الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | محمد بن مبارك الشرافي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - أعلام الدعاة |
فَهَذَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ فَتَى مِنْ فِتْيَانِ قُرَيْشَ عُرِفَ بِالشَّجَاعَةِ وَقُوَّةِ الشَّكِيمَةِ، وَكَانَ كَالأَسَدِ الْهَصُورِ فِي بَأْسِهِ وَشِدِّتِهِ، وَكَانَ مُحِبًّا لِلصَّيْدِ وَكَثِيرَ الْخُرُوجِ بِسَهْمِهِ وَرُمْحِهِ إِلَى جِبَالِ مَكَّةَ يَصِيد بِهَا، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ إِذَا رَجَعَ مِنَ الصَّيْدِ أَنْ يَمُرَّ عَلَى أَنْدِيَةِ قُرْيشَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَيُحَادِثَهُمْ وَيُنَادِمَهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُ فِي رِحْلَةِ صَيْدِهِ، وَكَانَ مُحِبًّا لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَكِنَّهُ مَا قَبِلَ دَعْوَتَهُ وَلا دَخَلَ فِي الإِسْلَامِ، لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ فَكَانَ لا يَرْضَى أَنْ يُمَسَّ ابْنُ أَخِيهِ بِسُوءٍ.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الذِي كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا، وَتَبَارَكَ الذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَهُوَ الذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا.
أَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسُولُهُ, صلَّى اللهُ عليْهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثَيراً.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ-، وَاعْرِفُوا لِلصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَقَّهُمْ وَاقْدُرُوا لَهُمْ قَدْرَهُمْ، فَإِنَّ اللهَ أَعَزَّ بِهِمُ الإِسْلَامِ وَنَصَرَ بِهِمْ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ لِبَعْضِهِمْ قَصَصٌ عَجِيبَةٌ فِي دُخُولِهِمُ الإِسْلَامَ وَتَخَلُّصِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ.
فَهَذَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَانَ فَتَى مِنْ فِتْيَانِ قُرَيْشَ عُرِفَ بِالشَّجَاعَةِ وَقُوَّةِ الشَّكِيمَةِ، وَكَانَ كَالأَسَدِ الْهَصُورِ فِي بَأْسِهِ وَشِدِّتِهِ، وَكَانَ مُحِبًّا لِلصَّيْدِ وَكَثِيرَ الْخُرُوجِ بِسَهْمِهِ وَرُمْحِهِ إِلَى جِبَالِ مَكَّةَ يَصِيد بِهَا، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ إِذَا رَجَعَ مِنَ الصَّيْدِ أَنْ يَمُرَّ عَلَى أَنْدِيَةِ قُرْيشَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَيُحَادِثَهُمْ وَيُنَادِمَهُمْ بِمَا حَصَلَ لَهُ فِي رِحْلَةِ صَيْدِهِ، وَكَانَ مُحِبًّا لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَكِنَّهُ مَا قَبِلَ دَعْوَتَهُ وَلا دَخَلَ فِي الإِسْلَامِ، لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ فَكَانَ لا يَرْضَى أَنْ يُمَسَّ ابْنُ أَخِيهِ بِسُوءٍ.
وَلَمَّا أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا حَصَلَتْ حَادِثَةٌ غَيَّرَتْ مَجْرَى حَيَاتِهِ وَأَحْيَاهُ اللهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ الصَّفَا فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَنَالَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْعَيْبِ لِدِينِهِ وَالتَّضْعِيفِ لِأَمْرِهِ، وَرَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاكِتٌ لا يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ ضَرَبَهُ أَبُو جَهْلٍ بِحَجَرٍ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ حَتَّى نَزَفَ مِنْهُ الدَّمُ، ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى نَادِي قُرْيشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ.
وَكَانَتْ مَوْلاةٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ جَدْعَانَ فِي مَسْكَنٍ لَهَا عَلَى قُرْبَ جَبَلِ الصَّفَا تَرَى مَا حَصَلَ، فَتَحَيَّنَتْ رُجُوعَ حَمْزَةَ مِنَ الصَّيْدِ، فَتَلَقَّتْهُ وَأَخْبَرَتْهُ بِالْخَبَرِ الذِي أَزْعَجَهُ وَأَثَارَ حَفِيظَتَهُ!
فَأَقْبَلَ نَحْوَ أَبِي جَهْلٍ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: أَتَشْتِمُ ابْنَ أَخِي مُحَمَّداً وَأَنَا عَلَى دِينِهِ؟! ثُمَّ ضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، فَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، وَقَالُوا: مَا نَرَاكَ -يَا حَمْزَةُ- إِلَّا قَدْ صَبَوْتَ؟! قَالَ حَمْزَةُ: وَمَنْ يَمْنَعُنِي وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي مِنْهُ مَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ وَأَنَّ الذِي يَقُولُ حَقٌّ؟! فَوَاللهِ لا أَنْزِعُ فَامْنَعُونِي إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ! فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عِمَارَةَ فَإِنِّي وَاللهِ لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا!
وَكَانَ إِسْلَامُ حَمْزَةَ أَوَّلَ الأَمْرِ حِمْيَةً وَأَنَفَةً أَنْ يُهَانَ ابْنُ أَخِيهِ، ثُمَّ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ، وَاعْتَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ أَيَّمَا اعْتِزَازٍ، وَعَرَفْتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، فَكَفَّوا عَنْ كَثِيرٍ ممَّا كَانُوا يَنَالُونَ مِنْهُ!
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ثُمَّ إِنَّ خَبَرَ الإِسْلَامِ قَدْ شَاعَ فِي الْعَرَبِ وَانْتَشَرَ فِي الْبَوَادِي، لَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهِمْ كَانَ لَا يَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ وَمَا مَدَى صِدْقِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ سَمِعَ بِهِ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، مِنْ قَبِيلَةِ غِفَارٍ التِي تَعِيشُ وَسَطَ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْبَادِيَةِ، وَكَانُوا مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.
فَلَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْهُ قَوْلَهُ ثُمَّ ائْتِنِي.
فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَه مَكَّةَ وَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ!
فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ! فَتَزَوَّدَ أَبُو ذَرٍّ بِطَعَامٍ وَحَمَلَ شَنَّةً لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهو لَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ... حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ فَاضْطَجَعَ فَرَآهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فتَبِعَهُ وَأَضَافَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَا، فاحْتَمَلَ أَبُو ذَرٍّ -رّضِيَ اللهُ عَنْهُ- قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- فَقَالَ: أَمَا آنَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ؟! فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ فَعَادَ عَلِيٌّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ! ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ إِلَى مَكَّةَ؟!
قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي فَعَلْتُ! فَأَعْطَاُه عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فَأَخْبَرَهُ أَبُو ذَرٍّ خَبَرَهُ، فقَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي، فَإِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُه عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ لِئَلَّا تَشْعُرَ بِكَ قُرْيشُ، ثُمَّ إِذَا مَضَيْتُ فَاتْبَعْنِي.
فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَدَعَاهُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ مَكَانَهُ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي".
فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَثَارَ عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَأَكَبَّ عَلَيْهِ! وَقَالَ: وَيْلَكُمْ!! أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارِتِكُمْ إِلَى الشَّأْمِ؟! فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ ثُمَّ عَادَ مِنْ الْغَدِ لِمِثْلِهَا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ، وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ!
ثُمَّ إِنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجَعَ إِلَى دِيَارِ قَوْمِهِ حَامِلاً الإِسْلَامَ، وَجَالِبًا لَهُمُ النُّورَ، يَقُولُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ أَخِي أُنْيَسًا، فَقَالَ لِي: مَا صَنَعْتَ؟! قَالَ: قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: فَمَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكِ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، ثُمَّ أَتَيْنَا أُمَّنَا فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، إِنَّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، ثُمَّ أَتْيَنَا قَوْمَنَا غِفَارًا، فَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدُمُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، وَقَالَ: بَقِيَّتُهُمْ إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَسْلَمْنَا، فَقَدِمُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْلَمَ بَقِيَّتُهُمْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ-.
فَهَكَذَا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- رَجُلٌ وَاحِدٌ كَانَ سَبَبًا فِي إِسْلَامِ قَبِيلَتِهِ، وَسَوْفَ يَأْتُونَ فِي صَحِيفَةِ أَعْمَالِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَعَ مَا لَهُمْ هُمْ مِنَ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ!
فَأَيْنَ مَنْ يَكُونُ خَيْرًا لِأَهْلِهِ وَبَرَكَةً عَلَى جَمَاعَتِهِ وَجِيرَانِهِ، يُرْشِدُهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَيَدُلُّهُمْ عَلَى الْهُدَى وَيَكُونُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ؟!
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَه، لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أجُورِهمْ شَيئاً". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَا هُو الإِسْلَامُ يَنْتَشِرُ وَالنَّاسُ يَدْخُلُونَ وَاحِدًا بَعْدَ الآخَرِ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ قَصَصِ الإِسْلَامِ قِصَّةُ إِسْلَامِ ضِمَادِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ رَجُلاً يَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُعَالِجُ النَّاسَ مِنْ مَسِّ الْجِنِّ، وَكَانَتِ الرُّقْيَةُ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَبَعْضُهَا رُقَىً شِرْكِيَّةً، وَبَعْضَهَا لا بَأْسَ بِهِ.
فَهَذَا الرُّجُلُ سَمِعَ سُفَهَاءَ مَكَّةَ يَقُولُونُ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ.
فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ؟! أَذْهَبُ إِلَيْهِ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدِي؟!
قَالَ: فَلَقِيتُ مُحَمَّدًا فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِى عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلُمَّ أَرْقِيكَ!
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، أَمَّا بَعْدُ".
فَتَعَجَّبَ ضِمَادٌ مِنْ حُسْنِ كَلامِهِ وَجَمِيلِ خِطَابِهِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْدِ عَلَيّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ فَلَقْدَ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ! -أَيْ وَسَطَهُ وَلُجَّتَهُ وَقَعْرَهُ الأَقْصَى-، فَأَعَادَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلَمَاتِ الْبَلِيغَاتِ، فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمَعْتُ مِثْلَ هَؤُلاءِ الْكَلَمِاتِ، فَهَلَمُّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلَامِ!!
فَبَايَعُهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ كَمْ كَانَ عَاقِلاً، وَكَمْ كَانَ حَصِيفًا يَطْلُبُ الْحَقَّ وَيَقْبَلُهُ.
فَأَيْنَ كَثِيرٌ مِنَ الشَّبَابِ!! بَلْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْكِبَارِ عَنْ طَلَبِ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ وَالتَّضْحِيَةِ فِي سَبِيلِهِ؟! إِنَّ الاسْتِقَامَةَ نُورٌ فِي الْوَجْهِ نُورٌ فِي الْقَلْبِ، بَلْ وَنُورٌ فِي الْقَبْرِ وَنُورٌ فِي الْحَشْرِ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون).
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا تَوْبَةً قَبْلَ الْمَوْتِ وَرَجْعَةً قَبْلَ الْفَوْتِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ بَلاءٍ عَافِيَةً، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا! اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنا دِينَناَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا، وَأَصْلِحْ لَنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنا آخِرَتَنا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ...
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ ارْضَ عَنْ صَحَابَتِهِ وَعَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَعَنَّا مَعَهُم بِعَفْوِكَ وَمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.