البحث

عبارات مقترحة:

الإله

(الإله) اسمٌ من أسماء الله تعالى؛ يعني استحقاقَه جل وعلا...

المؤمن

كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...

المجيب

كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...

القرآن والجود

العربية

المؤلف هلال الهاجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المهلكات
عناصر الخطبة
  1. العلاقة بين تلاوة القرآن وبين الجود والإنفاق .
  2. الثقة واليقين بكرم رب العالمين .
  3. فضائل الجود والكرم .
  4. الحث على الجود وإعطاء السائلين .

اقتباس

كلُّ تجارةٍ فهي مُعرضةٌ للخيبةِ والخَسارِ .. إلا التجارةَ مع الكريمِ الغفَّارِ.. المالُ مالُ اللهِ –تعالى- رزقَك إيَّاه، ثُمَّ أمركَ بالإنفاقِ منه .. فكيفَ لك أن تتردَّدَ بعد ذلك في بذلِ جُزءٍ من المالِ في سَبيلِ الَّذي أعطاكَ ورزقَك؟! فما ظنُّك باستجابةِ الدُّعاءِ؟! .. فهل لا زِلنا نَشكُ في عطاءِ الرحمنِ .. لمن بذَلَ مالَه في أوجِه الخيرِ والإحسانِ؟! كلُّ ما أُنفِقَ للهِ فهو مَخلوفٌ على صاحبِه .. يعوِّضُه بخيرٍ منه .. وصدقَ اللهُ تعالى فهو خَيْرُ الرَّازِقِينَ ..

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

أما بعد: ‏عَنْ ‏ ‏ابْنِ عَبَّاسٍ -رضيَ اللهُ عنه-مَا ‏قَالَ: "‏كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ‏أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ ‏ ‏جِبْرِيلُ، ‏وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ ‏ ‏الْمُرْسَلَةِ".

وهنا قد يَسألُ سائلٌ .. ما هي العلاقةُ العجيبةُ بينَ تلاوةِ القرآنِ الكريمِ وبينَ الجودِ والإنفاقِ في سبيلِ اللهِ تعالى؟

فتعالوا لنرى ماذا يقرأُ القارئُ في كتابِ اللهِ تعالى فيجعلُ قلبَه يمتلئُ بالخيرِ ويدَه تفيضُ بالعَطاءِِ.

أليسَ يتلو تلكَ الآياتِ الكثيرةِ المُتكررةُ (أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة: 245].. فالمالُ مالُ اللهِ تعالى رزقَك إيَّاه ثُمَّ أمركَ بالإنفاقِ منه .. فكيفَ لك أن تتردَّدَ بعد ذلك في بذلِ جُزءٍ من المالِ في سَبيلِ الَّذي أعطاكَ ورزقَك؟!

ألستَ تقرأُ قولَ اللهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29].. فكلُّ تجارةٍ فهي مُعرضةٌ للخيبةِ والخَسارِ .. إلا التجارةَ مع الكريمِ الغفَّارِ.

وأما إذا مررتَ بقولِه تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39] .. سبحانَ اللهِ .. (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) .. كلُّ ما أُنفِقَ للهِ فهو مَخلوفٌ على صاحبِه .. يعوِّضُه بخيرٍ منه .. وصدقَ اللهُ تعالى فهو خَيْرُ الرَّازِقِينَ ..

ألا تتخيَّلُ ذلك النُزولَ الملائكي في كلِّ صباحٍ كما أخبرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَا مِنْ يوم يُصبِحُ فيه العبادُ، إلا مَلَكانِ يَنْزِلان، يقول أحدُهما: اللهم أعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، ويقولُ الآخرُ: اللهم أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً" .. فالدَّاعي مَلَكٌ .. والآمرُ هو اللهُ تعالى .. فما ظنُّك باستجابةِ الدُّعاءِ؟! .. فهل لا زِلنا نَشكُ في عطاءِ الرحمنِ .. لمن بذَلَ مالَه في أوجِه الخيرِ والإحسانِ؟!

مثلَ هذه الآياتِ هي التي جعلتْ من رسولِ اللهِ تعالى لا يُنافسُ في الجودِ والكرمِ .. يَقُولُ أَبو ذَرٍّ -رضيَ اللهُ عنه-: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَى أُحُدٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَبَا ذَرٍّ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبٌ أَمْسَى ثَالِثَةً عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا حَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَهَكَذَا عَنْ شِمَالِهِ"، قَالَ: ثُمَّ مَشَيْنَا، فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ"، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى" .. وصدقتْ عَائِشَةُ -رضيَ اللهُ عنها- حِينَ َقَالَتْ: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ" .. فآمنَ بأنَّ اللهَ تعالى يُخلفُ على المُحسنينَ .. فأصبحَ يحثوا المالَ صدقةً في الشِّمالِ واليَمينِ.

اسمعْ إلى ذلكَ المِثالِ الذي تقطَّعت له قلوبُ أهلِ البذلِ والعطاءِ .. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مَّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261].. فقالوا: إذا كانتْ الأرضُ المخلوقةُ .. إذا أعطيتَها حبَّةً أعطتْك سبعمائةِ حبَّةٍ .. فكيفَ لنا أن نتصوَّرَ كم سيكونُ أجرُ ريالٍ في سبيلِ واسعِ العطاءِ .. وعالِمِ الخفاءِ .. بعدَ قولِه: (وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261]؟!

هل تعجبُ بعدَ ذلك إذا علمتَ أن الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- كانَ مُتقرِّراً عندَهم أن النبيَ صلى اللهُ عليه وسلمَ لا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ .. عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: "جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِبُرْدَةٍ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ: أَكْسُوكَ هَذِهِ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ، نَعَمْ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَامَهُ أَصْحَابُهُ قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا".

ولا تصلحُ تلكَ الأبياتُ التي قيلتْ في الكرمِ إلا لمثلِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:

هُوَ اليَمُّ مِنْ أَيّ النَّواحي أتيتَهُ

فلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ

تراه إذا ما جئتَه مُتهلِّلاً

كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سَائلُهْ

تعوَّدَ بَسطَ الكفِّ حتى لو أنَّه

ثناها لِقبضٍ لمْ تُجبهُ أنامِلُهْ

ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ

لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ

ماذا تعني لك هذه الآيةُ؟ .. (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245] .. إنها كانتْ تعني الكثيرَ للصحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم- .. لأنهم سمِعوها بقلوبِهم قبلَ آذانِهم ..

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) .. قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيِّ -رضيَ اللهُ عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟، قَالَ: "نَعَمْ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ"، قَالَ: أَرِنِي يَدكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَه، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ حَائِطِي –أيْ بُستاني-، قَالَ: وَحَائِطٌ لَهُ فِيهِ سِتّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمَّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالهَا، قَالَ: فَجَاءَ أَبُو الدَّحْدَاحِ، فَنَادَاهَا: يَا أَمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ قَالَ:" اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُه رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ" .. اللهُ أكبرُ .. هنا تخرسُ الأقلامُ .. وينقطعُ الكلامُ.

كيفَ هو الأثرُ عليكَ وأنتَ تُرَتِّلُ سورةَ آلِ عمرانَ .. فمررتَ بقولِه تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 192]؟ .. هل ستتجاوزُها دونَ أن تسألَ نفسَك بصدقٍ: هل أنا أنفقتُ للهِ تعالى ممَّا أحبُّ؟ .. لم تمرّ هذه الآيةُ على أَبُي طَلْحَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- مُرورَ الكرامِ ..

فعنْ أَنَس بْن مَالِكٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- أنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ: وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ"، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: "أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ".

قرأَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- القرآنَ وأصحابُه فأصبحَ واقعاً في حياتِهم، ونحنُ نريدُ الجنَّةَ ولم نَحرصْ على العملِ لها، أليسَ نقرأْ هذه الآياتِ عن الجنَّةِ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133- 134].

 ومثلُ هذه الآياتِ هي من جعلَ أبا بكرٍ -رضيَ اللهُ عنه- في قِمَّةِ المُنفقينَ، فَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَلَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا أَنْفَقَهَا كُلَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فجاءَه وِسامٌ من رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لا يُنازِعُه فيه أحدٌ إلى يومِ القيامةِ حينَ قالَ: "مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ: مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: مَا أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يا رَسولَ اللهِ.

أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[سبأ: 1]، اللهم صَلِّ وباركْ على محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه، وعلى كُلِّ من دعا بدعوتِه واقتفى أثرَه إلى يومِ الدِّينِ، وسلمَ تسليماً كثيراً ..

أما بعد: فيا قارئَ القرآن .. كيفَ تعيشُ جوارحُك تلك الآياتِ في وصفِ اللحظاتِ الأخيرةِ من حياةِ البُخلاءِ .. حينَ يتمنونَ البقاءَ يسيراً في الدُّنيا .. لماذا؟ .. (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10] .. فهل أخذتَ الاحتياطاتِ المُناسبةَ فيما يجعلُك لا تعيشُ ذلك الموقفَ المُهينَ .. فبذلتَ المالَ وأصبحتَ من الصَّالحينَ.

هل سمعتَ بيومٍ كانَ شرّه مُستطيراً؟ .. وهل تخافُ يوماً تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصارُ؟ .. فاسمعْ إلى صِنفٍ من النَّاسِ يعيشونَ الأمنَ الكاملَ فيه وترى السَّعادةَ على وجوهِهم .. (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 247] ..

 استشعرْ وأنت تُنفقُ في سبيلِ اللهِ -تعالى- كيفَ ستكونُ تلك الصَّدقةُ ظِلَّاً في يومٍ تدنو منه الشَّمسُ من الخلائقِ كمِقدارِ مِيلٍ .. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ" .. فهل تكونُ في ظِلِّ الغمامِ .. حينَ يكون ُعرقُ النَّاسِ كاللِّجامِ؟!

يا عبدَ اللهِ .. إذا سألَك فقيرٌ أو مِسكينٌ فتذكَّرْ قولَه تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 271].. وإيَّاكَ .. ثُمَّ إياكَ من ذلك الموقفِ العظيمِ .. ومعاتبَةِ الربِّ الكريمِ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟! يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟! قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي".

ولا تخفْ من خِداعِ الكاذبينَ .. ولا تحزنْ من كَذبِ الخادعينَ .. فإنَّ النيِّةَ الصَّالحةَ في الصدقةِ مقبولةٌ ولو لم تقعْ مَوقِعَها .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ، لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ وَعَلَى سَارِقٍ: فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ".    

اللَّهُمَّ إِنّا عَبِيدُكَ، بَنُو عَبِيدِكَ، بَنُو إِمائِكَ، نَواصِينا بِيَدِكَ، مَاضٍ فِينا حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِينا قَضَاؤُكَ، نَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنا، وَنُورَ صُدُورِنا، وَجَلاَءَ أَحْزانِنَا وَذَهابَ هُمُومِنا وَغُمُومِنا ..

اللهُمَّ اكتبْنَا مِنْ عبادِكَ المحسنينَ، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِينَا لِِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلِمَا تُحِبُّ مِنَ العَمَلِ وَتَرْضَى، اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ مِنَ الخَيرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وآجِلِهِ مَا عَلمْنَا مِنهُ ومَا لَمْ نعلمْ، ونعوذُ بِكَ مِن الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وآجِلِهِ مَا عَلمْنَا مِنهُ ومَا لَمْ نَعلمْ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ مِمَّا سَألَكَ منهُ سيدُنَا مُحمدٌ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ونَعُوذُ بِكَ مِمَّا تَعوَّذَ مِنْهُ سيدُنَا مُحمدٌ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.