الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
الحقيقةُ مُرَّةٌ وقاسيةٌ على النُّفوسِ المريضةِ خاصَّةً, ربُّنا -عزَّ وجلَّ- وَعَدَ بالنَّصرِ لعِبادِهِ المؤمنينَ, فمن هوَ المؤمنُ؟ المؤمنُ -يا عباد الله- هوَ من تَطَابَقَت أقوالُهُ مع أفعالِهِ في سائِرِ أحوالِهِ. المؤمنُ هوَ الذي يُصدِّقُ اعتقادَهُ بأفعالِهِ, فلا ترى اعتقادَهُ في وادٍ, وسُلوكَهُ في وادٍ آخر.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: إنَّ أغلى شيءٍ على المؤمنِ هوَ: سلامةُ عقيدَتِهِ؛ لأنَّ سلامَتَها سلامةُ الدِّينِ والدُّنيا والآخرةِ, وفي أيَّامِ المِحَنِ والفِتَنِ تَتَزَعزَعُ هذهِ العقيدةُ من خلالِ ما يُلقيهِ شياطينُ الإنسِ والجنِّ من وساوسَ للتَّشكيكِ في وَعْدِ الله -تعالى-, من جُملة ذلك يقولون: أينَ نَصْرُ الله -تعالى- للمؤمنينَ؟ ألم يَعِدِ الله -تعالى- عِبادَهُ المؤمنينَ بالنَّصرِ العاجلِ؟
يا عباد الله: مما لا شكَّ فيه بأنَّ وَعْدَ الله -تعالى- لا يخلفُ؛ لأنَّهُ لا يُعجِزُهُ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ, ولأنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ, ولأنَّ أَمرَهُ إذا أرادَ شيئاً أن يقولَ لهُ كُنْ فيكونُ, كيف يُخلِفُ الله -تعالى- وَعْدَهُ, وهو القائلُ في كتابهِ العظيم: (الم * غُلِبَتِ الرُّوم * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 1- 6].
فأكثرُ الناسِ لا يعلمونَ هذهِ الحقيقةَ, أرجو الله -تعالى- أن لا نكونَ منهم.
يا عباد الله: لقد وَعَدَ اللهُ -تعالى- عِبادَهُ المؤمنينَ بالنَّصرِ في َمواطِنَ عِدَّةٍ من كتابِهِ العظيم, من جُملةِ ذلكَ قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)[الأنفال: 12].
مستحيلٌ وألفُ مستحيلٍ أن يُخلِفُ اللهُ -تعالى- وَعْدَهُ للمؤمنينَ, ولكن لكلِّ شيءٍ أجلٌ وكتابٌ, ولكلِّ شيءٍ موعدٌ لا يعلمُهُ إلا اللهُ -تعالى-.
يا عباد الله: الحقيقةُ مُرَّةٌ وقاسيةٌ على النُّفوسِ المريضةِ خاصَّةً, ربُّنا -عزَّ وجلَّ- وَعَدَ بالنَّصرِ لعِبادِهِ المؤمنينَ, فمن هوَ المؤمنُ؟
المؤمنُ -يا عباد الله- هوَ من تَطَابَقَت أقوالُهُ مع أفعالِهِ في سائِرِ أحوالِهِ.
المؤمنُ هوَ الذي يُصدِّقُ اعتقادَهُ بأفعالِهِ, فلا ترى اعتقادَهُ في وادٍ, وسُلوكَهُ في وادٍ آخر, يقول مولانا -عزَّ وجلَّ- في حقِّ الأعرابِ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)[الحجرات: 14].
فالمؤمنُ هوَ الذي استَقَرَّ الإيمانُ في قلبِهِ وصَدَّقَ ذلكَ عملُهُ؛ كما جاء في الأثر الذي أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن قال: "إنَّ الإيمانَ ليسَ بالتَّحلِّـي ولا بالتَّمَنِّي، إنَّ الإيمانَ ما وَقَرَ في القَلبِ وصدَّقَهُ العملُ".
أمَّا من تناقَضَ سُلوكُهُ مع اعتقادِهِ فهذا هوَ المنافقُ, قال تعالى: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[المنافقون: 1].
لماذا التَناقُضُ في حياةِ بعضِ المؤمنين؟
يا عباد الله: يَجِبُ على المؤمنِ أن يكونَ مُنصِفاً عندما يَسألُ: أينَ نَصْرُ الله لعِبادِهِ المؤمنين؟ يَجِبُ عليه قبلَ السُّؤالِ أن يَنظُرَ في حالِ الأمَّةِ بشكلٍ عام, ثم بعدَ ذلك يَسألُ هذا السُّؤالَ.
يا عباد الله: هل المؤمنُ الحقُّ يجترئُ على أكلِ الرِّبا وهوَ يقرأ قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[البقرة: 278]؟
والسؤال: كم هي نِسبةُ الرِّبا في صُفوفِ المؤمنين؟
والمرابونَ مُهَدَّدونَ بقول الله -تعالى-: (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ)[البقرة: 279].
يا عباد الله: هل المؤمنُ الحقُّ يتَّصِفُ بصفاتِ المنافقينَ الذين أشارَ إليهمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- بقوله: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً, وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ, وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ, وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"(رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-)؟
والسُّؤال: كم هي نِسبةُ الكَذِبِ في حديثِ المؤمنينَ إذا حَدَّثُوا؟ وكم هي نِسبةُ الخُلفِ في الوَعْدِ في صُفوفِ المؤمنينَ إذا وَعَدُوا؟ وكم هي نِسبةُ الخِيانَةِ في صُفوفِ المؤمنينَ إذا اؤتُمِنوا؟ وكم هي نِسبةُ الفُجورِ في صُفوفِ المؤمنينَ إذا اخْتَصَمُوا؟
يا عباد الله: هل المؤمنُ الحقُّ يجترئُ على السَّرِقَةِ, والنَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يقول: "وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"(رواه الإمام البخاري عن أبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-)؟
وكم هي نِسبةُ السَّرِقَةِ في صُفوفِ المسلمين؟
يا عباد الله: هل المؤمنُ الحقُّ يجترئُ على الزِّنا, والنَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ"(رواه الإمام البخاري عن أبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-)؟
وكم هي نِسبةُ الزِّنا في صُفوفِ المسلمين؟
يا عباد الله: هل المؤمنُ الحقُّ يجترئُ على تَكفيرِ المؤمنِ إذا خَالَفَهُ في مسألةٍ من مسائِلِ الفُروعِ, والنَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يقول: "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ, فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا, إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ, وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ"(رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-)؟
يا عباد الله: المؤمنُ الصَّادقُ يكونُ مُنصِفاً عادلاً يقولُ الحقَّ ولو على نفسِهِ, وذلك لقولهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ)[النساء: 135].
والسُّؤالُ يُوجَّهُ لمن أرادَ أن يُشَكِّكَ الناسَ في وَعْدِ الله -تعالى- الذي لا يُخلفُ, هل المجتمعُ اليومَ مُجتمعٌ يَتَّصِفُ بِصِفَة الإيمانِ الحقِّ الذي يستأهلُ النَّصرَ من الله -تعالى-؟ هل المجتمعُ اليومَ مُلتَزِمٌ دِينَ الله -تعالى-, يُحِلُّ الحلالَ ويُحَرِّمُ الحرامَ حتى يَنصُرَهُ الله -تعالى- الذي قَيَّدَ نَصرَهُم بِنَصرِهِ؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد: 7].
يا عباد الله: نحنُ نسألُ الله -تعالى- أن يُعامِلَنا بِفضلِهِ لا بِعدلِهِ, وأن يُعامِلَنا بالإحسانِ لا بالميزانِ, وأن لا يُعامِلَنا بِعَمَلِنا, إنَّهُ خيرُ مسؤولٍ ومأمولٍ.
أقول هذا القول, وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.