البحث

عبارات مقترحة:

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

سهر الليل (2) أقسام الناس في السهر

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. نوم الليل نعمة لا يعرفها إلا من حُرِمها .
  2. الليل للراحة والنهار للسعي والحركة .
  3. أقسام السهر في الليل .
  4. من أنواع السهر المشروع .
  5. من أنواع السهر المحرم .
  6. من أنواع السهر المباح .

اقتباس

وَالْأَصْلُ أَنَّ اللَّيْلَ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَأَنَّ النَّهَارَ لِلسَّعْيِ وَالْحَرَكَةِ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْأَحْيَاءَ، وَمُخَالَفَةُ هَذَا الْأَصْلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَدَلِيلُ النَّهْيِ عَنِ السَّهَرِ -إِلَّا إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ- قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ) [المؤمنون: 67]، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ), فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَيْتِ يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُهُ، (سَامِرًا) قَالَ: كَانُوا يَتَكَبَّرُونَ وَيَسْمُرُونَ فِيهِ وَلَا يَعْمُرُونَهُ، وَيَهْجُرُونَهُ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ خَلَقَ الْبَشَرَ بِقُدْرَتِهِ، وَدَبَّرَهُمْ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ؛ فَجَعَلَ نَوْمَهُمْ سُبَاتًا، وَلَيْلَهُمْ لِبَاسًا، وَنَهَارَهُمْ مَعَاشًا، وَهَدَاهُمْ لِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَدَفَعَ عَنْهُمْ مَا يَضُرُّهُمْ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَرَفَهُ المُؤْمِنُونَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ فَكُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِيَّتِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ، تَعَالَى فِي مَجْدِهِ، وَتَعَاظَمَ فِي مُلْكِهِ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الْأُمَّةَ، وَجَاهَدَ فِي اللهِ تَعَالَى حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينَ؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا فِي دُنْيَاكُمْ لِأُخْرَاكُمْ، وَخُذُوا مِنْ فَرَاغِكُمْ لِشُغْلِكُمْ، وَمِنْ صِحَّتِكُمْ لِسَقَمِكُمْ؛ فَإِنَّ الصِّحَّةَ وْالْفَرَاغَ يُغْبَطُ عَلَيْهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُمَا دَاءَانِ قَاتِلَانِ إِذَا لَمْ يُسْتَثْمَرَا فِيمَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُمَا، وَالْعَبْدُ مَسْؤُولٌ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَلَوْلَا أَنَّ الزَّمَنَ ثَمِينٌ لَما سُئِلَ الْعَبْدُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1 - 3].

أَيُّهَا النَّاسُ: نَوْمُ اللَّيْلِ نِعْمَةٌ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إِلَّا مَنْ فَقَدَهَا لِعِلَّةٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَرَقٍ أَوْ هَمٍّ أَوْ خَوْفٍ. وَاللَّيْلُ قَصِيرٌ عَلَى النَّائِمِينَ وَالمُتَهَجِّدِينَ، وَطَوِيلٌ عَلَى المَرْضَى وَالمَهْمُومِينَ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ اللَّيْلَ لِلرَّاحَةِ وَالنَّوْمِ، وَأَنَّ النَّهَارَ لِلسَّعْيِ وَالْحَرَكَةِ، وَهِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْأَحْيَاءَ، وَمُخَالَفَةُ هَذَا الْأَصْلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَدَلِيلُ النَّهْيِ عَنِ السَّهَرِ -إِلَّا إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ- قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ) [المؤمنون: 67]، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ), فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَيْتِ يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُهُ، (سَامِرًا) قَالَ: كَانُوا يَتَكَبَّرُونَ وَيَسْمُرُونَ فِيهِ وَلَا يَعْمُرُونَهُ، وَيَهْجُرُونَهُ". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

وَوَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْحَدِيثِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ؛ وَلِأَنَّ السَّهَرَ مَظِنَّةُ تَضْيِيعِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمَا أَدَّى إِلَى مُحَرَّمٍ فَهُوَ مُحَرَّمٌ. فَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُنْهَى عَنِ السَّهَرِ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ.

وَسَهَرُ اللَّيْلِ عَلَى أَقْسَامٍ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ:

فَمِنْ سَهَرِ الطَّاعَةِ: السَّهَرُ فِي المُرَابَطَةِ وَحِرَاسَةِ ثُغُورِ المُسْلِمِينَ؛ لِئَلَّا يَقْتَحِمَهَا عَدُوٌّ، وَفِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَمِنْ سَهَرِ الطَّاعَةِ: السَّهَرُ عَلَى مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ، وَفِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الأَمْرِ مِنْ أَمْرِ المُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَجَاءَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ لمَّا وُكِلَ بِالْأَمْرِ بَعْدَ طَعْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سَهِرَ لَيَالِيَ يَعْمَلُ وَيَسْتَشِيرُ، حَتَّى انْعَقَدَتِ الْبَيْعَةُ لِعُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

فَهَذَانِ النَّوْعَانِ مِنَ السَّهَرِ مِنْ أَعْظَمِ الطَّاعَاتِ، وَأَجَلِّ الْقُرُبَاتِ، إِذَا حَسُنَتِ النِّيَّةُ فِيهِمَا؛ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِيهِمَا؛ وَلِأَنَّ نَفْعَهُمَا يَعُمُّ المُسْلِمِينَ.

وَمِنَ السَّهَرِ المُسْتَحَبِّ: السَّهَرُ لِإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَمُؤَانَسَةِ الْأَهْلِ، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: بَابُ السَّمَرِ مَعَ الضَّيْفِ وَالْأَهْلِ، وَسَاقَ تَحْتَهُ حَدِيثًا طَوِيلًا فِي سَهَرِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِإِطْعَامِ ضُيُوفِهِ، وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُ سَمَرَ مَعَ بَعْضِ الْوُفُودِ الَّتِي زَارَتْهُ، وَثَبَتَ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سَمَرَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَ زَوْجِهِ مَيْمُونَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- ثُمَّ رَقَدَ، ثُمَّ قَامَ آخِرَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ.

وَلمَّا كَانَ إِينَاسُ الْأَهْلِ مِنْ حُسْنِ المُعَاشَرَةِ، وَكَانَ إِكْرَامُ الضَّيْفِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؛ كَانَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ السَّهَرِ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى تَضْيِيعِ فَرِيضَةٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ السَّهَرُ لَهُ عَادَةً.

وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدَ عَنِ الرَّجُلِ يَقْعُدُ مَعَ عِيَالِهِ بَعْدَمَا يُصَلِّي يَتَحَدَّثُ ثُمَّ يَنَامُ: هَلْ يُحْرَجُ؟! قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْحَدِيثَ وَالسَّمَرَ بَعْدَهَا.

وَمِنَ السَّهَرِ المَشْرُوعِ: السَّهَرُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَمُذَاكَرَتِهِ؛ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَدَّثَ أَصْحَابَهُ وَوَعَظَهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَبَوَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: بَابُ السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ. وَسَاقَ تَحْتَهُ حَدِيثَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ السَّمَرِ لِلْحَدِيثِ وَالمَوْعِظَةِ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَمَقْصُودُ الْبُخَارِيِّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى جَوَازِ المَوْعِظَةِ وَذِكْرِ الْعِلْمِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ السَّمَرِ المَنْهِيِّ عَنْهُ... وَنَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ السَّمَرُ فِي الْعِلْمِ".

وَقَدَ سَمَرَ عُمَرُ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي مُذَاكَرَةِ الْفِقْهِ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: الصَّلَاةَ -يَعْنِي: صَلَاةَ اللَّيْلِ- فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا فِي صَلَاةٍ. فَجَعَل -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- طَلَبَ الْعِلْمِ مِثْلَ الصَّلَاةِ.

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الْعُكْلِيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْقَعْقَاعُ بْنُ يَزِيدَ، وَمُغِيرَةُ "إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، جَلَسُوا فِي الْفِقْهِ، فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَذَانُ الصُّبْحِ".

وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: تَذَكَّرَ ابْنُ شِهَابٍ لَيْلَةً بَعْدَ الْعِشَاءِ حَدِيثًا وَهُوَ جَالِسٌ مُتَوَضِّئًا قَالَ: "فَمَا زَالَ ذَلِكَ مَجْلِسَهُ حَتَّى أَصْبَحَ"، قَالَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ: جَعَلَ يَتَذَاكَرُ الْحَدِيثَ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ: "قُمْتُ لِأَخْرُجَ مَعَ ابْنِ المُبَارَكِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَذَاكَرَنِي عِنْدَ الْبَابِ بِحَدِيثٍ أَوْ ذَاكَرْتُهُ، فَمَا زِلْنَا نَتَذَاكَرُ حَتَّى جَاءَ المُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ".

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: "كَانَ يُقَالُ: لَا سَمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، إِلَّا لِمُصَلٍّ، أَوْ مُسَافِرٍ. قَالَ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُبَ الشَّيْءَ، أَوْ يَعْمَلَ بَعْدَ الْعِشَاءِ".

قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَهَرَ الْإِنْسَانِ فِي عَمَلٍ يَعْمَلُهُ وَحْدَهُ، مِنْ غَيْرِ مُسَامَرَةٍ لِغَيْرِهِ، أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ المُسَامَرَةِ وَالمُحَادَثَةِ".

وَالسَّهَرُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى تَضْيِيعِ فَرِيضَةٍ.

وَمِنَ السَّهَرِ المُحَرَّمِ: سَهَرُ مَنْ يَتَّخِذُونَ السَّهَرَ عِبَادَةً لِتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَمَنْعِ نَعِيمِهِ مِنَ النَّوْمِ كَمَا يُعَذِّبُونَهُ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَتَرْكِ الطَّيِّبِ مِنَ الطَّعَامِ، وَشُرْبِ المَاءِ المَالِحِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنَامُ وَيَأْكُلُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحِبُّ المَاءَ الْحُلْوَ الْبَارِدَ. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ غَالِبُهُمْ مِنَ الصُّوفِيَّةِ أَوْ أَصْحَابِ المَذَاهِبِ الرُّوحَانِيَّةِ، أَخَذُوا هَذَا الدِّينَ عَنْ بَرَاهِمَةِ الْهِنْدِ وَرُهْبَانِ النَّصَارَى، وَتَسَرَّبَتْ بَعْضُ مَقُولَاتِهِمْ فِي كُتُبِ الزُّهْدِ وَالْوَعْظِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ فِي التَّعَبُّدِ مُخَالِفَةٌ لِشَرْعِ اللهِ تَعَالَى، مُجَافِيَةٌ لِهَدْيِ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَمَنْ عَظَّمَ مُطْلَقَ السَّهَرِ وَالْجُوعِ وَأَمَرَ بِهِمَا مُطْلَقًا فَهُوَ مُخْطِئٌ، بَلِ المَحْمُودُ السَّهَرُ الشَّرْعِيُّ، وَالْجُوعُ الشَّرْعِيُّ". يُرِيدُ سَهَرَ الطَّاعَةِ، وَالْجُوعُ الشَّرْعِيُّ يُرِيدُ بِهِ الصَّوْمَ.

وَكَذَلِكَ يُنْهَى عَنْ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ"، رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَصَوَّبَ فِعْلَ سَلْمَانَ لمَّا أَمَرَ أَبَا الدَّرْدَاءِ أَنْ يَنَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّيَا آخِرَ اللَّيْلِ، وَقَالَ: "إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "صَدَقَ سَلْمَانُ". وَأَخْبَرَ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ أَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّـهِ صَلَاةُ دَاوُدَ: كان يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ.

وَقَدْ يُعْذَرُ مَنْ غَلَبَهُ الْخَوْفُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَلَمْ يُغْمَضْ لَهُ جَفْنٌ بِلَيْلٍ، فَيَقْضِي لَيْلَهُ مُتَفَكِّرًا أَوْ ذَاكِرًا أَوْ مُصَلِّيًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ السَّهَرَ، لَكِنَّ شِدَّةَ خَوْفِهِ غَلَبَتْ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا جَاءَ عَنْ بِشْر بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ كَانَ طَوِيلَ السَّهَرِ يَقُولُ: أَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّـهِ وَأَنَا نَائِمٌ.

وَكَانَتْ أُمُّ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ تُنَادِي ابْنَهَا رَبِيعًا تَقُولُ: "يَا رَبِيعُ: أَلَا تَنَامُ، فَيَقُولُ: يَا أُمَّهْ: مَنْ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ وَهُوَ يَخَافُ السَّيِّئَاتِ حُقَّ لَهُ أَلَّا يَنَامَ، قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ وَرَأَتْ مَا يَلْقَى مِنَ الْبُكَاءِ وَالسَهَرِ نَادَتْهُ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ: لَعَلَّكَ قَتَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ -يَا وَالِدَةُ- قَدْ قَتَلْتُ قَتِيلًا، فَقَالَتْ: وَمَنْ هَذَا الْقَتِيلُ -يَا بُنَيَّ- حَتَّى نَتَحَمَّلَ إِلَى أَهْلِهِ فَيُغْتَفَرَ لَكَ، وَاللَّـهِ لَوْ يَعْلَمُونَ مَا تَلْقَى مِنَ السَّهَرِ وَالْبُكَاءِ بَعْدُ، لَقَدْ رَحِمُوكَ؟! فَقَالَ: يَا وَالِدَةُ: هِيَ نَفْسِي".

وَلَا يُظَنُّ بِهَؤُلَاءِ أَنَّ النَّوْمَ يُجَافِي أَعْيُنَهُمُ اللَّيْلَ كُلَّهُ خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالَى ثُمَّ يَنَامُونَ عَنْ فَرِيضَةٍ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنِ السَّهَرِ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَذًى لِلْجَسَدِ؛ وَلِأَنَّهُ مَظِنَّةُ تَفْوِيتِ فَرِيضَةِ الْفَجْرِ. وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَأَسْهَرَهُمْ.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَمْلَأَ قُلُوبَنَا بِتَعْظِيمِهِ وَخَشْيَتِهِ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَأَنْ لَا يُعَذِّبَنَا بِذُنُوبِنَا وَلَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنَ السَّهَرِ المُبَاحِ: السَّهَرُ عَلَى عَمَلٍ لَهُ أَوْ مَصْلَحَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ قَضَاءَهَا إِلَّا بِاللَّيْلِ، كَمَنْ يَشْتَغِلُ فِي اللَّيْلِ بِجَرْدِ تِجَارَتِهِ، وَحِسَابِ أَرْبَاحِهِ، أَوْ بِالتَّأْلِيفِ أَوِ الْبَحْثِ أَوِ الْكِتَابَةِ أَوِ الْقِرَاءَةِ وَلَوْ فِي عُلُومٍ دُنْيَوِيَّةٍ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَصْفُو ذِهْنُهُ إِلَّا فِي اللَّيْلِ. وَكَقِيَامِ المَرْأَةِ بِعَمَلِ المَنْزِلِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَمَا تُنَوِّمُ أَطْفَالَهَا، فَتُنْجِزُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُنْجِزُهُ فِي النَّهَارِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ وَالْحَمْدُ للهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى تَضْيِيعِ فَرِيضَةٍ، كَمَنْ يَنَامُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ.

قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "النَّهْيُ عَنِ السَّمَرِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ هُجْرِ الْقَوْلِ أَوْ لَغْوِهِ، أَوْ لِأَجْلِ خَوْفِ فَوْتِ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ هَذَا أَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَاجَةٌ أَوْ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ فَلَا حَرَجَ فِيهِ".

وَالمُسَافِرُ يَقْطَعُ فِي اللَّيْلِ مَا لَا يَقْطَعُ فِي النَّهَارِ؛ وَلِأَنَّ اللَّيْلَ آنَسُ فِي السَّفَرِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، فَجَازَ السَّهَرُ لِلْمُسَافِرِ. وَلَوْ قَطَعَ طَرِيقَهُ بِسَمَاعِ مَا يَنْفَعُهُ كَانَ ذَلِكَ طَاعَةً فِي سَفَرٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي طَرِيقِ مَكَّةَ لَيْلًا، وَكَانَ يُحَدِّثُنِي بِالْحَدِيثِ فَأَكْتُبُهُ فِي وَاسِطَةِ الرَّحْلِ، حَتَّى أُصْبِحَ فَأَكْتُبَهُ".

وَالنَّوْمُ المُبَكِّرُ يُعِينُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَهُوَ أَصَحُّ لِلْبَدَنِ، وَأَشْرَحُ لِلصَّدْرِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا احْتَضَرَ يَأْسَى مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مُكَابَدَةِ اللَّيْلِ، يَعْنِي: بِالْقِيَامِ لِلتَّهَجُّدِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الْخِذْلَانِ، وَأَشَدِّ الْخُسْرَانِ: السَّهَرُ عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى، وَهُوَ غَالِبُ سَهَرِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، فَسَهَرٌ عَلَى الْفَضَائِيَّاتِ، أَوْ تَجَمُّعٌ فِي الِاسْتِرَاحَاتِ، أَوْ تَسَكُّعٌ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ. وَشَبَكَاتُ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ تَنْشَطُ فِي اللَّيْلِ أَكْثَرَ مِنَ النَّهَارِ، وَفِيهَا مِنَ المُحَادَثَاتِ المُحَرَّمَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغِيبَةِ وَاللَّغْوِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ، وَالْوَاحِدُ مِمَّنْ يَسْهَرُونَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يَتَثَاقَلُ عَنِ الْوِتْرِ، وَرُبَّمَا تَثَاقَلَ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَهُوَ يُمْضِي اللَّيْلَ كُلَّهُ يُكَابِدُ السَّهَرَ، وَعَيْنَاهُ مُحَمْلِقَةٌ فِي جِهَازِهِ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَيَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ الْهِمَمِ أَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَسْهَرُ فِي سَمَاعِ سَمَرٍ، وَلَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ السَّهَرُ فِي سَمَاعِ الْقُرْآنِ!".

وَإِجَازَةُ الطُّلَّابِ مُقْبِلَةٌ وَهِيَ أُمُّ السَّهَرِ، حَيْثُ يُقْلَبُ اللَّيْلُ إِلَى نَهَارٍ، وَالنَّهَارُ إِلَى لَيْلٍ فِي أَكْثَرِ الْبُيُوتِ، فَعَلَى كُلِّ طَالِبٍ وَطَالِبَةٍ أَنْ يَكُونَ سَهَرُهُمَا فِيمَا يَنْفَعُهُمَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، وَعَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالمُرَبِّينَ وَالمُرَبِّيَاتِ تَوْجِيهُ ظَاهِرَةِ السَّهَرِ الَّتِي انْتَشَرَتْ فِي الْبُيُوتِ إِلَى مَا يَنْفَعُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ؛ فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا لَمْ تُشْغَلْ بِمَا يَنْفَعُ شَغَلَتْ صَاحِبَهَا بِمَا يَضُرُّ. وَالتَّوْجِيهُ يَكُونُ بِالمَوْعِظَةِ وَالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ. كَمَا يَكُونُ بِتَوْفِيرِ الْبَدَائِلِ المُلَائِمَةِ، وَالتَّكْلِيفِ بِأَعْمَالٍ نَافِعَةٍ، وَوَضْعِ الْحَوَافِزِ المَادِّيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ عَلَى إِنْجَازِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الْأَوْلَادِ مِنْ أَسْبَابِ الضَّيَاعِ وَالِانْحِرَافِ.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الصَّلَاحَ وَالِاسْتِقَامَةَ لَنَا وَلِأَوْلَادِنَا وَأَوْلَادِ المُسْلِمِينَ.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...