الطيب
كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...
العربية
المؤلف | محمد أبوعجيلة أحمد الككلي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
ليس في الصحابة مَن أسلم أبوه وأمُّه، وأولاده وأولاد أولاده، وأدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- سواه؛ قال شيخ الإسلام: "فهم أهل بيت إيمان، ليس فيهم منافق، ولا يعرف هذا لغير بيت أبي بكر، وكان يقال: للإيمان بيوت، وللنفاق بيوت، وبيت أبي بكر من بيوت الإيمان". ومن هذا البيت العامر بالإيمان خرجت عـ...
الخطبة الأولى:
عبادَ الله: أجمع المسلمون على أنَّ الصحابة رأسُ الأولياء، وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين، وأسوة المسلمين، وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين؛ روى أحمد عن عبد الله بن مسعود: "إنَّ الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمَّد -صلى الله عليه وسلم- خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيِّه، يقاتلون على دينه".
وأفضلُ الصَّحابة الخلفاءُ الأربعة، ثم بقيَّة العشرة المبشَّرين بالجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "خير هذه الأمَّة بعد نبيِّها أبو بكر، ثم عمر"[البخاري].
وقال صلى الله عليه وسلم: "اقتَدوا باللَّذَيْنِ مِن بعدي: أبي بكر وعمر"[أحمد وابن ماجة].
وحديثنا اليوم عن رجل لا كالرجال، وفذٍّ لا كالأفذاذ، يكفيه أنه صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن عثمان بن عامر، أبو بكر الصديق، وكان يُلقَّب بعتيق الله، ثم لُقب بالصدِّيق.
رجل عظيم القدر، رفيع الشأن، شديد الحياء، كثير الورع، حازم، رحيم، تاجر، كريم، شريف، غني بماله وجاهه وأخلاقه، لم يشرب الخمر قط؛ لأنه سليم الفطرة، سليم العقل، ولم يعبد صنمًا قط؛ بل يكثر التبرم منها، ولم يُؤثَر عنه كذبة قط، نصر الرسولَ يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدَّقه يوم كذَّبه الناس، أثنى عليه جل وعلا في كتابه فقال: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].
شهِد له ربُّ العالمين بالصُّحبة، وبشَّره بالسَّكينة، وحلاَّه بثاني اثنين؛ قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "مَن يكون أفضل ثاني اثنين الله ثالثهما؟!".
وقال عليه الصلاة والسلام: "ما نفعني مالٌ قطُّ ما نفعني مال أبي بكر" فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: هل أنا ومالي إلاَّ لك يا رسول الله؟!
وهو أول مَن أسلم من الرجال، وهو أول مَن يدخل الجنة بعد الأنبياء، ويُدعَى من أبواب الجنة كلها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثني عليه دائمًا، ويقول: "جئتُ أنا وأبو بكر وعمر".
ويقول صلى الله عليه وسلم : "لو كنتُ متخذًا خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي"[البخاري].
وأنزل الله في فضائل أبي بكر -رضي الله عنه- آياتٍ من القرآن؛ منها: قول الله -عز وجل-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)[النور: 22].
لا خلافَ أنَّ ذلك في أبي بكر -رضي الله عنه- فنعته بالفضلِ -رضوان الله عليه-.
دعي إلى الإسلام، فما كبا ولا نبا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما عرضتُ هذا الأمرَ على أحد، إلا كانت منه كبوة وتردُّد، إلا ما كان من أبي بكر، ما أن عرضت عليه الأمر، حتى صدقني وآمن بي".
سماه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الصدِّيق".
ليس في الصحابة مَن أسلم أبوه وأمُّه، وأولاده وأولاد أولاده، وأدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- سواه؛ قال شيخ الإسلام: "فهم أهل بيت إيمان، ليس فيهم منافق، ولا يعرف هذا لغير بيت أبي بكر، وكان يقال: للإيمان بيوت، وللنفاق بيوت، وبيت أبي بكر من بيوت الإيمان".
ومن هذا البيت العامر بالإيمان خرجت عائشة بنت الصديق -رضي الله عنها-، وفيه ترعرعت على يد والدها، فقد كان صوَّامًا قوامًا، وإذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، في يوم واحد تبع جنازة، وأطعم مسكينًا، وعاد مريضًا.
وهو أول مَن أوذي بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ روى البخاري عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تعرَّض له سفهاءُ قريش وهو يطوف بالبيت وآذَوْه، فلم يطق أبو بكر -رضي الله عنه- ذلك، ودخل يدفع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يضربون أبا بكر، حتى ضربه عتبة بن ربيعة بنعلين مخصوفتين على وجهه، حتى ما يُعرَف أنفُ أبي بكر من وجهه؛ من كثرة الدم، وحلَف بنو تيم -قوم أبي بكر- إن مات ليقتلُنَّ به عتبة بن ربيعة، فلما أفاق أبو بكر -وكان مغشيًّا عليه، فحمله أهله إلى البيت- كان أول ما قال: ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وأبى أن يأكل أو يشرب، حتى يحملوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليطمئن عليه.
أعتق عشرين من الصحابة من ربقة العبودية، الذين كانوا يعذَّبون بأشد أنواع العذاب وأقساه، وأنفق في ذلك أربعين ألف دينار؛ قال له صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر، إن بلالاً يعذَّب في الله".
فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فانصرف إلى منزله، فأخذ رطلاً من ذهب، فاشتراه فأعتقه، ولرأفته رضي الله عنه كان يُسمى: "الأوَّاه".
وفي الهجرة، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "بينما نحن جلوس يومًا في حرِّ الظهيرة، وإذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبدًا، فيقول أبو بكر: فداء له أبي وأمي، ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس على سرير أبي بكر، وقال: "أخرِجْ مَن عندك يا أبا بكر" قال: إنما هم أهلُك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: "فإن الله قد أذِنَ لي في الهجرة" قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبةَ يا رسول الله، قال: "الصحبة يا أبا بكر" قالت عائشة: "فو الله، ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يومئذٍ يبكي من الفرح"[أخرجه البخاري].
وفي جبل أجرد، في غارٍ قفرٍ مخوف، فبلغ الروعُ صاحبَه، فقال: يا رسول الله، والله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو واثق بربه: "يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!" ولما سارا في طريق الهجرة كان يمشي حينًا أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- وحينًا خلفه، وحينًا عن يمينه، وحينًا عن شماله.
ولما هاجر مع الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ ماله كلَّه في سبيل الله.
وحين مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يُصلي بالناس؛ ولذا قال عمر -رضي الله عنه-: أفلا نرضى لدنيانا مَن رضيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا؟!
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناسَ، وقال: "إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبدُ ما عند الله" قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أنْ يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخيَّر، وكان أبو بكر أعلَمَنا"[البخاري ومسلم].
وحينما تمَّت له البيعة بإجماع من المهاجرين والأنصار، وقف خطيبًا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أخْذ البيعة، قال: "أيها الناس، إني قد وُلِّيتُ عليكم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصِّدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌّ عندي حتى آخذ الحق له -إن شاء الله- والقوي فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- لا يَدَع قومٌ الجهادَ في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذُّل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم".
ووقف للرِّدة التي وقعت بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- موقفًا لا هوادة فيه ولا ليونة، وقال كلمته المشهورة: "والله لأقاتلن مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونها إلى رسول الله، لقاتلتُهم على منعها".
وفي عهده فُتِحت فتوحات الشام، وفتوحات العراق، وفي عهده جُمع القرآن.
مات أبو بكر -رضي الله عنه- وما ترك درهمًا ولا دينارًا: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)[الأحزاب: 23].
الخطبة الثانية:
كان أبو بكر -رضي الله عنه- ورعًا زاهدًا في الدنيا، وكان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه[رواه البخاري].
وروى مالك في "الموطأ": أن عمر بن الخطاب دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مَهْ، غفر الله لك! فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد.
ورأى طيرًا واقعًا على شجرة، فقال: طوبى لك يا طير، والله لوددتُ أني كنت مثلك تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر، ثم تطير، وليس عليك حساب ولا عذاب، والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانب الطريق، مر عليَّ جمل فأخذني، فأدخلني فاه فلاكني، ثم ازدردني، ثم أخرجني بعرًا، ولم أكن بشرًا.
فرضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في دار كرامته.
أعلم بأنني لم أوفِّ أبا بكر حقَّه، فقد أتعب مَن بعده، حتى من ترجموا له، فكيف بمن يقتطف مقتطفات من سيرته؟
عباد الله: إن سيرة الصحابة والاقتداء بهم نهجٌ غفل عنه البعض، وطواه النسيان عند آخرين، ومعرفة سيرتهم وفضائلهم سببٌ لمحبتهم، وتقرب إلى الله بذلك، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "المرء مع من أحبَّ"[رواه مسلم].
وقد ذكر ابن الجوزي: "أن السلف كانوا يُعلِّمون أولادهم حب أبي بكر وعمر، كما يعلمونهم السور من القرآن".
فلازِمِ الصدقَ، وأنفِقِ ابتغاء وجه الله، وأحسِن إلى الخلق، واصبر على الأذى، واقتصر على الكسب الحلال، وتعفف عما في أيدى الناس، وازهد في الحياة.