البحث

عبارات مقترحة:

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

نار الآخرة (5) أبدية العذاب وشدته

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
  1. ذكر النار ينغص حياة المؤمن .
  2. الإنذار الشديد من عذاب النار .
  3. ملازمة عذاب النار للمخلدين فيها .
  4. لا أمل في خروج أهل النار منها .
  5. سؤال أهل النار تخفيف العذاب ولو يومًا .
  6. وصف حرارة النار وسمومها .
  7. لا نجاة إلا بالإيمان الصحيح .
  8. تمني أهل النار الموت ولا يجدونه .

اقتباس

إذا تذكر المؤمن النار تنغص عيشه في الدنيا، وهانت في نفسه ملذاتها، ورثى طلابها، وشمر عن سواعد الجد بالإيمان والعمل للنجاة في الدار الآخرة. ومن رحمة الله تعالى بنا أنه أنذرنا النار، ووصفها لنا، وعلمنا أسباب النجاة منها (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وخافها الملائكة لعلمهم بها، عَنْ ابن عمر رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه السلام:"مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ؟ قَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ"صححه الحاكم.

الخطبة الأولى:

الحَمْدُ للهِ العَلِيمِ الحَكِيمِ، الغَفُورِ الرَّحِيمِ؛ بِرَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِلْإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبِحِكْمَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ مَنْ كَتَبَ عَلَيْهِ العَذَابَ الخَالِدَ الدَّائِمَ.

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الجَنَّةَ نَعِيمًا لِأَوْلِيَائِهِ، وَخَلَقَ النَّارَ عَذَابًا لِأَعْدَائِهِ، فَاحْتَجَّتِ الدَّارَانِ فَقَضَى سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا، "فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ، فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ".

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أُرِيَ الجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَخَافَ النَّارَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ، لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا"، قَالُوا: مَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: "رَأَيْتُ الجَنَّةَ وَالنَّارَ"، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ رَاحِلٌ، وَمَنْ طَلَبَهُ المَوْتُ وَجَدَهُ، وَالنَّاسُ -كُلُّ النَّاسِ- مَسَاكِينُ، يَأْكُلُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَيَنْتَظِرُونَ آجَالَهُمْ، فَلاَ يَمْلِكُونَ رِزْقًا، وَلاَ يَدْفَعُونَ مَوْتًا، نَوَاصِيهِمْ لَيْسَتْ بِأَيْدِيهِمْ، وَلاَ يَعْلَمُونَ سَاعَةَ احْتِضَارِهِمْ: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8].

أَيُّهَا النَّاسُ: إِذَا تَذَكَّرَ المُؤْمِنُ النَّارَ تَنَغَّصَ عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا، وَهَانَتْ فِي نَفْسِهِ مَلَذَّاتُهَا، وَرَثَى طُلاَّبُهَا، وَشَمَّرَ عَنْ سَوَاعِدِ الجِدِّ بِالإيمَانِ وَالعَمَلِ لِلنَّجَاةِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.

وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِنَا أَنَّهُ أَنْذَرَنَا النَّارَ، وَوَصَفَهَا لَنَا، وَعَلَّمَنَا أَسْبَابَ النَّجَاةِ مِنْهَا: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل: 14- 16].

وَخَافَهَا المَلائِكَةُ لِعِلْمِهِمْ بِهَا؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: "مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ؟! قَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ". صَحَّحَهُ الحَاكِمُ.

وَأَكْثَرَ القَوْلَ فِيهَا رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم-؛ نُصْحًا لَنَا، وَشَفَقَةً عَلَيْنَا، وَرَحْمَةً بِنَا، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النَّارَحَتَّى لَوْ كَانَ رَجُلٌ كَانَ فِي أَقْصَى السُّوقِ سَمِعَهُ، وَسَمِعَ أَهْلُ السُّوقِ صَوْتَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ". وَفِي رِوَايَةٍ: "حَتَّى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَهَذَا الإِنْذَارُ الشَّدِيدُ إِنَّمَا كَانَ لِشِدَّةِ عَذَابِهَا وَدَيْمُومَتِهَا؛ فَإِنَّ مَنِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ خَالِدًا فِيهَا لاَ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلاَ يَهْلِكُ فِيهَا، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُ عَذَابُهَا؛ فَعَذَابُهَا مُتَجَدِّدٌ مُنَوَّعٌ، يَزْدَادُ وَلاَ يَنْقُصُ، وَجُلُودُ المُعَذَّبِينَ فِيهَا كُلَّمَا نَضِجَتْ بُدِّلَتْ، وَالعِلْمُ بِالخُلُودِ فِي العَذَابِ أَشَدُّ مِنَ العَذَابِ؛ فَإِنَّ المُعَذَّبَ إِذَا رَجَا خَلاصًا مِنْ عَذَابِهِ تَحَمَّلَ العَذَابَ لِمَا يَرْجُو مِنَ النَّجَاةِ، وَالنَّارُ لاَ يَحْتَمِلُ عَذَابَهَا أَحَدٌ، فَكَيْفَ بِالخُلُودِ فِيهَا، أَجَارَنَا اللهُ تَعَالَى وَوَالِدِينَا وَآلَنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنْهَا.

إِنَّ عَذَابَ النَّارِ عَذَابٌ مُلازِمٌ لِلْمُخَلَّدِينَ فِيهَا، فَلاَ يُفَارِقُونَ النَّارَ وَلاَ تُفَارِقُهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) [الفرقان: 65]، أَيْ: مُلِحًّا دَائِمًا، لَازِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ، مَنْ عُذِّبَ بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْغَرِيمُ لِطَلَبِهِ حَقَّهُ وَإِلْحَاحِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ. قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "كُلُّ غَرِيمٍ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ إِلَّا جَهَنَّمَ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) [الفرقان: 77]؛ أَيْ: عَذَابًا يَلْزَمُكُمْ لُزُومَ الغَرِيمِ غَرِيمَهُ.

وَأَمَّا خُرُوجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَقَدِ اسْتَوْجَبُوا الخُلُودَ فِيهَا بِالكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَلاَ يَكُونُ أَبَدًا، بَلْ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا، لاَ يَرْجُونَ عَنْهَا حِوَلاً، أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِقَامَتِهِمُ الدَّائِمَةِ فِي النَّارِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ القُرْآنِ: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّار وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [المائدة: 37]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [التوبة: 68]، وَلَمَّا سَخِرَ قَوْمُ نُوحٍ مِنْهُ أَنْذَرَهُمُ العَذَابَ المُقِيمَ، فَقَالَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [هود: 39]، وأُمِرَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُنْذِرَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ بِمَا أَنْذَرَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- قَوْمَهُ.

فَلاَ أَمَلَ لَهُمْ فِي الخُرُوجِ وَلاَ الاسْتِعْتَابِ: (فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [الجاثية: 35]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج: 22].

قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَاللَّهِ مَا طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ، إِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَلَكِنْ يَرْفَعُهُمْ لَهَبُهَا، وَتَرُدُّهُمْ مَقَامِعُهَا".

وَالإِقَامَةُ الدَّائِمَةُ فِي العَذَابِ هِيَ أَعْظَمُ الخُسْرَانِ؛ لِأَنَّهُ لاَ نَجَاةَ بَعْدَهَا أَلْبَتَّةَ، فَمَنْ يُورِدُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ هَذَا المَوْرِدَ المُهْلِكَ؟! (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ) [الشورى: 45]، وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ أَكْثَرَ البَشَرِ خَاسِرُونَ، وَلَوْ رَأَيْنَا الدُّنْيَا تَتَّسِعُ لَهُمْ، وَالمَالَ يَتَدَفَّقُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ فِي أَحْسَنِ أَحْوَالِهِمْ، وَلاَ يَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا إِلاَّ مَغْرُورٌ.

وَحِينَ أَيِسَ أَهْلُ النَّارِ مِنَ انْقِطَاعِ العَذَابِ أَوْ تَوَقُّفِهِ، وَحِينَ انْقَطَعَ أَمَلُهُمْ فِي الخُرُوجِ مِنَ النَّارِ رَجَوْا تَخْفِيفَ العَذَابِ، لاَ يَطْمَعُونَ فِي انْتِهَاءِ العَذَابِ، وَلَكِنْ فِي تَخْفِيفِهِ، تَقَاصَرَتْ هِمَّتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ عَذَابِهِمْ وَإِحْبَاطِهِمْ وَيَأْسِهِمْ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمُ العَذَابُ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْجَبُوهُ: (فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَاب وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة: 86]، (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَاب وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) [البقرة: 162].

ثُمَّ تَقَاصَرَتْ هِمَّتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَّلُوا فِي تَخْفِيفِ العَذَابِ يَوْمًا وَاحِدًا فَقَطْ، وَلَنْ يَنَالُوهُ، سَأَلُوا خَزَنَةَ جَهَنَّمَ دُعَاءَ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ العَذَاب)، فَيُجِيبُونَهُمْ بِمَا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا وَيَأْسًا وَقُنُوطًا: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلَالٍ) [غافر: 50].

وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ مَلِيًّا، فَيَنْظُرَ فِي طَلَبِ أَهْلِ النَّارِ وَبِمَ يُجَابُونَ، لَمْ يُعْطَوْا يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ تَخْفِيفِ العَذَابِ، وَمَا يُغْنِي يَوْمٌ وَاحِدٌ فِي خُلُودٍ أَبَدِيٍّ فِي عَذَابٍ لاَ يَنْتَهِي وَلاَ يُخَفَّفُ؟! وَلَكِنَّهَا النَّفْسُ المُعَذَّبَةُ تَأْمُلُ فِي أَيِّ تَخْفِيفٍ وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً، فَلِمَاذَا لاَ نَتَّعِظُ فَنُجَانِبُ أَسْبَابَ العَذَابِ، وَنَسْعَى فِي تَقْوِيَةِ الإِيمَانِ، بِالعَمَلِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ؟! فَإِنَّ النَّارَ أَمْرُهَا عَظِيمٌ، وَإِنَّ عَذَابَهَا أَلِيمٌ شَدِيدٌ.

يَرَى أَهْلُ النَّارِ قُرَنَاءَهُمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا يُعَذَّبُونَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَجْنُوا مِنَ اتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ إِلاَّ وَبَالاً عَلَى وَبَالِهِمْ، فَيَدْعُونَ عَلَيْهِمْ بِمُضَاعَفَةِ العَذَابِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ السَّبَبُ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّقَاءِ، وَلَنْ يُغْنِيَ تَابِعٌ عَنْ مَتْبُوعٍ، وَلاَ مَتْبُوعٌ عَنْ تَابِعٍ شَيْئًا: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 38].

وَحَرَارَةُ النَّارِ تَرْتَفِعُ وَلاَ تَنْزِلُ، وَعَذَابُ أَهْلِهَا يَزْدَادُ وَلاَ يَنْقُصُ، وَأَجْسَادُ المُعَذَّبِينَ لاَ تَأْلَفُ العَذَابَ مَعَ طُولِ الأَمَدِ، بَلْ يَتَجَدَّدُ العَذَابُ لِيَزْدَادَ الأَلَمُ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَاب بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل: 88]، (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا) [النبأ: 30]، (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء: 97]، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ الْكَفَرَةَ وَقُودٌ لِلنَّارِ، فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ زَالَ اللَّهَبُ الَّذِي كَانَ مُتَصَاعِدًا مِنْ أَجْسَامِهِمْ، فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُعَادُوا كَمَا كَانُوا فَيَعُودَ الِالْتِهَابُ لَهُمْ. فَالْخَبْوُ وَازْدِيَادُ الِاشْتِعَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ لاَ فِي أَصْلِ نَارِ جَهَنَّمَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا المَعْنَى قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَاب) [النساء: 56].

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، اللَّهُمَّ أَجِرْنَا وَوَالِدِينَا وَأَهْلَنَا وَأَحْبَابَنَا مِنَ النَّارِ، اللَّهُمَّ أَجِرْنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 191 - 194].

وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ فَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَالأُولَى، وَنَسْتَغْفِرُهُ لِذُنُوبِنَا فَمَنْ يَغْفِرُ الذَّنُوبَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوُه: (وَاتَّقُوا النَّار الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 131، 132].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنْ عَدْلِ اللهِ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لاَ يُحَابِي أَحَدًا فِي نِعِيمِهِ وَعَذَابِهِ، بَلْ يَجِدُ كُلُّ عَبَدٍ ثَمَرَةَ سَعْيِهِ، وَيُجْزَى بِعَمَلِهِ، وَلَمَّا قَالَتِ اليَهُودُ: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّار إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً)، كَانَ جَوَابُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 80 - 81].

وَهِيَ فِرْيَةٌ افْتَرَاهَا اليَهُودُ وَصَدَّقُوهَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي زَمَنِهِمُ الأَوَّلِ أُمَّةً ذَاتَ عِلْمٍ وَكِتَابٍ فِي أُمَمٍ مِنَ الجَهْلِ، فَزَعَمُوا مَا زَعَمُوا، وَافْتَرَوْا مَا افْتَرَوْا، ثُمَّ اغَتْرُّوا وَصَدَّقُوا مَا افْتَرَوْا: (قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّار إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [آل عمران: 24]، وَلَا نَجَاةَ إِلاَّ بِالإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَالعَمَلِ الصَّالِحِ الرَّشِيدِ.

إِنَّ المَوْتَ هُوَ أَكْثَرُ شَيْءٍ يَفِرُّ مِنْهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَتَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ شِدَّةِ العَذَابِ، وَيَا لَهُ مِنْ عَذَابٍ حِينَ يَكُونُ المَوْتُ أُمْنِيَةَ المُعَذَّبِينَ، فَلاَ يُجَابُونَ، وَلَا يَتَحَقَّقُ لَهُمْ مَا يَتَمَنَّوْنَ: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف: 77]، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر: 36].

وَآلاَمُ المَوْتِ تُصِيبُهُمْ فِي النَّارِ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَمُوتُونَ، وَلاَ تُفَارِقُ أَرْوَاحُهُمْ أَجْسَادَهُمْ، فَحَصَّلُوا عَذَابَ المَوْتِ وَلَمْ يُحَصِّلُوا الَمَوْتَ: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانَ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم: 17]، وَالمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْتِيهِ مِثْلُ شِدَّةِ المَوْتِ وَأَلَمِهِ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ، حَتَّى شَعْرُهُ وَظُفْرُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لاَ تَخْرُجُ نَفْسُهُ فَيَسْتَرِيحُ، وَكَيْفَ يَمُوتُ وَهُوَ مَوْعُودٌ بِالخُلُود فِي العَذَابِ؟! (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) [طه: 74]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (يَصْلَى النَّار الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) [الأعلى: 12 - 13].

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا صَارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إِلَى الجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ: لاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ: لاَ مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

فَاحْذَرُوا النَّارَ وَحَذِّرُوا مِنْهَا، احْذَرُوا أَسْبَابَهَا، وَاعْمَلُوا بِمَا يُنَجِّي مِنْهَا، فَإِنَّ الجَاهَ يَزُولُ، وَإِنَّ المَالَ يَبُورُ، وَإِنَّ مُتَعَ الدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا لاَ تَبْقَى، وَلاَ يَبْقَى لَنَا إِلاَّ مَا أَوْدَعْنَا فِي صَحَائِفِنَا، فَلْنُودِعْ فِيهَا مَا يَسُرُّنَا أَنْ نَجِدَهُ أَمَامَنَا، وَلْنَحْذَرْ مِنْ تَسْوِيدِهَا بِمَا يُوبِقُنَا وَيُهْلِكُنَا.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف: 74 - 76]

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...