الجَيشينِ، واعتقدوا أنهم يحتاجونَ إلى مَدَدٍ من الرجالِ لأجلِ أن يتوازنَ الفريقانِ، وتتساوى الكِفَّتانِ.
(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 249].
فما أعظمَ الإيمانِ إذا وَقَرَ في القَلبِ؟! ومنذُ متى والمسلمونَ يَنتصرونَ بعَدَدٍ أو عَتادٍ؟.
قد أمرَّ اللهُ -تعالى- المؤمنينَ بعدمِ التكلُّفِ في إعدادِ القوَّةِ للجهادِ في سبيلِه، فقالَ: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60].
فإذا أعدَّ المسلمونَ ما يستطيعُونَ من وسائلِ القتالِ، مع إيمانٍ راسخٍ في القلبِ كالجبالِ، وصَبرٍ عندَ لِقاءِ الرِّجالِ، فإن النصرَ من اللهِ -تعالى- موعودٌ، ووقائعُ التاريخِ على ذلك شُهودٌ: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249].
فمن كانَ اللهُ -تعالى- معه فماذا يُريدُ؟.
اقرؤوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِبَرْ | ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَبَرْ |
باركَ اللهُ لنا بالقرآنِ العظيمِ، ونفعَنا بما فيه من الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ.
اللهم ارفعْنا بالقرآنِ الكريمِ واجعلنا لكتابِك من المُتدَبِّرينَ، ولآياتِه من التَّالينَ، ولأحكامِه من العاملينَ، واغفرْ لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمينَ الأحياءِ منهم والميِّتينَ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي كَتبَ العِزَّةَ والغَلَبةَ والظُهورَ لجُندِ الحقِّ إلى يومِ الدينِ، أحمدُه سبحانه يُؤيِّدُ المؤمنينَ الصادقينَ الصابرينَ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه رفعَ لواءَ الحقِّ المبينِ، اللهم صلِّ وسلمْ على عبدِك ورسولِك سيِّدِنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبِه والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد:
فما أعظمَه من مشهدٍ: (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) [البقرة: 250].
تلك اللَّحظاتُ الحاسماتُ، من فئةٍ مُؤمنةٍ بربِّ الأرضِ والسماواتِ، تجاوزتْ جميعَ الابتلاءاتِ، ورفَعَتْ أَكُفَّ الضَّراعةِ بخالِصِ الدَّعواتِ: (قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 250].
وتأمل قولَهم: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)[البقرة: 250].
أي صُبَّه علينا كُلَّه ولا تُبقي منه شيئاً.
وهذا الموقفُ يُذَكِّرُنا بمَوقفٍ تاريخيٍّ عَظيمٍ؛ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ".
فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ؟
فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال: 9].
ولما تَوَفَّرَتْ وسائلُ النَصْرِ والتمكينِ؛ من استشارةِ أهلِ العلمِ والدِّينِ، والتسليمِ لمن اصطفاهُ ربُّ العالمينَ، وإعدادِ المُستطاعِ من القُوَّةِ للمؤمنينَ، وتصفيَّةِ الصَّفِّ من ضِعافِ النُفوسِ والمنافقينَ، وامتلاءِ القلوبِ بالصَّبرِ واليَقينِ، والاستغاثةِ باللهِ -تعالى- ذِي القُوَّةِ الْمَتِينِ؛ عندَها ستكونُ النتيجةُ الحتميَّةُ: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 249].
وتحقَّقَ قولُ الطائفةِ المؤمنةِ: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ)[البقرة: 249].
فلا نصرَ إلا بإذنِه -تعالى- إذا وُجِدت الشُروطُ.
ويَسَّرَ اللهُ -تعالى- في المعركةِ أَمْراً لإظهارِ عَبداً من عِبادِه الأخفياءِ، وجُنديَّاً من جنودِه الأوفياءِ: (وَقَتَلَ دَاوُودُ)[البقرة: 251].
فأصبحَ بعدَ ذلك نبيَّاً من الأنبياءِ -عليهم الصلاةُ والسلامُ-: (وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)[البقرة: 251].
وبلغَ بنو إسرائيلَ في عهدِ داودَ وسليمانَ أَوْجَ العِزِّ والتَمكينِ.
وهكذا يهيئ اللهُ -تعالى- للمسلمينَ بعدَ كلِّ بلاءٍ؛ من يرفعُ عنها الظُّلمَ، ويُعيدُ لها السَناءَ: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة: 251].
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدِّينِ، ودمِّر أعداءَ الدِّينِ، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدينَ، وألِّفْ بينَ قلوبِ المسلمينَ، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا ربَّ العالمينَ.
اللهم انصُر دينكَ وكتابكَ، وسُنَّةَ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنينَ المُجاهِدينَ الصادقينَ.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمورِ كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرةِ.