العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إن السلوك الخاطئ للوالدين واضطراب الأسرة، وضعف الأواصر بين الزوجين يدفع الطفل إلى الشعور بالإحساس بفقدان الأمن، وينظر دائماً إلى الحياة نظرة متشائمة, ويتصف الأطفال الذين ينمون ويترعرعون في ظل هذه الأسر التي يكثر فيها التنازع والشقاق بين الوالدين بالهزال، واصفرار البشرة وانهيار المعنويات والإصابة بالتخلف الدراسي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي من علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طرق الصلاح وحذر من طرق الفساد، أحمده -سبحانه- وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب.
أما بعد:
عباد الله: إن من طبيعة الحياة البشرية أن الناس يختلفون فيما بينهم ويتهاوشون بين بعضهم, ويحدث الاختلاف بين أعز الناس وأقرب الأقرباء, كما قال الله -جلا وعلا-: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) [الفرقان : 20].
ومن الاختلاف الحادث اليوم والطبيعي الاختلاف بين الزوج وزوجته, ولكننا نريد اليوم في هذه الخطبة أن نحذر من نقطة مهمة تتعلق في هذا الموضوع, وهو إظهار هذا الخلاف للأبناء والشقاق أمامهم والتنازع عندهم.
صحيح أن الخلاف وارد لا محالة والتنازع لا مناص منه ولا محيد عنه في الحياة الزوجية, ولكن يجب أن يكون تنازعنا بعيداً عن أولادنا, واختلافنا يكون فيما بيننا, دون أن نشركهم فيه أو نسمعهم به.
إن هذه مشكلة خطيرة منتشرة في كثير من بيوتنا, وبعض الآباء يتعذر بأنه لا يمكن التخلص منها, ويزعم أن تركها صعب جداً للغاية, والحقيقة أن هذا ليس بصعب ويمكن التخلص منه إذا أراد الإنسان ذلك وجدّ فيه.
إن المصيبة أن بعض الأسر توجد فيها هذه المشكلة بكثرة, فلا يكاد يمر يوم دون أن يختلف الأب مع الأم أمام الأولاد؛ حتى ينطبع في أذهان الأولاد صورة سيئة عن والديهم بسبب ما يرونه من كثرة المشاكل والخلافات بينهم.
كم من الأبناء من يأتي يشتكي من الضيق والهم بسبب الوضع الأليم الذي يعيشه والداه في البيت, ويتذمر جداً من كثرة ما يحدث بينهم من المشاكل, ويبقى الولد محتاراً لا يدري ماذا يصنع؟ وكيف يعمل بهم؟.
إنها مصيبة خطيرة لو استشعرنا خطرها فهؤلاء الأولاد الذين يعانون من مشاكل آبائهم وأمهاتهم؛ ما عانوا منها إلا بسبب كثرتها وتجددها وبروزها على المستوى الظاهر أمامهم.
تقول بنت تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً, لقد أصابني الهم الشديد والقلق البالغ من كثرة مشاكل والدي, وكثرة تنازعهم وأصبحنا جميعاً أنا وحتى أصغر إخواني, نعلم أن والدي متناحرين وبينهم من النزاعات والمشاكل الشيء الكثير.
لقد ضقت من العيش في البيت من جراء هذا الواقع المر, وقلت لأبي أخرجوني من هذا الجحيم وأنه ما بينكم من المرارة والنزاع, أو زوجوني على شخص ولو على تمر, أو بما معه من كتاب الله, فقد سئمت العيش بينكم ومللت من الجلوس عندكم, وتيقنت أن خلافاتكم لن تنتهي ومشاكلكم ستطول.
إن هذه البنت هي نموذج لمئات الآلاف من الأولاد والبنات, الذين يكابدون هذه المعضلة ويشتكون منها, فيجب على الوالدين أن يكونوا عقلاء, يضبطون كلامهم ويحسبون ألف حساب عند اختلافهم لنفسيات أولادهم, فإن لم يراعوا هذا الأمر فليعلموا أنهم قد فتحوا لهم باب الجحيم, وسمحوا لهم بسلوك مسالك الضياع والانحراف.
عباد الله: إن لهذه المشاكل آثاراً سيئة على نفسيات الأولاد, حيث تؤثر جداً على سلوكياتهم, وهي السبب الرئيسي للأمراض النفسية لديهم, وفيها خطر كبير على عقلياتهم ومداركهم, وكثير من الأولاد مصاب بالخبل العقلي والشرود الذهني والانحراف العاطفي؛ بسبب مشاكل والديه مع بعضهم البعض.
بل إن هذه المشاكل حينما تظهر للأولاد وتكون في متناول ألسنتهم, فإنها -ولا شك- تكون السبب الأكبر في انقسامهم, ودخول الشحناء والحسد بينهم, فهذا مؤيد لوالده وذاك مؤيد والدته, حتى يصبح البيت منقسم إلى معسكرين يعادي بعضهم بعضاً, ويكيد بعضهم لبعض, والسبب هو الأم والأب عندما سمحوا لمشاكلهم بأن تطفوا على السطح.
كثير من الأولاد الذين يشتكون من تنازع آبائهم وأمهاتهم أمامهم أصبحوا فاقدي الثقة بهم, نازعي يد الطاعة منهم, لأنهم يشعرون في داخلهم بشيء من العقدة منهم, أو إساءة الظن بهم, فيعتقد أن هذا الأب ما هو إلا رجل ظالم لأمه متسلط عليها بغير حق, وخاصة إذا توددت الأم إلى ولدها أو اشتكت له من مشاكل أبيه, أو يرى أن هذه الأم متسلطة على والده ومثيرة للمشكلات والمنازعات معه, وفي النهاية يفقد الثقة بهم كلهم, ويرى أنهم لا يستحقون أن يكونوا مربين ولا أمناء عليهم.
ربما يعتقد بعض الآباء أن الأولاد في غفلة عنهم, وأنهم لا يشعرون بما يدور في واقعهم من المشكلات بينهم, ويصرح بعضهم بعدم مبالاة أبنائه بذلك, وأنهم لا يفكرون كثيراً في هذه المشاكل ولايبالون بها ولا يلتفتون إليها, وينسى المسكين أن قلوبهم تغلي, وهمومهم يبوحون بها للآخرين, ولا يذكرونها لهم, وربما يعلم أكثر الناس بهذه المشاكل من الأولاد مع أنهم في البيت يظهرون عدم مبالاتهم بها وبعدهم عنها.
إن نزاع الوالدين وعدم توافقهما، وسلوكهما غير المتزن, وكلامهما الغير منسجم، يؤدي ولا شك إلى تمهيد الأجواء لكي يسلك الأطفال سلوكا اجتماعياً منحرفاً, فيلجؤون إلى الجريمة وسلوك المسالك الخاطئة، ويمكن أن يشاهد آثار ذلك في سلوك الطفل وعمله.
كم من الأطفال اكتسبوا الأخلاق السيئة والانحرافات الأخلاقية والألفاظ النابية من أهلهم وآبائهم, فالطفل عندما يسمع أباه يسب أمه -لا شك- أنه سيتجرأ على سبها؛ لأنه قد سمع أباه يسبها وهو القدوة في نظره.
وإذا تجرأ على سب أمه فإنه لغيرها أجرأ, وربما يتعود على ما هو أكثر من ذلك وأرذل, خاصة مع الآخرين الذين لا يمتون له بصلة, ومن ثم يتعود على ذلك وتصبح هذه السلوكيات المنحرفة طابعاً له؛ لأنه قد سمع والده يتسابان ويتلاعنان ويختلفان أمامها بلا أدب ولا ضوابط.
تأملوا قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة : 237]. تأملوا قول الله: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) فإن الطلاق يسبقه الاختلاف ويعقبه التنازع, فلهذا أوصى الله الزوجين بأن لاينسوا الفضل بينهم, والفضل هو أرقى درجات المعاملة وأفضلها كما رغبهم في العفو وحثهم عليه قبل إحداث الطلاق ووقوعه. ( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة : 237].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الوهاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحيم التواب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأواب، وعلى آله وأصحابه خير الأصحاب والأحباب، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الحساب.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن السلوك الخاطئ للوالدين واضطراب الأسرة، وضعف الأواصر بين الزوجين يدفع الطفل إلى الشعور بالإحساس بفقدان الأمن، وينظر دائماً إلى الحياة نظرة متشائمة, ويتصف الأطفال الذين ينمون ويترعرعون في ظل هذه الأسر التي يكثر فيها التنازع والشقاق بين الوالدين بالهزال، واصفرار البشرة وانهيار المعنويات والإصابة بالتخلف الدراسي، والمعاملة السيئة مع الآخرين.
ولا يشعرون بالحيوية أبدا، ولا ينامون نوما مريحاً، وتنعدم رغبتهم في الكلام، بل يصابون بالتأخر في النطق وقد تقل عندهم الشهية للطعام أو يحصل عندهم تباطؤ في عملية الهضم, بسبب حدوث خلل في إفرازات بعض الغدد.
ويؤدي نزاع الوالدين أيضا في حال مرض الطفل إلى تباطؤ عملية شفائه واستعادته لصحته وسلامته، وقد يؤدي إلى مضاعفة المرض كما أشارت إلى ذلك التجارب العلمية.
إن على الأزواج أن يتقوا الله في زوجاتهم, ويقوموا بحقوقهن ويراعوا نفسياتهن, ويحذروا كل الحذر من تحطيمهن أمام أولادهن, أو إظهار التنازع معهن, وليحفظوا فيهن قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء : 19].
يجب على الوالدين أن يتفقوا عند التنازع والاختلاف على كتم الكلام حوله, وتأجيل النقاش فيه إلى أن ينفردوا مع بعض, ويدخلوا غرفتهم الخاصة, وهناك يتناقشان حوله بطريقة منفردة, وطريقة حضارية عبر التحاور والتفاهم. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ" [ مسلم (1469)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم اجعلنا من المربين لأولادنا، المهتمين بهم، المراعين لنفسياتهم، وجنبنا الاختلاف عندهم والتنازع عند حضورهم، يا أرحم الراحمين، وارزقنا برهم يارب العالمين.