البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

البر

البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

صاحب النبي -صلى الله عليه وسلم- (2)

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. بلوغ أبي بكر مرتبة الكمال في صدق المحبة وشواهد ذلك .
  2. تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر بالصحبة ووصفه بالمعية .
  3. تضحية أبي بكر بماله .
  4. تميز أبي بكر بأعمال القلوب .

اقتباس

لم يقتصر إطلاق مسمى الصحبة في صورتها الخاصة الفردية على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل الله ذاته خص أبا بكر بها، وشهد له بها من فوق سبع سموات، قال تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40]. لم يقل: إن الله معي، بل قال: "معنا" أنا وأنت يا أبا بكر. الله معنا في استواء المصير، معنا في توافق الأهداف، معنا في اجتماع قلبين على محبته، ونصرة دينه، معنا في صراعنا...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة: كل مسلم يحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي كل يزعم محبته، لكن هذه المحبة وإن ثبتت فإنها تتراوح بين مسلم وآخر.

وتبقى محبة أبي بكر للرسول -صلى الله عليه وسلم- التي عملت، على جعله خير هذه الأمة بعد نبيها، أكبر وأكمل محبة، حتى قيام الساعة، لماذا هي كذلك؟

لأنها اقترنت بالصدق.

لقد كانت محبته رضي الله عنه أصدق محبة، كانت محبته فيها الوفاء بكل صورة.

وفيها الإيثار بأرقى درجاته، محبة فيها النصرة التامة، والطاعة المطلقة، والنصح ظاهرا وباطنا.

لقد كان صادقا في محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولا وعلما؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أحب عندي أبي بكر من نفسه وماله وولده والناس أجمعين، بل فاق حبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- حب جميع الصحابة.

ولذلك اصطفاه النبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيره، صاحبا له في هجرته السرية التاريخية المحفوفة بالمخاطر.

ففي حديث عروة عن عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه البخاري: هاجر ناس إلى الحبشة من المسلمين، وتجهز أبو بكر مهاجرا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: أو ترجوه بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على النبي -صلى الله عليه وسلم- لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر أربعة أشهر، قال عروة: قالت عائشة فبينا نحن يوما جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة، فقال: قائل لأبي بكر هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فدا لك أبي وأمي، والله إن جاء به في هذه الساعة إلا لأمر، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل، فقال حين دخل لأبي بكر: أخرج من عندك، قال: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، قال: فالصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: نعم.

وزاد ابن إسحاق في روايته، قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح، قال أبوبكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: بالثمن.

وهكذا اتفقا الصاحبان المخلصان، اتفاقهما المصيري المبارك، خير البشرية محمد، وصديقه الصديق أبو بكر.

قالت عائشة: فجهزناهما حتى الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، قالت: ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمن فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب، فعندما يصبح يرجع إلى مكة، كأنه بائت معهم، فلا يسمع أمراً يتآمرون به إلا وعاه، حتى يرجع قبل غروب الشمس إلى الغار، فيخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ما يحدث في مكة.

إن محبة الصادقين تظهر دلائلها على هيئة أفعال ومواقف، لا أقوال وأمنيات، في دلائل النبوة، في البيهقي من مرسل محمد بن سرين: أن أبابكر ليلة انطلق مع رسول الله إلى الغار، كان يمشي بين يديه ساعة، ومن خلفه ساعة، فسأله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أذكر الطلب -يعني الأعداء - فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون لك دوني؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق ما كانت لتكن من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك، فلما انتهينا من الغار، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "مكانك يا رسول الله حتى استبري لك الغار، فدخل فاستبراه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبر الجحرة، فقال: مكانك يا رسول الله حتى استبري الجحرة، فدخل فاستبرأ، ثم قال: انزل يا رسول الله".

سبحان الله! هكذا قلب المحب إذا صدق وأخلص في محبته! لا يهدأ إلا إذا قرت عينه برؤية حبيبه! سالما معافى ولو فداه بنفسه.

هكذا المخلصون في كلِّ صوبٍ

رَشَقَاتُ الرَّدَى إليهم مُتَاحَهْ

وبطولِ المَدى تُريكَ الليالي


إن رسول الله -أيها الإخوة-: أعلم الناس وأحكمهم في اختيار أصحابه، كيف لا والله يؤيده ويرشده للصواب في كل أمره، فيكشف له عدوه، ويثني على صديقه ووليه، لا سيما في مجال دعوته.

ولما كان صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك الوفاء العجيب، والمحبة الصادقة في أبي بكر له، سماه صاحبي، ولم يسم فردا من الصحابة مستقلا بعينه صاحبي، سوى أبي بكر، فإذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صاحبي" عرفوا أنه يقصد أبو بكر.

قال صلى الله عليه وسلم: "لَبِثْتُ مَعَ صَاحِبِي يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِضْعَةَ عَشْرَ أَوْ عِشْرِينَ يَوْمًا مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْبَرِيرِ" قَالَ أَبُو دَاوُدَ : الْبَرِيرُ : الْأَرَاكُ [رواه أحمد والحاكم].

ما أجمل أن يخص النبي الكريم سيد المرسلين، وخليل الله، وأفضل خلقه أجمعين -صلى الله عليه وسلم-! ما أجمل أن يخص رجلا بالصحبة أمام الناس، فإذا قصده، قال: "صاحبي!".

سبحان الله! النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا! أليس هذا أرجى نداء؟ أليست هذه أجمل صفة؟

عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: كنت جالسا عند النبي -صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثلاثا.

ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسلم، فجعل وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها"[رواه البخاري].

ولم يقتصر اطلاق مسمى الصحبة في صورتها الخاصة الفردية على النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل إن الله ذاته خص أبا بكر بها، وشهد له بها من فوق سبع سموات، قال تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].

لم يقل: إن الله معي، بل قال: معنا، أنا وأنت يا أبا بكر.

الله معنا في استواء المصير، معنا في توافق الأهداف، معنا في اجتماع قلبين على محبته، ونصرة دينه، معنا في صراعنا مع الباطل.

 (إن الله معنا) إنها معية التأييد، اشترك أبو بكر في تلك المعية المباركة مع رسول الله، ولذلك لما قال أبو بكر؛ كما في الصحيحين: "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه" فقال صلى الله عليه وسلم  مطمئنا له: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

يا له من شرف!.

لقد بارك الله في هذه الصحبة المبنية على صفاء الحب في الله، ورعاها -جل وعلا-، وحفظها من كل مكروه.

والله -تعالى- إنما يبارك في الصحبة إذا كانت خالصة في ذاته جل وعلا.

أما إذا شاب المحبة شائب من شوائب الدنيا، فكانت محبة من أجل المال مثلا، أو من أجل الحفاظ على الجاه، أو الحفاظ على المنصب، أو كانت محبة عصبية جاهلية، أو كانت مجرد محبة أنس وضحك، ولهو ولعب، ولو في المعصية، فإن الله -تعالى- يجعل عاقبتها في الدنيا قريبا، أو في الآخرة من بعد؛ خسارة وندامة وعداوة.

قال تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف: 67].

فالتقوى، هي أعظم وأسلم رابطة بين شخصين.

والتقوى هي التي جمعت بين قلب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقلب أبي بكر -رضي الله عنه-.

وإذا اجتمعت القلوب على حب الله وتعظيمه وتوقيره وطاعته، كان لها المقام المرموق يوم القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"[رواه مسلم].

بل إن الله -تعالى- أوجب محبته للمتحابين بهذه النية، في صحيح ابن حبان عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: "دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه، إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت -أي بكرت- فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، وقلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟ قلت: آلله، فأخذ بحبوة ردائي وجذبني إليه، وقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله -تبارك وتعالى-: "وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في".

فتشوا -أيها الإخوة-: عن هذا النوع من أنواع المجالس، وأنواع الزيارات، في حياتكم، وفتشوا عن هذا النوع من أنواع المحبة في قلوبكم، وبادروا بإحياء القلب بها، فإن الله -تعالى- ليكرم العبد جزاء إجرائه تلك المحبة على قلبه.

قال صلى الله عليه وسلم: "ما أحب عبد عبدا في الله -عز وجل- إلا أكرمه الله"[رواه البيهقي].

أسأل الله أن يجمع قلوبنا على محبته.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، نبينا وسيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فإن الصديق -رضي الله عنه- لما اكتملت مشاعر الإيمان في قلبه، هان عليه الغالي والنفيس في سبيل إعزاز دينه، هانت عليه راحته، هان عليه أهله، هان عليه ولده، هان عليه ماله، هان عليه هؤلاء صدقا.

ولذلك نجده إذا جهز للدعوة بلغ جهده أقصى حد، بل حد التضحية بالنفس، وهو شأنه في الإنفاق، فبالرغم من قلة ماله رضي الله عنه إلا أنه إذا بذل، بذل كل ما لديه، ولهذا بارك الله -تعالى- في نفع ماله القليل في الإسلام، ما لم يبارك في غيره من الأموال ولو كثرت، فكان ماله للإسلام أنفع مال.

وقد صرح بذلك نبي الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبوبكر".

ويتأثر قلب أبي بكر بهذه الكلمات، يتأثر القلب الرقيق القلب الصادق القلب المخبت المتواضع، فيبكي أبو بكر تأثراً، ويقول: "وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟"[رواه أحمد].

وفي لفظ آخر: "فبكى أبو بكر، وقال: وهل نفعني الله الا بك؟ وهل نفعني الله الا بك؟ وهل نفعني الله الا بك؟".

أيها الإخوة: إن الصلة بين الإيمان وظاهر العمل صلة دائمة لا تنفك، ولهذا يحرص اللبيب في حياته كلها، في سلوكه وخلقه وعبادته على توافق الباطن مع الظاهر، بلا تناقض ولا تضاد، بل إن المؤمن إذا ازداد فقها بطبيعة الأعمال الصالحة، عرف أن التفاضل في العمل حين كتابة الدرجات، ورصد الحسنات، لا يتناول الأعمال بشكلها الظاهر على الجوارح فحسب، بل بعمقها الممتد إلى القلب.

ولهذا قال الحافظ ابن رجب: أكثر تطوع النبي -صلى الله عليه وسلم- وخواص أصحابه ؟ لم يكن أكثر تطوع النبي وخواص أصحابه بكثرة الصوم والصلاة ، بل ببر القلوب وطهارتها وسلامتها وقوة تعلقها بالله ، خشية له ومحبة ، وإجلالا وتعظيما ، ورغبة فيما عنده ، وزهدا فيما يفنى

ألا ترون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤكد هذا المفهوم حين يقول: "أبغوني ضعفاءكم؟"

أي أعينوني على طلب الضعفاء؛ ليكونوا بيننا.

والضعفاء هم الذين يرجون الله والدار الآخرة، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، هم الذين يطيعون لله بخضوع وتواضع وخشية، أصحاب القلوب المخبتة المنكسرة، الذين لا يؤبه لهم، فقراء: "فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم".

أي ببركة دعائهم، ورقة قلوبهم.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم"[رواه النسائي].

هكذا ينبغي أن نفهم الإسلام كلما أصلح العبد قلبه وطهره؛ كلما ارتفعت منزلته، وبورك في عمله.

فالظاهر بدون صدق له في الباطن لا قيمة له، ولو اغتر الناس بالمظهر وأبهرهم، والباطن بدون صدق في الظاهر كذب وغرور.

إن أعمال القلب -أيها الإخوة-: هي التي ترفع قيمة العمل الظاهر؛ فالتواضع، والخشية، والخضوع، والخشوع، والصدق، والإخلاص، هي التي تصقل العمل الصالح، وتصبغ عليه قيمته عند الله، بشرط: أن يكون العمل صحيحا على هدي النبوة.

وأن يكون هناك عمل، لكن الذين يزعمون الإيمان والتقوى، وهم لا عمل لهم، ولا طاعة ولا اتباع! ففي إيمانهم خلل.

إن الإيمان كتلة متجانسة من المشاعر الباطنة، والأعمال الظاهرة، كتلة لا تنفصل ولا تنفك.

وبفقه هذا المفهوم وتطبيقه وممارسته؛ سبق أبي بكر غيره من الناس، بشيء وقر في صدره قبل أن يظهر في عمله.

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها؛ أنت وليها ومولاها.

اللهم ارض عن الصديق، وسائر الصحابة أجمعين...