القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصلاة |
أجد -والله- من الضيق وتشتت الفكر ما لم أعهده سابقًا, حتى إني أثناء سجودي أدعو الله أنْ يشرحَ صدري من شدّة ما أجد, وكثيرًا ما آخذ النفس العميق أثناء الصلاة لعله يُخفّفُ ما أجد! ما الذي حصل؟ وما السبب في مجيء هذا الضيق العجيب في عبادةٍ هي في الأصل طاردةٌ للضيق والنَّكد! لم يخطر ببالي إلا أني أنا السبب في ذلك, إما بمعصيةٍ اقْتَرَفْتُها, أو طاعةٍ فرّطتّ فيها, فكنت أُجُدّد التوبة وأُكثر الاستغفار, ولكن دون جدوى! واسْتمر الحال على هذا الوضع لأسابيع عدّة, أُجاهد نفسي وأُصبِّرُها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد:
فإنّ من المعلوم بأن الصلاة- الْمُؤَدَّاةُ كما أمَرَ ربُّنا- فيها لذّةٌ عجيبة, وطُمأنينةٌ وسكينة, كيف لا, وهي الصلة بيننا وبين خالقنا تبارك وتعالى, هي الأنس والراحة, وقد كان إمامُنا وقدوتُنا يتلمس الراحة فيها, فيُنادي بلالاً: "يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ" (رواه الإمام أحمد: 23088, وصححه الألباني).
ولكنَّني لم أجد منذ مُدّة هذه اللذة والراحةَ حينما أُصلي نافلة الصلوات الْمكتوبة وغيرها في مكتبتي, بل أجد والله من الضيق وتشتت الفكر ما لم أعهده سابقًا, حتى إني أثناء سجودي أدعو الله أنْ يشرحَ صدري من شدّة ما أجد, وكثيرًا ما آخذ النفس العميق أثناء الصلاة لعله يُخفّفُ ما أجد!
ما الذي حصل؟ وما السبب في مجيء هذا الضيق العجيب في عبادةٍ هي في الأصل طاردةٌ للضيق والنَّكد!
لم يخطر ببالي إلا أني أنا السبب في ذلك, إما بمعصيةٍ اقْتَرَفْتُها, أو طاعةٍ فرّطتّ فيها, فكنت أُجُدّد التوبة وأُكثر الاستغفار, ولكن دون جدوى!
واسْتمر الحال على هذا الوضع لأسابيع عدّة, أُجاهد نفسي وأُصبِّرُها.
وذات يومٍ غيّرت المكان, وصليت في الساحة الملاصقة للمكتبة, فصلّيتُ صلاةً هي ما كنتُ أَعْهَدُها من الطمأنينة والراحة, وجَمْعِيَّةِ الفكر وحلاوةِ التدبر, وزال عني ما أجده من الضيق!, ولم يخطر ببالي إلا أنّ السبب في ذلك هو الجو الطَّلِقُ في الساحة, وأنَّ التَّغيِيرَ سببٌ طَبَعِيٌّ لِطَرْدِ السَّآمة والضيق.
وما إنْ صليت بعد ذلك في مكتبتي حتّى رجعتِ الحالةُ إلى سابقتها! فلم أحتمل هذا الضيقَ أثناء الصلاة, فسلّمتُ من ركعتين وخرجت إلى غرفةٍ خاليةٍ وأكملت الصلاة فيها, فزال عني الضيقُ وحلّت اللذةُ مكانها! فأيقنت أنّ السرّ في المكتبة ذاتِها.
فذهبتُ إليها أُقَلِّبُ النَّظَرَ فيها يَمْنَةً ويَسْرَة, ما هو سبب الضيق فيها؟ فخطر ببالي قول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ». (البخاري: 3322, ومسلم: 2106).
فقلت: لعل صورةً هنا أو هناك منعت الملائكة من دخول المكتبة, وإذا لم تحلّ الملائكةُ في مكانٍ فحريٌّ بالشياطين أنْ تحلّ محلها.
فنظرتُ في إحدى رفوِفِ الْمَكتبة فرأيتُ مجلّةً أُسريَّةً مليئةً بالصور الكاملة لا المقطوعة, فأيقنتُ أنها هي السبب, ثم فتّشتُ في الكتب جميعًا فرأيت بعض كتب الأدب ونحوها على غلافها صورُ مُؤلفيها, فطمستُها كلّها, فعدت إلى الصلاة في الْمَكتبة بعد ذلك, فزال عني ما وجدته من الضيق ولله الحمد والمنّة.
إنّنا نتساهل بالصور والمجلات والجرائد في بيوتنا- ولو كانت خاليةً من صور النساء- فهي تبقى صورًا لا ضرورةَ لنا في بقائها, والحديث على عمومه: «لاَ تَدْخُلُ المَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ».
وقد ثبت عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً- أي: وُسادة- فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ عَلَى البَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، قالت: فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ: «مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟» قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لاَ تَدْخُلُهُ المَلاَئِكَةُ» (البخاري: 3224, ومسلم: 2107).
كم في بُيُوتنا من تصاوير على وسائدنا وفُرشنا وغيرها؟ بل وكم فيها من مجلاتٍ وجرائدَ في كلّ زاويةٍ منها؟
فَلْنحرصْ على تَلَمُّسِ الصوارفِ التي تصرفنا عن الخشوع والطمأنينةِ في صلاتنا, ولذا أمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من يُدافعُ الغائط أو البول, والذي حضر الطعام بين يديه أنْ يُؤخروا الصلاة ويقضوا حاجاتهم؛ لكي يتخلّصوا من كلّ ما يُشغلهم في صلاتهم.
وتذكرتُ حينها قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الحديث الآنف الذكر: "إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت، فكيف تلج معرفة الله -عز وجل-، ومحبته، وحلاوة ذكره، والأنس بقربه، في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟!". (مدارج السالكين 3/250).
إذا كانت هذه الصور منعتْ لذةَ مُناجاة الله –تعالى-, والخشوع والطمأنية, فكيف نطمع - عفا الله عنا- أنْ ننال ذلك وبيوت كثيرٍ منَّا مليئةٌ بالدشوش المحرمة, التي تصدح ليلَ نهارٍ بِمَا يُغضب الرحمن, مليئةٌ بأمراض القلوب من الحسد والغل والقطيعة, فكيف نشكو بعد ذلك قسوة قلوبِنَا؟! كيف نشكو قلّة أو انعدام خشوعنا في صلواتنا؟! كيف نشكو عدم قدرتنا على قيام الليل وطلب العلم وأنواع الطاعات والقربات؟!
إنّ الصَّور الحسيّةَ نستطيع إخراجها أو طمسها, ولكن كيف نُخرج أو نطمس أمراض قلبونا من الحسد والحقد والهجر؟! كيف يُخرج أو يطمس بعضُ الناس صور الشهوات وصور العاريات من قلبه؟!
وإذا كان اللهُ –تعالى- عاقب الصحابةَ الكرامَ بالهزيمة يوم أُحدٍ بسبب مُخالفة أو مُخالفتين فقط؟ (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165], هذا ورسول الله معهم وبين أيديهم؟! فكيف سننتصر على جُيوش الشهوات والصوارف الحسية والمعنوية, كيف سننتصر على شياطين مَردَةٍ أخذوا على أنفسهم إغواءنا وإضلالنا؟ (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص: 82].
وكيف لا نُعاقَب ونحن ننتقل من معصيةٍ إلى معصية- إلا من شاء الله-؟ كيف لا يخطر ببال أحدِنا أنّ ما هو فيه من مشاكل أو همومٍ أو قلّة بركةٍ في وقته وعلمه إنما هو من معصيةٍ نسيها, أو طاعةٍ تهاون فيها؟!
فلْنراجع أنفسنا, ولْنتبْ إلى ربنا, ولْنبحث عن عُيوبنا وتقصيرنا مع خالقنا, فحينها سنرى تغيّرًا عظيمًا في حياتنا وبركة أوقاتنا وانشراح صدورنا. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
وصلى اللهّ وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه والتابعين.