الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن المواطن التي ينبغي التوبيخ فيها إذا قصر الإنسان العاقل اللبيب أو الشخص الملتزم المحافظ في سنة من السنن المستحبة، أو فرط في أمر مؤكد عليه ولم يكن واجباً؛ لأن تفريط الشخص الملتزم العاقل في أمر مستحب ومؤكد يعد منقصة في حقه يستحق عليها اللوم والتبكيت، بخلاف الشخص العادي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أبان للعباد منهج التربية القويم في قرآنه المجيد، وأوضح للعالمين مبادئ الخير والهدى والإصلاح في أحكام شرعه الحنيف. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله للإنسانية مؤدباً، وأنزل عليه تشريعاً يحقق للبشرية عزها ومجدها، وأعظم غايات سؤددها ومكانتها، ورفعتها واستقرارها، وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار، الذين أعطوا الأجيال المتعاقبة نماذج فريدة في أساليب التربية وتكوين الأمم، وعلى من نهج نهجهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: إن أساليب التربية متنوعة متعددة, وينبغي الاستفادة من جميع هذه الأساليب والطرق، وهناك أسلوب تربوي كثير منا يهمله ولا يستعمله، ومنا من يُفرط في استعماله ويكثر منه، إنه أسلوب التوبيخ أو التربية بالتوبيخ.
إن التوبيخ هو التأنيب واللوم الموجه إلى شخص ما جزاء على سوء صنيعه، وتعنيفه وتعييره على سوء فعله، حتى يشعر أنه مخطئ فيتأدب، ويكون ذلك من غير سب ولا شتم ولا كلام سيء. ولذلك يعرفه بعض التربويين المعاصرين بأنه: "توجيه عبارات ناقدة لشخص معين، نتيجة لعدم الرضا عن سلوكٍ معين صدر عنه" [المرجع في تدريس علوم الشريعة، تحرير د/ عبدالله صالح عبدالله (265)].
إن هذا الأسلوب من أساليب التربية أسلوب مشروع أجازه الشارع الحكيم في كتابه الكريم، فقال -سبحانه وتعالى- في حكم المرأة الناشز: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء : 34].
هذا هو حكم الله في المرأة التي تتمرد على طاعة زوجها وتعصيه بالقول أو بالفعل، فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل، فيبدأ أولاً بوعظها ونصحها؛ ويكون وعظه لها فيه غلظة وشدة حتى يحصل التأديب بهذا التوبيخ الموجه إليها، فإن انتهت فذلك هو المطلوب، وإلا فعليه أن يهجرها في المضجع بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح، وهو المسمى بضرب الـتأديب لا التعذيب.
ومن أدلة السنة على مشروعية التأديب بالتوبيخ ما ورد في الصحيحين عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " [البخاري (30) مسلم (1661)].
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث العظيم وبخ أبا ذر -رضي الله عنه- وأدبه باللوم، وأنبه على تعييره للرجل بأمه، وقال له بصريح العبارة: "إنك امرؤ فيك جاهلية" تحذيرًا له عن معاودة مثل هذا الصنيع لأنه مما يحز في النفوس وتشتق منه القلوب.
ومن الأدلة كذلك ما ورد في بعض المسانيد والسنن عَن أبي هُرَيرة -رضي الله عنه-؛ أَنَّ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم- أُتِيَ بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه فمنهم الضارب بيده وبثوبه ونعله، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم- لأصحابه: بكتوه, فأقبلوا على الرجل يقولون: أما اتقيت الله أن خشيت الله أما استحييت من الله، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم-: "دعوه" [ مسند البزار (8564) أبو داود (4478)].
ووجه الدلالة في هذا الحديث على مشروعية التأديب بالتوبيخ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه -رضي الله عنهم- بان يُبكِّتوا صاحب هذه الفعلة المستنكرة، وهو أمر بالتبكيت وهو التوبيخ والتعيير باللسان مواجهة له على قبيح فعله، ولذلك أقبل الناس عليه يقولون له: "أما اتقيت الله أن خشيت الله أما استحييت من الله".
كما أن في الحديث دلالة على جواز الجمع بين نوعين من أنواع التأديب إذا رأى المؤدِّب المصلحة في ذلك، حيث جمع الحديث بين التأديب بـ(التوبيخ والضرب)، وقد يكتفى بالضرب دون التوبيخ، أو بالتوبيخ دون الضرب.
أيها المسلمون: هناك مواطن يحمد فيها توبيخ الشخص وتأنيبه ومن هذه المواطن:
إذا خاض الشخص في دين الله بغير علم، أو تأول الأدلة في غير مواضعها، أو تفلسف فيما لا علم له به. فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، وهم يختصمون في القَدَر، فكأنما يفقأ في وجهه حَبُّ الرمان من الغضب، فقال": بهذا أمرتم؟ أو لهذا خُلِقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم" [الترمذي (2133)].
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- غضب غضبًا شديدًا حينما رأى هؤلاء جاوزوا بسؤالهم ما لا ينبغي السؤال عنه، ودخلوا في أمور لا علم عندهم فيها، فأنكر عليهم وعنَّفَهم وقال لهم: "أبهذا أمرتم؟ أو لهذا خُلِقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم". فالحذر الحذر من الخوض في دين الله بغير علم، ومن تجرأ على ذلك فقد استحق التوبيخ والتأنيب.
كذلك من المواطن التي يعنف فيها الشخص ويغلظ عليه بالتوبيخ والتأنيب: إذا تصرف تصرفاً غير لائق ينكره كل عاقل سليم الفطرة، كأن يفعل على نفسه شيئاً من خصائص النساء، أو يتشبه بهن، أو يتكسر في مشيته ويتميع في كلامه، أو غيرها من التصرفات المشينة التي تخرم المروءة، وتقضي على الرجولة.
روى مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وَقَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ، فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ -رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ، قَالَ: لَا وَاللهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" [ مسلم (2090)].
فانظروا كيف نفع معه التوبيخ وتأدب به، وكان له تأثير واضح عليه حين أدرك خطأ فعله، ورفض أخذ الخاتم بعدما وبخه النبي -صلى الله عليه وسلم- على لبسه، وقَالَ: "لَا وَاللهِ، لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النور : 54]. ويقول -سبحانه وتعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور : 63].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسولُه، اجتباه ربه وهداه إلى صراط مستقيمٍ، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: ومن المواطن التي ينبغي التوبيخ فيها إذا قصر الإنسان العاقل اللبيب أو الشخص الملتزم المحافظ في سنة من السنن المستحبة، أو فرط في أمر مؤكد عليه ولم يكن واجباً؛ لأن تفريط الشخص الملتزم العاقل في أمر مستحب ومؤكد يعد منقصة في حقه يستحق عليها اللوم والتبكيت، بخلاف الشخص العادي فإنه ربما يكون توبيخه على ترك سنة أو التقصير في شيء غير واجب ليس بالأمر الضروري.
روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ قَالَ: "إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ" [ البخاري (878) مسلم (1992)].
لقد عاتب سيدنا عمر -رضي الله عنه- هذا الرجل على تأخره عن الجمعة مع أن الأولى في حقه التبكير، ثم لما علم منه أنه جاء إلى الجمعة بدون غسل عاتبه أيضاً على ترك سنة الاغتسال يوم الجمعة، وذلك لأنه رجل من المهاجرين الأولين أهل الفضل والتقى.
لم ينصحه -عمر رضي الله عنه- لأن مثل هذا الرجل يعتبر التوبيخ في حقه أولى من الوعظ، لأن الوعظ أكثر إيلاماً له، وقد يعمل التوبيخ في شخص ما لا يفعله الضرب في شخص آخر، مما يشير إلى أهمية هذه العقوبة وعدم التهاون بها. يقول الماوردي -رحمه الله-: إن "تعزير من جل قدره يكون بالإعراض عنه، وتعزير من دونه بالتعنيف له، وتعزير من دونه بزواجر الكلام، وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب" [الأحكام السلطانية(386)].
وممن يستحقون التوبيخ كل شخص لك عليه يد كالزوجة، والولد، والتلميذ، إذا عمل عملاً سيئاً غير لائق, ويدل على ذلك حديث أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: "أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟" [مسلم (1069)].
فوبخه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أنه ولد صغير حتى يربيه التربية الفاضلة، واستخدم معه هذا الأسلوب في التربية لأنه طفل صغير رعايته تحت يد ولي أمره.
هذه جملة مختصرة عن أسلوب التوبيخ في التربية، وحكمه ومشروعيته، والمواطن التي يستحب فيها ويحسن استخدامه، نسأل الله أن ينفعنا بها، ويعيننا على الالتزام بتحقيقها على الوجه المطلوب المرضي.
هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارزقنا التربية الصالحة لأبنائنا ومن تحت أيدينا وارزقنا برهم وصلاحهم يارب العالمين.