الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | محمد بن مبارك الشرافي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
الاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِ اللهِ مَطْلَبٌ يَنْشُدُهُ الْعُقَلاءُ، وَمَسْلَكٌ يَدْعُو إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَطَرِيقٌ سَلَكَهُ الصَّالِحُونَ، وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ، وَفِي خُطْبَتِنَا هَذِهِ إِشَارَاتٌ وَوَمَضَاتٌ فِي طَرِيقِ الْهِدَايَةِ وَالنُّورِ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَ بِهَا. فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الاسْتِقَامَةِ: مَعْرِفَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَفْضَالِهِ، إِنَّهُ الرَّبُّ الْعَظِيمِ الذِي خَلَقَنَا مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّانَا بِالنِّعَمِ، إِنَّهُ اللهُ الذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ ذُنُوبَ الْمُسْرِفِين، وَأَعْجَزَتْ نِعَمُهُ إِحْصَاءَ العَادِّين، عَظُمَ حِلْمُهُ فَسَتَر، وَبَسَطَ يَدَهُ بِالْعَطَاءِ فَأَكْثَر، أَطَاعَهُ الطَّائِعُونَ فَشَكَر، وَتَابَ إِلَيْهِ الْمُذْنِبُونَ فَغَفَر، لا تُحْجَبُ عَنْهُ دَعْوَة، وَلا تَخِيبُ لَدَيْهِ طِلْبَة، وَلا يَضِلُّ عِنْدَه سَعْي.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّـى اللهُ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِين، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، وَيَقُولُ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ، قَالَ: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمْ اسْتَقِمْ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: الاسْتِقَامَةُ عَلَى دِينِ اللهِ مَطْلَبٌ يَنْشُدُهُ الْعُقَلاءُ، وَمَسْلَكٌ يَدْعُو إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَطَرِيقٌ سَلَكَهُ الصَّالِحُونَ، وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ الْمُرْسَلُونَ، وَفِي خُطْبَتِنَا هَذِهِ إِشَارَاتٌ وَوَمَضَاتٌ فِي طَرِيقِ الْهِدَايَةِ وَالنُّورِ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَ بِهَا.
فَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الاسْتِقَامَةِ: مَعْرِفَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَفْضَالِهِ، إِنَّهُ الرَّبُّ الْعَظِيمِ الذِي خَلَقَنَا مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّانَا بِالنِّعَمِ، إِنَّهُ اللهُ الذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، إِنَّهُ اللهُ الذِي قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، إِنَّهُ اللهُ الذِي تَعَرَّفَ إِلَى عِبَادِهِ فَقَالَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، وَقَالَ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).
إِنَّهُ اللهُ الذِي قَالَ مَادِحاً نَفْسَهُ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، إِنَّهُ اللهُ الذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، إِنَّهُ اللهُ الذِي أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِالْخَيْرَاتِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِأَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ.
إِنَّكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- تُطِيعُ اللهَ الذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّكَ -أَيُّهَا الشَّابُّ- تَتْرُكُ الْمَعْصِيَةَ للهِ خَوْفَاً مِنْهُ وَطَمَعَاً فِيمَا عِنْدَهُ، إِنَّكَ تَتْرُكَهَا لِلرَّبِّ الْعَظِيمِ الذِي قَهَرَ كُلَّ قُوَّةٍ، وَغَلَبَ كُلَّ أَحَدٍ، وَأَجَابَ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، وَغَفَرَ ذُنُوبَ الْعَاصِينَ، وَقَبِلَ تَوْبَةَ التَّائِبِين، فَهَلْ عَرَفْتَ شَيْئَاً مِنْ عَظَمَةِ مَنْ تَعَبَّدَ؟! وَنَزْرَاً مِنْ قُوَّةِ مَنْ تُطِيع؟!
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: مَعْرِفَةُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَزَوَالِهَا وَفَنَائِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى مُرَغِّباً فِي الآخِرَةِ وَمُزَهِّداً فِي الدُّنْيَا: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).
وَعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أَصْبُعَهُ فِي اليَّمِ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعْ؟!". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَيْهِ -أيْ: عَنْ جَانِبَيْهِ-، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ -أي: صَّغِيَر الأُذُن- مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّكُم يُحِبُّ أنْ يَكُونَ هَذَا لَهُ بِدِرْهَم؟!"، فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟! ثُمَّ قَالَ: "أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟!"، قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْباً، إنَّهُ أسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ ميِّتٌ؟! فقال: "فوَاللهِ لَلدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَتَأَمَّلُوا -أَيُّهَا النَّاسُ- كَيْفَ أَنَّ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ جِيفَةً مَيِّتَةً، فَأَيْنَ مَنْ تَقَاتَلُوا عِنْدَهَا وَقَطَعُوا الأَرْحَامَ وَتَرَكُوا الْوَاجِبَاتِ وَانْتَهَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ؟!
بَلْ اسْتَمِعُوا لِهَذَا الْحَدِيثِ الذِي يُبَيِّنُ قِيمَةَ الدُّنْيَا: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: تَذَكُّرُ الْمَوْتِ، وَمَعْرِفَةُ هَجْمَتِهِ وَتَوَقُّعُ حُضُورِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام)، وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، فَالْمَوْتُ لابُدَّ مِنْهُ وَلا مَحِيدَ عَنْهُ.
تَأَمَّلْ -أَيُّهَا الإِنْسَانُ- حِينَ يَنْزِلُ بِكَ الْمَوْتُ، وَاذْكُرْ حِينَ تَشْخَصُ مِنْكَ الْعَيْنَانِ، وَيَيْبَسُ مِنْكَ اللِّسَانُ، وَتَنْهَدُّ مِنْكَ الأَرْكَانُ، تَصَوَّرْ نَفْسَكَ حِينَ تَتَرَمَّلُ زَوْجَتُكَ وَيَتَيَتَّمُ أَوْلادُكَ، اذْكُرْ حِينَ تَبْكِيكَ أُمُّكَ وَتَنْعَاك، وِحِينَ تَتْرُكُ إِخْوَانَكَ وَأَبَاكَ، تَأَمَّلْ حَالَهُمْ وَقَدْ كَانُوا مَعَكَ فَرِحِينَ، فَإِذَا هُمْ قَدْ أَضْحَوْا عَلَيْكَ مَحْزُونِين.
وَلَكِنْ: يَا تُرَى كَيْفَ يَكُونُ حَالُكَ أَنْت؟! هَلْ تُبَشَّرُ عِنْدَ مَوْتِكَ بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبِّ غَيْرِ غَضْبَانِ، أَمْ تُخْبَرُ بِالشَّرِّ وَمَغَبَّةِ الْعِصْيَانِ؟! هَلْ يَقُولُ لَكَ مَلَكُ الْمَوْتِ -عَلَيْهِ السَّلامُ-: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ: اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَان؟! أَمْ يَقُولُ لَكَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ: اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَب؟!
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ: إِنَّ الذِي يُنْجِيكَ مِنْ هَذِهِ الْمَهَالِكِ وَتِلْكَ الشَّدَائِدِ هُوَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحْدَهُ، فَيَا تُرَى هَلْ أَنْتَ طَائِعٌ للهِ؟! هَلْ أَنْتَ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ، وَمُجْتَنِبٌ نَهْيَهُ؟! أَمْ أَنَّكَ مُعْرِضٌ وَمُخَلِّطٌ؟! إِنَّكَ الآنَ في زَمَنِ التَّدَارُكِ، وَفِي دَارِ الْمُهْلَةِ، وَغَداً فِي دَارِ النَّقْلَةِ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ قُلُوبَنَا وَأَعْمَالَنَا، وَاجْعَلْنَا لَكَ طَائِعِينَ، وَلِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّبِعِين، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى وَرَسُولِهِ الْمُجْتَبَى وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ بِهُدَاهُمُ اهْتَدَى.
أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: مِنْ أَسْبَابِ الاسْتِقَامَةِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: الصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ، فَإِنَّ صَاحِبَ الطَّاعَةِ يَحْمِلُكَ عَلَى الْخَيْرِ الذِي مَعَهُ، فَجَالِسِ الأَخْيَارَ؛ فَإنَّكَ إِنْ ذَكَرْتَ أَعَانُوكَ، وَإِنْ غَفَلْتَ ذَكَّرُوكَ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ خَيْرٌ شَمِلَكَ مَعَهُمْ، وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ الأَشْرَارِ؛ فَإِنْ ذَكَرْتَ خَذَّلُوكَ، وَإِنْ غَفَلْتَ مَا ذَكَّرُوكَ، وَإِنْ أَصَابَتْهُمْ لَعْنَةٌ عَمَّتْكَ مَعَهُمْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
فَصَاحِبِ الْعُلُمَاءَ وَطَلَبَةَ الْعِلْمِ، وَالدُّعَاةَ الأَخْيَارَ وَالْمُصْلِحِينَ الأَبْرَارَ، وَاحْذَرْ الْعُصَاةَ وَأَهْلَ الْبِدَعِ, وَانْجُ بِنَفْسِكَ فَإِنَّ الْعُمْرَ فُرْصَةٌ وَاحِدَةٌ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ: وَمِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ السَّعَادَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، إِنَّ الْهِدَايَةَ وَالاسْتِقَامَةَ تُورِثُكَ أُنْساً بِاللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَنُوراً فِي قَلْبِكَ وَانْشِرَاحاً فِي صَدْرِكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فَصَاحِبُ الإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَوْعُودٌ بِالْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ فِي الدُّنْيَا وَبِالْجَنَّةِ فِي الآخِرَةِ.
قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: "إِنَّ فِي الْقُلُوبِ وَحْشَةً لا يُزِيلُهَا إِلَّا الأُنْسُ بِاللهِ، وَفِي الْقُلُوبِ شَعَثٌ لا يَلُمُّهُ إِلَّا الإِقْبَالُ عَلَى اللهِ، وَفِي الْقُلُوبِ نِيرَانُ حَسْرَةٍ لا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ".
فَيَا مَنْ تَنْشُدُ السَّعَادَةَ وَتَطْلُبُ الْهِدَايَةَ: تَعَالَ وَبَادِرْ، وَإِيَّاكَ وَالتَّسْوِيفَ، وَاحْذَرِ التَّرَدُّدَ، بَلْ أَقْدِمْ وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يُحِبُّ تَوْبَتَكَ وَيُرِيدُ عَوْدَتَكَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يتوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتهِ بأرضٍ فَلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابهُ فأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتى شَجَرَةً فاضطَجَعَ في ظِلِّهَا وقد أيِسَ مِنْ رَاحلَتهِ، فَبَينَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قائِمَةً عِندَهُ، فَأَخَذَ بِخِطامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبدِي وأنا رَبُّكَ؛ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَمَا أَحْسَنَ الْهِدَايَةَ! وَمَا أَجْمَلَ الاسْتِقَامَةَ! وَمِسْكِينٌ وَاللهِ مَنْ حُرِمَ لَذَّةَ الطَّاعَةِ وَنُورَ الإِيمَان!
اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَارْزُقْنَا عَوْدَةً إِلَيْكَ نَصُوحَاً، عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ، اللَّهُمَّ اشْرَحْ صُدُورَنَا لِلْهِدَايَةِ، وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِالطَّاعَةِ، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا وَاعْفُ عَنْ سَيِّئَاتِنَا! رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ! وَصَلِّ اللَّهُمْ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد!