الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | عبد الحليم توميات |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزهد - الحياة الآخرة |
رسالة إلى كلّ من يؤرّقهم اليوم الّذي سنلقى فيه الله العزيز الوهّاب. رسالة إلى كلّ من يخشوْنَ ربّهم ويخافون سوء الحساب. رسالة إلى كلّ من يتحسّر ويتألّم إذا تذكّر: أنّه سيأتي عليه اليوم الّذي يُوَارَى فيه التّراب. رسالة إلى كلّ من يَعلم أنّ انقطاع أجلِه يعني انقطاعَ عملِه، وانتهاءَ حلمِه وأملِه. رسالة إلى كلّ من يتفطّر قلبه، ويطيش لبّه، إذا تذكّر أنّ...
الخطبة الأولى:
بعد الخطبة والثّناء.
فموضوع خطبتنا اليوم -إن شاء الله تعالى- عبارة عنه رسالة.
رسالة إلى كلّ من يؤرّقهم اليوم الّذي سنلقى فيه الله العزيز الوهّاب.
رسالة إلى كلّ من يخشوْنَ ربّهم ويخافون سوء الحساب.
رسالة إلى كلّ من يتحسّر ويتألّم إذا تذكّر: أنّه سيأتي عليه اليوم الّذي يُوَارَى فيه التّراب.
رسالة إلى كلّ من يَعلم أنّ انقطاع أجلِه يعني انقطاعَ عملِه، وانتهاءَ حلمِه وأملِه.
رسالة إلى كلّ من يتفطّر قلبه، ويطيش لبّه، إذا تذكّر أنّ بعد الموت حساب ولا عمل.
رسالة إلى كلّ من يبكي كما بكى يزيد الرّقاشي -رحمه الله- وهو يقول: "يا يزيد، من يُصلِّي عنك بعد الموت! يا يزيد من يصوم عنك بعد الموت!".
رسالة إلى كلّ من اضطرب فؤاده، ورحل عنه رقاده، إذا علم أنّه لن يمكِنَه أن يُحصّل حسنة واحدة بعد الموت، وتذكّر أنّ الحسرة بعد الفوت.
أمّا غير هؤلاء، فلا كلام لنا معهم ولا نداء، ومن كان قلبه أقسى من الصّخور والجليد، فليسمع قول المولى العزيز المجيد: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:22].
والرّسالة الّتي سأتلو نصّها عليك، وأزفّ شرحها إليكم، يرسلها إليكم محمّد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فحريّ بنا أن نسمعها، ونقف وقفتين معها:
الأولى: وقفة مع أحوال النّاس بعد الموت.
الثّانية: وقفة مع نصّ الرّسالة.
ونسأل الله الّذي بيده مقاليد السّموات والأرض، والّذي قلوب عباده بين أصبعين من أصابعه، أن يشرح صدورنا، وينوّر قلوبنا، وأن يجعلنا ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
أوّلا: وقفة مع أحوال النّاس بعد الموت.
فاعلموا أنّ النّاس سينقسمون بعد الموت أصنافا ثلاثة:
صنف، يُختم له على عمله، فلا تصله حسناتٌ ولا سيّئاتٌ بعد انقضاء أجله: (وَآخِرِينَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التّوبة:102]، يفاجأ حينها بالحقيقة الكبرى: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النّور: 39].
الحقيقة الكبرى أنّ موعد المسابقة قد انقضى، اللّسان يخرس عن ذكر الله، والأطراف تشلّ عن العمل في طاعة الله، ولا يبقى له إلاّ رحمة الله لا إله سواه -نسأل الله أن يعملنا بفضله ولطفه- ينتظر دعوةً صالحة تصله من عالم الأحياء، كما ينتظر البؤساء عطاء الأغنياء، روى البخاري عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عَنه- قال: "ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ"، وروى الطّبرانيّ في الأوسط عن أبي هريرة -رضي الله عَنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مرّ بقبر، فقال: "مَنْ صَاحِبُ هَذَا القَبْرِ؟" فَقَالُوا: فُلاَنٌ، فَقَالَ: "رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ".
حتّى لو كان من الصدّيقين، والتّقاة العاملين، وأراد أن يقوم ليصلّي لربّ العالمين، ما سُمح له بذلك، فقد أغلق باب العمل وانقضى، وحان وقت السّؤال والحساب عمّا مضى؛ روى ابن ماجة وحسّنه الشّيخ الألباني -رحمه الله- عن جابرٍ -رضي الله عَنه- عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "إِذَا دَخَلَ الْمَيِّتُ الْقَبْرَ مُثِّلَتْ الشَّمْسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا، فَيَقُولُ: دَعُونِي أُصَلِّي" لكنّه لا صلاة، اليوم يُصلَّى عليك ولا تصلِّي، اليوم يُدعَى لك ولا تدعو.
وصنف -أعاذنا الله من حالهم- هم الّذين لم يكتفُوا بأن أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي والموبقات، ووقعوا في حبائل الشّهوات والسيّئات، لم يكتفوا بذلك، ولكنّهم فتحوا على أنفسهم بابا للمهالك، لقد رحلوا من هذه الحياة، فانقطعت عنهم الحسنات، وبقيت تصل إلى حسابهم السيّئات، لماذا؟
إمّا لكونهم كانوا من الدّاعين إلى الباطل والفجور، أو يعينون على اللّهو واللّغو والثّبور، أو ماتوا وقد تركوا خلفهم ما يستعمل في معصية العزيز الغفور، قال تعالى: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) [النّحل: 25] سبحان الله! الّذي قال وكرّر قوله مرّات ومرّات في كتابه: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، وقال: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) [فاطر: 18]، يستثني هنا، ويقول: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)؛ ذلك لأنّ سنّة الله جرت على أصل أنّ من دلّ على هدى فله مثل أجر فاعله، كذلك من دلّ على غيّ وضلال، له مثل وزر فاعله، روى مسلم عن جريرِ بنِ عبدِ اللهِ -رضي الله عَنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ"؛ لذلك قال تعالى عن ابن آدم القاتل: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة: 32]، روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضي الله عَنه- قال: قال النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ أَوَّلًا"، ويبقى الإثم يصله إلى قبره حتّى تزول تلك المعصية الّتي سنّها ودعا إليها وأعان عليها، روى الطّبراني عن واثِلَةَ -رضي الله عَنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ إِثْمُهَا حَتَّى تُتْرَكَ".
ألا فلينظر كلّ منّا إلى عمله، وما سيخلّفه بعد انقضاء أجله، انظر إلى الأفكار الّتي تنشرها في أهلك وولدك وأصحابك، انظر إلى وسائل الفساد الّتي أدخلتها إلى بيتك، إن لم يمنّ الله عليهم بالهداية بعدك فحطّموها ونبذوها، فإنّ إثمها لن يفارقك: (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحجّ: 11].
وصنف من النّاس، هم العاملون الأكياس، أكثروا من الصّالحات، وكانوا من السّابقين بالخيرات، فاجتهدوا في مضاعفة الأجر والثّواب، وطرقوا للخير كلّ باب، وما وقفوا عند ذلك، بل سلكوا أعظم وأفضل المسالك، فكانوا يجتهدون في كلّ عمل يفتح لهم حسابا جاريا لا في البنوك، ولكن وهم بين أطباق الثّرى وجنبات اللّحود: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السّجدة: 17].
من أحبّ أن يكون من أمثال هؤلاء الّذين ينعمون في القبر بنوم كنوم العروس، وتصل إلى حسابهم الكنوز الّتي تُسرّ لها النّفوس، هو في قبره متوسّد التّراب، ويصل إليه الأجر والثّواب: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافّات: 61]، من أحبّ أن يكون من هؤلاء الأغنياء، فليستمع إلى رسالة ووصيّة سيّد الأنبياء -صلّى الله عليه وسلّم-.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله، الحمد لله الّذي جعل من كلّ ضيق مخرجا، وجعل لكلّ همّ وغمّ فرجا، وأشهد أن لا إليه إلا إلاّ الله، وحده لا شريك له، له ملك السّموات والأرض ما خرج منها وما ولجا، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وصفيّه وخليله، دعانا إلى البيضاء لا ترى فيها عوجا، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وبارك وزد، وعلى آله الطّاهرين، وأصحابه الطيّبين، من جعلهم الله مصابيح وسرجا.
أمّا بعد:
نصَّ الوصيّة، فقد روى مسلم عن أبي هريرةَ -رضي الله عَنه- أنّ رسول اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".
ثلاثة أصناف من النّاس، يبقى عملهم ماضيا، وربّهم عنهم راضيا.
ثلاثة أصناف من النّاس، يتوسدّون التّراب، ويتضاعف لهم الأجر والثّواب.
ثلاثة أصناف من النّاس، لم يكتفوا بالعمل حال الحياة، بل ظلّوا يعملون بعد الممات.
ثلاثة أصناف من النّاس:
أوّلهم: صاحب الصّدقة الجارية. ثانيهم: معلّم النّاس الخير. ثالثهم: من ترك ولدا صالحا يدعو له.
ولو اكتفى النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بالصّدقة الجارية لدخل فيها المعلّم الخير؛ لأنّ أعظم ما يُتصدّق به ويُعطى هو العلم بالله ورسوله -صلّى الله عليه وسلّم-.
أمّا الولد الصّالح فهو من عمل العبد؛ كما في الحديث الّذي رواه التّرمذي والنّسائي عن عائشة -رضي الله عَنها- قالت: قال رسول اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ"، ويوم قال نوحٌ -عليه السّلام-: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) [هود: 45]، قال له الله -تعالى-: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود: 46].
لذلك تعالوا بنا إلى صاحب الصّدقة الجارية! ما أكيسه وما أشدّ فطنته! لم يكتف بالأجور العظيمة والخيرات العميمة الّتي ينالها المتصدّق، فتراه قفز هذه القفزة فجعل الأجور تصله إلى ما بعد الموت.
لا شكّ أنّه لا يخفى على أحد فضل الصّدقة، فهي من أوسع أبواب الخير، وأدفعها للشرّ والضّير، هي عنوان الكرم والجود، وأشرف ملابس الدّنيا في الودود، أجلب الأعمال للحمد، وأدفعها للذمّ، وأسترها للعيب، ولم لم يكن فيها إلاّ أنّها صفة من صفات المولى -تبارك وتعالى- لكفى، فقد روى التّرمذي عن سعد بنِ أبي وقّاصٍ -رضي الله عَنه- عن النَبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ".
فاسمها: صدقة، أي هي الدّليل على صدق الإيمان بالله واليوم الآخر، لذلك جاء في الحديث الصّحيح: "وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ"؛ لذلك قرن الله ذكرها مع الإيمان في أكثر من موضع في القرآن، وقرنها بالفلاح، فقال: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة: 3]، حتّى قال: (أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 5].
ووعد المتصدّقين بالأجر العظيم يوم يقوم النّاس لربّ العالمين، فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].
وأنّها من أعظم مكفّرات الذّنوب، فقد روى التّرمذي عن كعبِ بنِ عجرةَ -رضي الله عَنه- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ! الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ".
وأنّ صاحبها تحت ظلّ الله يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه؛ فقد روى أحمد عن أبي الخيرِ أنه سمع عقبةَ بنَ عامرٍ -رضي الله عَنه- يقول: سمعت رسول اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ" قال الرّاوي عن أبي الخير: "وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَةً".
إنّ الله يبارك للعبد بصدقته، ويضيّق على الممسك فلا يرى شيئا من بركته؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ -رضي الله عَنه- أنّ النّبيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا! وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا!".
وإنّ النّصوص من القرآن والسنّة الصّحيحة لكثيرة في بيان وتعداد الأجور، ولكن حسبنا ما سمعناه من هذه النّصوص.
كلّ هذا الفضل يصل إلى المتصدّقين، ولكنّه لا ينمو بعد مفارقة الحياة، يتوقّف الأجر عند الوفاة.
إلاّ هذا اللّبيب صاحب الصّدقة الجارية، فهو في عيشة راضية، وقد ذكر النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وجوها للصّدقة الجارية، ذكرها ابن ماجة في روايته عن أبي هريرة -رضي الله عَنه- قال: قال رسول اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ".
وإنّا ندعو إخواننا المسلمين وأخواتنا المسلمات في هذا اليوم المبارك إلى الإنفاق في وجوه الخير ممّا ذكرناه، وخاصّة بناء مدرسة شرعيّة، فهي تجمع لكم الخيرات الثّلاث:
الخير الأوّل: فإنّ المدارس الشّرعيّة من أعظم ما يدخل تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: "صدقة جارية"، فيصلك الأجر إلى قبرك ما دامت هذه المدرسة، ولم تمرّ بالمسلمين مرحلة يحتاجون فيها إلى مثل هذه المنشآت مثلُ هذه الأيّام.
الخير الثّاني: أنّ فيها نشرا للعلم، فهي تدخل تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: "أو علم يُنتفع به".
الخير الثّالث: من يتعلّم فيها إنّما هم أولادنا وأحفادنا، فبذلك يتمّ صلاحه، ويتحقّق فلاحه، ويدخل تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: "أو ولد صالح يدعو له".
ولا تبخلوا على أنفسكم، يقول الله -عزّ وجلّ-: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].
وممّا يعترض به الشّيطان طريقك ثلاث أشواك:
الأولى: التّعجيز، ألا من عجز عن العطاء، فليُوصل هذه الكلمات إلى أرباب الأموال، وموسري الأحوال.
الثّانية: شوكة اسمها: "التّحقير"، و "التّثبيط"، يأتيك فيحقّر عملك وعطاءك، فأين الدّراهم المعدودات هذه أمام مشروع ضخم مثل هذا؟! فالجواب: قوله صلّى الله عليه وسلّم: "اتّق النّار ولو بشقّ تمرة"، فإنّ الله يبارك في القليل، ويعطي عليه العطاء الجزيل، وإنّ الجبال من الحصى.
الشّوكة الثّالثة: شوكة التّخويف من الفقر، فمن للصّبية والعيال، وأنت ترى ضعف الحال.
ألا إنّ الله –تعالى- وعد بالعطاء لمن أعطى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ -رضي الله عَنه- أنّ رسول اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: يَا ابْنَ آدَمَ! أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، قَالَ: يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ".
فإيّاكم والقعود، والبخل وترك الجود، وسبحان من خلق الأضداد، وفرّق بين العباد، أمّا البخيل بالذّهب فمات وذهب، وأمّا الكريم فعاش بعد الموت بما وهب.