المحسن
كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن صالح الدهش |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - السيرة النبوية |
الحديث عن المؤذن الأول في الإسلام لا تمل منه النفوس، وهكذا العظماء في الأمم تبقى أخبارهم خطوطاً عريضة لا تستوعب سنوات حياتهم، ولعل جزءاً من سبب ذلك أنهم يخفون أنفسهم، فهم لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، همهم ما عند الله، ولكننا لا نحرم أنفسنا من التأمل في سير الصالحين وأخبار السابقين؛ فبذكرهم تطيب المجالس وتحلو الأحاديث فهم النجوم إذا رفع أهل الدنيا نجومهم، وهم القدوات للأجيال حينما يغشون بقدوات إعلامية لم تعرف بصلاح ولا نصح.. فتعساً لمن انخدع بأرباب الفن والرياضة وغفل عن الصادقين من جيل الصحابة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
فحديثنا اليوم عن الرجال، ولنختر منهم رجلاً لا كالرجال، ومع ذلك ليس بذي نسب فلن نطيل بذكر آبائه، ولا نسبته إلى قبيلته فهو عبد ابن عبد، قيَّض الله له الحرية فعاش بقية حياته مولى لمن أحسن إليه بالعتق.
وهو ليس من ذوي الوسامة في خِلقته والنضارة في بشرته فهو عبد أسود اللون، نحيف البدن طويل في قامته..
ولكن لا تعيقنا أوصافه عن الحديث عنه؛ لأنه أبيض القلب والباطن وإن اسودَّ لونه في الظاهر، وهو حسن الخُلقِ وإن قيل ما قيل في خلقته !!
فهو رجل من أخص الناس بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن أسبق الناس إسلاماً، ثم هجرة ثم هو من أهل الجنة بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له.
فلعلك أدركت وتنبأت بصاحبنا إنه أبو عبد الله بلال بن رباح، وينتهي نسبه إلى هنا – فيما علمنا - فأبوه رباح، وأمه حمامة كلاهما من سبايا الحبشة، وُلد في مكة ففتح عينيه على الدنيا ليرى نفسه مملوكاً لغيره فجهده ضائع، وطاقته لخدمة سيده.
فهو عبد لأمية بن خلف الجمحي، أحد صناديد قريش وعتاتهم الذين يجري الشرك في دمائهم وضربت الوثنية أوتادها في قلوبهم.
ولكن هذا لا يضر؛ لأنَّ الله أراد لبلال ولادة أخرى غير ولادة الأم، أراد الله له ولادة من الظلمات إلى النور وحياة بين الميتين، (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام: 122].
أجل أيها الإخوة: بدأت دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى دين الحق، فأراد الله ببلال خيراً، فكان أول السابقين من العبيد لهذا الدين الجديد، وحينها بدأت معركة غيرُ متكافئة بين الحق والباطل، بدأ امتحان صعب بين السيد الذي يفعل ما يقول وينفذ ما به يهدد "ولا تخاصم من إذا قال فعل"، والطرف الثاني العبد المملوك بلال.
فبدأت مرحلة الاستضعاف لا على شيء إلا أن يقول ربني الله، فلم يطق ذلك سيده فصار أمية بن خلف إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتُلقى على صدره، ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى.
أما بلال فهو يقول كلمته التي إذا سُمِعَت ذهب الذهن إلى اسمه، كان يقول -رضي الله عنه-: " أَحَدٌ أَحَد".
يقول عبد الله بن مسعود في حديث المعذبين في الله قال: "فأما بلال فهانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أَحَد أَحَد".
ولكن عاقبة الصبر حميدة، وله أسوة بإخوانه المعذبين من السابقين إلى الإسلام، بل أسوته قبل كل أحد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أوذي فصبر.
فلما بلغ الكتاب أجله في تعذيب بلال -رضي الله عنه-، هيَّأ الله له فرجاً قريباً وعتقاً حميدًا، ومنفّسو الكربات موجودون في أول قيام الدين، وموجودون -إن شاء الله- حتى ينتهي الأمر إلى رب العالمين.
لما رأى أبو بكر حال بلال، يعذبه سيده وبلال قوي في دينه لا تزيده الأيام إلا ثباتاً ولا شدة العذاب إلا صلابة؛ ساوم معذّبه على شرائه فاشتراه بأواقٍ معدودة أحصاها الله واختلفت في عدها الرواة، ثم أعتقه، "ومن أعتق مملوكاً كان فكاكه من النار".
وجاء عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يقول: "أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا"، يعني بلالا. ولما بلغ بلالا أن ناسا يفضلونه على أبي بكر فقال: "كيف وإنما أنا حسنة من حسناته"!
فدخل بلال بهذا العتق مرحلته الجديدة ليرى نفسه طليقاً من قيوده، حرّاً في تعبده، يغشى مجالس النبي -صلى الله عليه وسلم- على خوف من قريش وملئهم، فالدعوة لا تزال مستضعفة، والداخلون في هذا الدين محاربون، ولكن سُنة الله أن لا تدوم الحال ولا بد من تمييز الخبيث من الطيب.
فأذن الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة، فهاجر -صلى الله عليه وسلم- وهاجر أصحابه معه وقبله وبعده، فسجل بلال بهذا عملاً صالحاً آخر له، فهو من أوائل المهاجرين فاستوطن المدينة، وبدأت الدولة المحمدية تبسط نفوذها وتستجمع هيبتها، والشرائع الإلهية تتوالى على مشرع البشرية، فشرع الأذان في رؤيا مشهورة.
حين رأى الصحابي عبد الله بن عبد ربه الأذان في المنام وأنه ينادي له (الله أكبر الله أكبر)، فأخبر عبد الله الرائي النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الرؤيا الحق فأمره عليه الصلاة والسلام أن يعلمه بلالاً، وقال: "إنه أندى منك صوتاً".
فنال بذلك هذه الوظيفة العظيمة بتعيين النبي -صلى الله عليه وسلم- ليكون المؤذن الأول في الإسلام والمقيم الأول لإمامة النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكرم به من مؤذن وزد إكراماً لذلك الإمام -صلى الله عليه وسلم-. ولم يزل مؤذن النبي -صلى الله عليه وسلم- طول حياته حضراً وسفراً.
ولا يزال قُربه من النبي صلى الله -صلى الله عليه وسلم- يتنامى ومحبته له تتزايد حتى كان خازن النبي -صلى الله عليه وسلم- على بيت المال، خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء يوم العيد بعد خطبته للرجال فقام متوكئاً على بلال، فحث النساء على الصدقة فجعلن يتصدقن يلقين من حليهن وأقرطتهن في ثوب بلال -رضي الله عنه-.
ثم هو الذي يباشر بعدُ البذل والعطاء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على بلال وعنده صبرة من تمر فقال: "ما هذا يا بلال؟" قال: شيء ادخرته لغد، فقال: "أما تخشى أن ترى له غدا بخارا في نار جهنم يوم القيامة، أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" (صححه الألباني).
ولقربه من النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ عنه الحديث جملة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وغيرهم، وجماعة من التابعين -رضي الله عنهم أجمعين-.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة"، قال: ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل ولا نهار إلا ما صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي" فرضي الله عنه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فالحديث عن المؤذن الأول في الإسلام لا تمل منه النفوس، وهكذا العظماء في الأمم تبقى أخبارهم خطوطاً عريضة لا تستوعب سنوات حياتهم، ولعل جزءاً من سبب ذلك أنهم يخفون أنفسهم، فهم لا يريدون في الأرض علواً ولا فساداً، همهم ما عند الله، ولكننا لا نحرم أنفسنا من التأمل في سير الصالحين وأخبار السابقين؛ فبذكرهم تطيب المجالس وتحلو الأحاديث فهم النجوم إذا رفع أهل الدنيا نجومهم، وهم القدوات للأجيال حينما يغشون بقدوات إعلامية لم تعرف بصلاح ولا نصح.
فتعساً لمن انخدع بأرباب الفن والرياضة وغفل عن الصادقين من جيل الصحابة.
وهي مسؤولية المربين من الآباء والمعلمين وأساتذة الحلقات وغيرهم..
ألا فلنغرس في أنفسنا وأنفس أولادنا حب الصحابة، ولننشر قصصهم، فحق على كل ناصح ألا يخلي بيته من كتاب في سير الصحابة يطالع هو فيه ويحث أولاده على المطالعة فيه، ويناقشهم ويدارسهم تلك الأخبار الناصحة والبطولات النادرة.
وإنَّ مما يلفت نظر القارئ لسيرة بلال -رضي الله عنه- تلك الألفة العجيبة بين ذاك المؤذن وذلكم الإمام -صلى الله عليه وسلم- فقد اتسع قلبه للغريب الأعرابي، وللشريف القرشي كما اتسع قلبه للعبد الحبشي -صلى الله عليه وسلم-، وهي رسالة واضحة لكل مؤذن ما فتئ ينقم على إمامه دقائق الأمور وتوافه الأشياء، وكذا هي رسالة لكل إمام صار رقيباً لمؤذن مسجده، انشغل بعيوبه عن عيوب نفسه، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، واحذروا نزغات الشيطان.
ثم من دروس سيرة بلال -رضي الله عنه- هذه السنة المجهولة أو المهجورة أنه ما توضأ في أي ساعة من ليل أو نهار إلا صلى ما شاء الله أن يصلي، وهي ما يقال عنها بسنة الوضوء وهي من أسباب دخول الجنة بل من أسباب السبق في دخولها، وفيها أيضاً المحافظة على الوضوء، وأن الإنسان يبقى على طهارته وإن لم يرد صلاة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
أما صبر بلال على ثباته في هذا الدين الذي اختاره لنفسه ورضيه له ربه؛ فهو درس أبلغ من أن يشار إليه فأين الانهزاميون الذين تتقلب بهم الأهواء، وتلهيهم النعمة، وتعصف بهم النغمة، وينتكسون بسبب النظرة؟
أين هم ممن وضع على صدره الصخرة، وأُوذي ليقول لهم فقط الكلمة؟، ولكنه قال الكلمة التي يريدها الله: أَحَد أحد.
ولم يزل بلال -رضي الله عنه- ثابتاً بتثبيت الله، لازم المدينة مؤذنًا في المسجد النبوي حتى توفي -عليه الصلاة والسلام- فاحتسب موته، وباشر مع الصحابة دفنه، وتذكر الروايات أنه هو الذي صبّ الماء على قبره من قربه معه، ثم لم تطب نفسه بالبقاء بعد فراق حبيبه فاستأذن أبا بكر رضي الله ليلحق بالمجاهدين في بلاد الشام، فأذن له فلم يزل هناك حتى توفي زمن عمر -رضي الله عنهما- وله بضع وستون سنة، ودفن هناك.
ويروى أن عمر لما فتح بيت المقدس ألح عليه أن يؤذن فيه لصلاة الظهر من يوم الفتح، وهو يوم عظيم حضره جمع غفير من الصحابة وأفاضل التابعين.
وجاء في الرواية أن عمر -رضي الله عنه- قال لبلال -رضي الله عنهما-: "أسألك بالله يا بلال أن تؤذن لنا".
فقال: أعفني يا أمير المؤمنين.
قال: أسألك أن تذكرنا أيامنا الأولى.
فأجاب محرجاً من طلب أمير المؤمنين وطلب من معه؛ إلا أنه لم يستطع أن يكمل الأذان من البكاء، بعد أن سبقه بكاء عمر، وبكى الناس معه.
قال زيد بن أسلم عن أبيه: "قدمنا الشام مع عمر فأذن بلال، فذَكَّر الناسَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فلم أرَ باكيًا أكثر من يومئذ".
فرضي الله عن بلال وعن عمر وعن الصحابة أجمعين، وألحقنا بهم في السابقين، وجمعنا وإياكم بهم في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.