الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان |
ثم مع منزلة محبة الدين منزلة: (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)، بتوفيق منه فلا يزال العبد يري هذا الدين وهذا الإيمان حسناً في داخل قلبه. فما ظنك في شيء من متاعك تراه زيناً، أتهمله؟! هل تبيع بيتك أو سيارتك التي أعجبتك وهي زينة قلبك وليس في عينك فقط؟! وهكذا الإيمان يبلغ أن يكون زيناً في القلب، فهو يزدري اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان لأنه يرى النقص فيها، وأعظم نقص فيها أن الله أبطلها: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ).
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
فحديثنا -أيها الإخوة- عن نعمة من نعم الله لا تضاهيها نعمة الصحة في البدن ولا نعمة الأمن في الوطن، ولا تقاربها نعمة المال والولد ورغد العيش والمسكن.
أجل -أيها الإخوة- نعمة امتن الله بها على صفوة من عباده حينما صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الصحابة ومن بعدهم، فهي نعمة لم ترتبط بجيل انقضى!
فلا يزال مَنْ منَّ الله بها عليه يتفيؤها ويتقلب مغتبطاً بها.
يقول الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ).
فهذا خطاب الله للمؤمنين المخلصين: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ)، أي: جعل الإيمان محبوباً في قلوبكم، قد تمكن منها، فتخليتم عن كل شيء في سبيل البقاء على هذا الدين: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ).
ولما استدعى النجاشي الصحابة الذين هاجروا للحبشة وسألهم عن خبرهم وما الذي جاؤوا به حتى تركوا لأجله اليهودية والنصرانية، كان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب -رضوان الله عليه- فقال له: أيها الملك: كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -فجعل يعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا.
فهذه ترجمة محبة الإيمان، استدعت قبولاً تامًا، وإن لحق ذلك إخراج من الديار والأبناء.
وقال حذيفة: "يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير".
ثم مع منزلة محبة الدين منزلة: (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ)، بتوفيق منه فلا يزال العبد يري هذا الدين وهذا الإيمان حسناً في داخل قلبه.
فما ظنك في شيء من متاعك تراه زيناً، أتهمله؟! هل تبيع بيتك أو سيارتك التي أعجبتك وهي زينة قلبك وليس في عينك فقط؟!
وهكذا الإيمان يبلغ أن يكون زيناً في القلب، فهو يزدري اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان لأنه يرى النقص فيها، وأعظم نقص فيها أن الله أبطلها: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ).
كيف وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". رواه مسلم.
أيها الإخوة: ألا إنَّ من أعظم مظاهر تحبيب الإيمان: محبة توحيد الله وتعظيمه في النفس، فمقام الله عظيم في قلبه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
فما أن يتعرض لجانب الربوبية، أو تلمز ناحية من نواحي الألوهية إلا وتقف كل شعرة في جسمه، ويتحرك كل مفصل منه.
فهو المعظم لله في أسمائه وصفاته وعموم أفعاله.
فتطاول الفاسقين الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً محل إنكار من قلبه، وإن قدر فهي محل إنكار من لسانه ويده.
ولأن يخر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق أهون عنده من أن يأتي شركاً أو يقع في كفر.
ولن يذوق طعم الإيمان حتى يتحقق فيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
وحينما سأل هرقل أبا سفيان عن حال أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل يزيدون أم ينقصون؟! فذكر أنهم يزيدون. قال هرقل: وكذلك الإيمان حتى يتم.
وحينما سأله: هل يرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟! فقال: لا.
قال هرقل: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
ومن مظاهر تحبيب الإيمان: إقبال القلب بكليته على عبادة ربه، فقلبه لا يسكن إلا باللجوء إلى الله ونفسه مضطربة حتى تتصل بمولاه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ).
وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل معلق قلبه في المساجد". لماذا؟! حبَّب الله إليه الصلاة فقلبه متعلق بموضعها، فالمسجد روضة نفسه، وأنس روحه، فهو المصلي أو القارئ أو المستمع لذكر أو درس يلقى، فأدرك بهذه النعمة ما فات غيره.
فأين حظ المتخلفين عن المساجد؟! وما نصيبهم من قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ)؟!
فلعلنا أدركنا بعد هذا سر تسابق المتسابقين في الصالحات وحرصهم على ما تزيد به الدرجات.
فما الذي جعل هذا يتصدق بماله؟! وما الذي جعل الآخر يحرص على بر والديه وصلة أرحامه مع جفاء قد يجده وأذية قد تطوله؟! إن جواب ذلك في قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ).
وقل مثل هذا في حقِّ من صام أيام القيظ وشدة الحر واتبع الجنائز في لهيب الشمس، وأطال القراءة وأعظم السؤال والدعاء.
أعمال صالحة باعثها إيمان القلب وتزيين الإيمان. فاللهم لك الحمد...
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فالشق الثاني من النعمة التي منّ الله بها هي قوله: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).
فالنعمة إذًا بمحبة وكره، فهو يكره الكفر الذي يقطع الإنسان عن ربه! وكيف يطيق العاقل حياة الكفر!! فالكافر علاقته بما بين يديه، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وضع رأسه في التراب، فعيشته عيشة البهائم، يسعى في حظ بطنه وفرجه، فهو ضائع وإن ادعى الدَّلالة، وحائر وإن أظهر الهداية.
ويتبع كره الكفر كرهُ الفسوق والعصيان، والفسق هو الخروج عن الطاعة، قد خط الفاسق له طريقًا آخر يحقق به رغبته وإن وافق غضب ربه، ووقع في مناهيه، فهو أمة وحده، ولكنها أمة في الضلالة.
وثالث المكروهات لدى مَنْ منَّ الله عليه مِنَّتُه عليه بكره العصيان، جميع المعاصي وإن قلت في أعين الناس فهي مكروهة له؛ لأن المعصية وحشة في القلب وانقطاع من الخير، والعاصي لا يأمن على نفسه أن ينفتح عليه باب من الاستهانة بالحرمات فيدمن معاصي كان عنها في غفلة، وتجره إلى غيرها وقد كان منها في سلامة.
أيها الإخوة: من أعظم الأمور التي يُتعبد لله بها في وقتنا الحاضر حيث انفتح الناس على ما لم ينفتح عليهم من قبل من أعظم الأمور كراهية ما حرم الله من الكفر والفسوق والعصيان، فلا يخلو الزمن من مظاهر ذلك، والناس يتفاوتون في تعرضهم لهذه الأشياء، والإناء إنما ينضح بما فيه، فاحذروا الأواني التي تنضح بما يغضب الله، فلا تكن مجالسنا لتوزيع حسناتنا، وثلم إيماننا بالغيبة والسخرية وسيئ السَّماع والنظر.
ثم الأسفار المشبوهة التي تكون لبلاد الكفر أو لبلاد شابهت بلاد الكفر فتيسرت المعاصي فيها، وروجت الرذيلة سراً وعلانية، وصارت معلماً من سياحتها.
ولا تغرنكم الدعايات المضللة والعروض الميسرة، فهذا من شدة الاختبارات وتمام الابتلاءات أن تتيسر له المعصية، أو أسبابها التي يظن أنه في حرز منها، ولا يبقى رقيب إلا الله، فاعملوا في قلوبكم: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).
فكراهية مناظر الفساد، وما يغضب الله من أماكن الخمور ودور الخنا وبغايا الزنا تقتضي ألا يسافر الإنسان إلى أماكنها وإن طاب المكان ورخصت الأسعار.
وهكذا أماكن الاختلاط في أي جهة، وما يتعرض فيه الإنسان للفتنة مما يسمى بأماكن الترفيه والحدائق والتنشيطات السياحية، فاحفظ -يا عبد الله- نفسك واحفظ أولادك. حينها نرجو أن تكون ممن قال الله فيهم: (أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ)، يعني هم الذين وفقهم الله فحبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر، أي قبحه عندهم فهم الراشدون.
والرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه وثبات عليه، فلا انصياع للمزحزحات ولا استجابة للمغريات.
ولعظم هذا الأمر كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رواه الإمام أحمد: "اللهم حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين". وصححه الألباني (فقه السيرة).