العربية
المؤلف | أمير بن محمد المدري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
أيها المسلمون: نحتاج إلى الرجال الذين يثبتون وسط الأزمات التي تعصف بالمسلمين، الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيران، نحتاج إلى رجال يبصّرون الناس بالدين، إلى رجال يكونون قدوة للناس، إلى رجال يُثبِّتُون الناس على...
الحمد لله مُستحقِ الحمد بلا انقطاع، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يستطاع، الوهاب المنان، الرحيم الرحمن، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان، الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميل العوائد، الجزيل الفوائد، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الوافي عهده، الصادق وعده، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّد بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة؛ صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه وأحزابه، صلاة تشرق إشراق البدور.
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والعلن، وتمسّكوا بما شرع الله لكم من الدين القويم.
واعلموا أن طاعة الله فيها السلامة والنجاة، وفيها الرفعة والعزة؛ وإياكم والمعاصي! فإنها توجب أليم العقاب، ووبيل العذاب.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].
سنقف وإياكم مع الرجال والرجولة.
نتكلم عن الرجال والرجولة في زمنٍ فقدت الأمة أخلاق الرجولة، وصرنا نرى أشباه الرجال ولا رجال، غثاءً كغثاء السيل. أو كما قال الشاعر:
يُثْقِلُونَ الأَرْضَ مِن كَثْرَتِهِمْ | ثم لا يُغنُونَ في أمرٍ جَلَلْ |
نتكلم عن الرجال والرجولة في زمنٍ صدق فينا قول القائل: "يا له من دين لو كان معه رجال!".
نتكلم عن الرجال والرجولة، والأمة اليوم بحاجة إلى رجال يحملون الدين، وهمّ الدين، ويسعون جادّين لخدمة دينهم وأوطانهم، شعارهم قوله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
عباد الله: اختلف الناس في تفسير معنى الرجولة، فمنهم من يفسرها بالقوة والشجاعة، ومنهم من يفسرها بالزعامة والقيادة والحزم، ومنهم يفسر الرجولة بالكرم وتضييف الضيوف، ومنهم يقيسها بمدى تحصيل المال والاشتغال بجمعه، ومنهم من يظنها حمية وعصبيةً جهلاء، ومنهم من يفسرها ببذل الجاه والشفاعة وتخليص مهام الناس بأي الطرق كانت...
لكن الرجولة بمفهومها الصحيح ومعناها الحقيقي هو ما ذكره الله -تبارك وتعالى- في ثنايا كتابه الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42].
عباد الله: لا بد أن نعلم أن هناك فرقاً بين الرجل والذكر، فكل رجل ذكر، وليس كل ذكر رجلاً، ما أكثر الذكور! لكن الرجال منهم قليل.
ولقد جاءت كلمة "ذكر" في القرآن الكريم غالباً في المواطن الدنيوية التي يجتمع فيها الجميع، مثل الخَلق وتوزيع الإرث وما أشبه ذلك، أما كلمة رجل فتأتي في المواطن الخاصة التي يحبها الله -تعالى-، ولذلك كان رسل الله إلى الناس كلهم رجالاً، قال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا) [يوسف:109].
عباد الله: الرجولة هي تحمُّلُ المسؤولية في الذب عن التوحيد، والنصح في الله، والدفاع عن أولياء الله، قال الله -تعالى-: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [القصص:20].
ما الذي جعله يأتي من أقاصي المدينة؟ وما جاء يمشي؛ بل جاء يسعى! لماذا؟ دفاعاً عن أولياء الله والدعاة إلى الله، إنها الرجولة الحقة بكل معانيها.
الرجولة قوةٌ في القول، وصدعٌ بالحق، كلمة حق عند سلطان جائر، قال الله -تعالى-: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) [غافر:28].
الرجولة صمودٌ أمام الملهيات، واستعلاء على المغريات؛ حذراً من يوم عصيب يشيب فيه الولدان، وتتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، قال الله -تعالى-: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور:37].
الرجولة رأيٌ سديد، وكلمة طيبة، ومروءةٌ وشهامةٌ، وتعاون وتضامن.
الرجولة: ليست هي تطويل الشوارب ورفع الصوت والصياح، وليست عرضاً للقوة والعضلات.
عباد الله: إن الرجال لن يتربوا إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والأخلاق الحسنة؛ الرجال لن يتربوا إلا في ظلال بيوت الله، في ظلال القرآن والسنة النبوية.
الرجال هم الذين يَصدُقون في عهودهم، ويوفون بوعودهم، ويثبتون على الطريق، قال الله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23].
الرجالُ لا يُقاسون بضخامة أجسادهم، وبهاء صورهم، وقوة أجسامهم؛ فعن علي بن أبي طالب قال: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ابن مسعود، فصعد على شجرةٍ، أمره أن يأتيه منها بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله بن مسعود حين صعد الشجرة، فضحكوا من دقة ساقيه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتعجبون من دقّة ساقيه؟! إنّهما أثقل في الميزان من جبل أحد" رواه أحمد وصححه ابن حبان.
الرجال هم الذين يعلمون علم اليقين أن حال الأمة لا يمكن تغييره إلا بصلاح الأفراد وإيجاد الرجال، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].
عباد الله: عند الأزمات تشتد الحاجة لوجود الرجال الحقيقيين، عند الفتن نحتاج إلى رجال يثبتون على الحق ويدافعون عن الحق ولا يخافون في الله لومة لائم؛ يقول الله -تعالى-: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23].
حاصر خالد بن الوليد "الحيرة" فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي، وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لَصَوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل!.
ولما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه: "أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألفٍ رجلٌ منهم مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد".
عباد الله: إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأعظم ما يقوم عليه منهج تعليمي، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة، ومسجد ومدرسة، هو صناعة هذه الرجولة، وتربية هذا الطراز من الرجال.
أيها المسلمون: نحتاج إلى الرجال الذين يثبتون وسط الأزمات التي تعصف بالمسلمين، الأزمات والفتن التي تجعل الحليم حيران، نحتاج إلى رجال يبصّرون الناس بالدين، إلى رجال يكونون قدوة للناس، إلى رجال يُثبِّتُون الناس على شرع الله.
في دار من دور المدينة المباركة جلس عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر -رضي الله عنه-: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين! فقال عمر: ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
رحم الله عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة؛ إنهم الرجال أقوياء الإيمان، أقوياء العزائم، فهم أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم.
عباد الله: بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين، فاستغفروه؛ انه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، نحمده -تعالى- ونشكره، ونثني عليه الخير كله.
وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، صلوات الله عليه وسلامه وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: ميزان الرجال في شريعة الإسلام ليس المال وليس الجاه وليس المنصب، إنما الأعمال الفاضلة، والأخلاق الحسنة، والإيمان القوي.
مرّ رجلٌ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تقولون في هذا؟"، قالوا: هذا حريٌ إن خَطَب أن يُنْكح، وإن شَفَع أن يُشَفّع، وإن قال أن يُسْتمع له. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: "ما تقولون في هذا؟"، قالوا: هذا حريٌ إن خَطَب أن لا يُنْكح، وإن شَفَع أن لا يُشَفّع، وإن قال أن لا يُسْتمع له، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذا" رواه البخاري.
الرجولة تتجلى في محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي علَّم الرجال، وربّى الرجال، وهو الذي قال: "والله! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركتُه، حتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أو أهلك فيه".
عباد الله: دعونا وإياكم نبحر ونغوص في كتاب الله -عز وجل- لنرى الرجولة في القرآن الكريم.
لقد ذكر الله الرجولة في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعًا.
أول صفة من صفات الرجال وعلامة من علامات الرجولة في القرآن الطهارة بشقيها الظاهرة والباطنة، قال -تعالى-: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة:108].
قول الله -تعالى-: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ): أُسس على التقوى، أُسس على التوحيد، أسس على العقيدة الصحيحة لوجه الله، (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ): أحق أن تقوم فيه يا محمد من مسجد الضرار الذي بناه المنافقون.
ما هي صفاته الأخرى؟ ما هي أهم صفة من صفاته؟ (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ). أين مكان أولئك الرجال؟! أين مكانهم؟! هل هم في الأندية أو في الحفلات؟! هل هم في الأسواق يمرحون ويسرحون؟! هل هم في المجتمعات الفارغة التي تُفْرِغ الرجولة من معانيها؟! كلا أيها المسلمون! (فِيهِ رِجَالٌ)، في هذا المسجد رجال.
(رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا): يأتون إلى المسجد على طهارة، والله يحب هؤلاء الرجال الذين من صفتهم الطهارة ظاهراً بالنظافة والنقاء والمحافظة على الوضوء، والطهارة الباطنة من أدران المعاصي والحقد والحسد والبغضاء. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
فلنكن -عباد الله- طاهرين في أقوالنا وأفعالنا.
الصفة الثانية من صفات الرجولة في القرآن: الصدق مع الله والثبات على المنهج الرباني: فمن صفات الرجال أنهم يثبتون على المنهج الرباني الذي أنزله الله -عز وجل-، قال الله -عز وجل- مادحاً صنفاً من أصناف الرجال: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب:23]، عاهدوا الله ثم صدقوا في الوعد، صدقوا ما عاهدوا الله على هذا المنهج، استمروا عليه، تشبثوا به، وساروا غير مضطربين ولا متحيرين، لا تعيقهم العوائق، ولا تقف أمامهم الصعوبات ولا الشهوات، ولا الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام.
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) [الأحزاب:23] ومات على هذا المنهج شهيداً عاملاً لمنهج الله -عز وجل-.
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) [الأحزاب:23] ينتظر أن يتوفاه الله على حسن الختام؛ ليموت على هذا المنهاج غير مغيّر ولا مبدل.
قال الله -عز وجل-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23] ما بدلوا ولا غيروا ولا انحرفوا، بل هم مستقيمون على هذا المنهاج، ينتظرون أمر الله -تعالى- أن يتوفاهم وهم سائرون على هذا الدرب، مستقيمون عليه، لا يلوُون على شيء إلا مرضاة ربهم -عز وجل-.
فاللهَ اللهَ في الصدق معه! فإنه بقدر صدقك يمنحك الله الثبات في الأقوال والأفعال والتصرفات، ويحرسك بعين رعايته.
جاء رجل من الأعراب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فآمن به واتبعه ثم قال: أُهاجر معك، فأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه أن يعلموه، فالذي أسلم حديثاً يلتقي بالقديم، الجديد مع القديم يأخذ معه ويتربى عنه، هناك تعليم واهتمام بالأفراد، فقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يهتم بأصحابه.
فلما كانت غزوةٌ، غنم النبي -صلى الله عليه وسلم- سبياً، فقسم وقسم له -لهذا الأعرابي، أعطى أصحابه ما قسم له، يعني: أمرهم أن يوصلوا نصيبه إليه- فجاؤوا به إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخذه وجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له: ما هذا؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "قسمتُه لك"، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى بسهم هاهنا -وأشار إلى حلقه- فأموت وأدخل الجنة -لا غنائم، ولا أموال- فقال: "إن تصدق الله؛ يصدقك".
فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل وقد أصابه سهمٌ حيث أشار، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أهو هو؟" قالوا: نعم. قال -صلى الله عليه وسلم-: "صدق الله فصدقه".
ثم كفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته، ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: "اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيدٌ على ذلك" رواه النسائي وهو حديث صحيح.
قال -صلى الله عليه وسلم-:"من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه" رواه مسلم.
حج عمر -رضي الله عنه وأرضاه- في آخر حياته، وقف في الأبطح ورفع يديه، وقال: "اللهم انتشرت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك غير مفرطٍ ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتة في بلد رسولك -صلى الله عليه وسلم- "، فقال له الصحابة: يا أمير المؤمنين! إن من يطلب الشهادة يخرج إلى الثغور، فقال: "هكذا سألت، وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت".
فلمّا وصل إلى المدينة طُعن في صلاة الفجر، وفي أحسن وقت، وفي أجلّ مقام، وفي أحسن مكان، طُعن بعدما صلَّى الركعة الأولى ودخل في الثانية، بيدٍ غادرة فاجرة، فوقع يقول: "حسبي الله! لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم"، وعلم أنها الشهادة التي سألها -رضي الله عنه- وأرضاه.
فلما وضع في بيته، وضعوا رأسه على وسادة، فقال لابنه: "انزع الوسادة من تحت رأسي وضع رأسي على التراب، علَّ الله أن يرحمني".
اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها.
هذا وصلوا - عباد الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.