الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ما أحوجنا جميعًا إلى التوبة النصوح!! قال عمر بن الخطاب عن التوبة النصوح: "التوبة النصوح: أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدًا"، وقال قتادة -رحمه الله-: "هي التوبة الصادقة الناصحة"، وقال الحسن البصري في معنى التوبة النصوح: "أن يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على أن لا يعود فيه".
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله ربكم وتوبوا إليه، واقطعوا حبل الأماني بالإنابة إليه، فعما قليل تجيبون الداعي، وكأنه قد نادى.
أيها المؤمنون: يجب على كل مكلف من الجن والإنس، أن يسعى في خلاص نفسه من جرائمها، وغوائلها، قبل حلول الأجل؛ فإن التوبة تجبّ ما قبلها، ولهذا حرص عدو الله إبليس على صد عباد الله عن التوبة وأمرهم بالتسويف، وقد أفلح ونجح إلا من الخلّص من عباد الله، فكونوا على حذر -رحمكم الله-.
معاشر المؤمنين: ينبغي للمؤمن أن يتوب إلى الله تعالى في كل يوم، فلقد كان الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كذلك، أخرج أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمر قال: إن كنا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم يقول: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم".
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"، وأخرج مسلم في صحيحه من حديث الأغر بن يسار قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة".
قَالَ أَهْل اللُّغَة: "الْغَيْن" بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة، وَالْغَيْم بِمَعْنًى، وَالْمُرَاد هُنَا مَا يَتَغَشَّى الْقَلْب، قَالَ الْقَاضِي: "قِيلَ: الْمُرَاد الْفَتَرَات وَالْغَفَلَات عَنْ الذِّكْر الَّذِي كَانَ شَأْنه الدَّوَام عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفْتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا، وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ".
وأخرج البخاري من حديث عائشة قالت: ما صلى النبي صلاة بعد أن نزلت عليه: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، إلا يقول فيها: "سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي".
فهذا دأب نبيكم -عليه الصلاة والسلام- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً).
أيها المؤمنون: ما أحوجنا جميعًا إلى التوبة النصوح!! قال عمر بن الخطاب عن التوبة النصوح: "التوبة النصوح: أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدًا"، وقال قتادة -رحمه الله-: "هي التوبة الصادقة الناصحة"، وقال الحسن البصري في معنى التوبة النصوح: "أن يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على أن لا يعود فيه".
قال الله -جل وعلا- مخاطباً عباده باسم الإيمان، متودداً إليهم طالباً منهم ما يصلح بالهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).
وأخبر سبحانه عن نفسه الكريمة أنه سبحانه مع علمه بما يقترفه عباده فهو يقبل التوبة ويعفو عن السيئة: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، كما بيّن سبحانه في كتابه أنه يريد أن يتوب علينا: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
معاشر الأحبة: إن التوابين هم أحباب الرحمن: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)، فلنسع جميعاً لنكون من أحباب الله تعالى.
وإن من فضل التوبة وعلو مكانتها أن كان رسل الله يأمرون بها قومهم لما يعلمون من مكانتها عند الله تعالى، فهذا نبي الله هود -عليه السلام- يقول لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)، وهذا نبي الله صالح -عليه السلام- يقول لقومه: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)، وهذا نبي الله شعيب -عليه السلام- يقول لقومه: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ).
عباد الله: ما من عبد من البشر إلا وله ذنب، فكلنا ذلك المذنب، وكلنا ذلك المقصر، وكلنا ذلك المفرط، ولكن أين التوابون؟! أين الرجاعون؟! أين النادمون الأوابون؟!
فلنعلم جميعاً أن لنا ربًا غفورًا رحيمًا يتعرض لعباده بعظيم النفحات وجزيل الأعطيات، ويحب التوابين، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل-، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها".
ألا فلنبادر الأنفاس بالتوبة من جميع الأرجاس، ولنستقبل أيامنا بالتوبة العظيمة إلى الملك الديان، اللهم هيئ لنا أسباب التوبة والندامة، واجعلنا فيها من الصادقين.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فيا معاشر المؤمنين: إن النفس لتزكو والفؤاد ليصفو عند تحقيق التوبة لله العلي الخبير، كيف لا وإن التائب لتقلب سيئاته إلى حسنات، فيصبح نقياً من الذنوب والخطايا، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا أخطأ نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا نزع واستغفر وتاب، صقل قلبه، وإن عاد زيد فيه حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله": (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة"، قال ابن القيم –رحمه الله-: "التوبة أفضل مقامات السالكين؛ لأنها أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقها العبد أبداً، ولا يزال فيها إلى الممات".
قدم لنفسك توبة مرجوةً | قبل الممات وقبل حبس الأنفس |
بادر بها علق النفوس فإنها | ذخرٌ وغنـم للمنيب المحسن |
عباد الله: إن ربنا -جل وعلا- يدعونا إلى التوبة ويعلق عليها الفلاح: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ألا فلنتق الله -عباد الله-، ولنعلم أن للذنوب شروطاً لا تقبل التوبة بدونها، أولها الإخلاص فيها لله تعالى، والثاني: الندم على ما فات من الذنوب، وثالثها: الإقلاع عن الذنب، ورابعها: العزم على عدم العودة؛ وخامسها: إن كانت الذنوب متعلقة بحقوق الآدميين فيجب رد تلك الحقوق إلى أهلها.
فمن فعل ذلك قبل الله تعالى توبته، وأقال عثرته وبدل سيئاته إلى حسنات، والله هو الغفور الرحيم.
أيها المؤمنون: إن للتوبة علامات يجب أن تتوفر في العبد التائب، قال يحيى بن معاذ: "إن الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل"، وعلامة التائب: إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس عند كل همة.
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "يا أبناء العشرين: كم مات من أقرانكم وتخلفتم، ويا أبناء الثلاثين: أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم، يا أبناء الأربعين: ذهب الصبا وأنتم على اللهو عكفتم، يا أبناء الخمسين: تنصفتم المائة وما أنصفتم، يا أبناء الستين: أنتم على معركة المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون!! قد أسرفتم".
أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك".
فيا من جاوزت الستين: إنك للموت لتقدم، وإن أنفاسك لتعد عداً، فقد أوشكت على الرحيل، ألا فلينقطع من كان كذلك لعبادة ربه، وليكن همه الأول والأخير الدار الآخرة.
فمن العجب أنك ترى من بلغ السبعين وهو في لهو وغفلة وكأنه عن الموت هارب أو آخذ لأمان، ألا فلنعلم جميعاً أن ما مضى من العمر -وإن طالت أوقاته- فقد ذهبت لذاته وبقيت تبعاته، وكأنه لم يكن إذا جاء الموت وميقاته.
فبادروا -رحمكم الله- أعماركم بالتوبة، واعلموا أننا في دار غرّارة، تتزين للعبد حتى يفجأه الموت وهو في سكره من الغافلين.
إن تغفر اللهم تغفر جماً | ?وأي عبد لك لا ألمَّ |
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا...