اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | فقه النوازل - أركان الإيمان |
أيها الناس: إن كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" أساس توحيد الكلمة؛ بكلمة التوحيد يصلح أمر الدنيا والآخرة، وتتحد الصفوف، وتتوادّ القلوب، وتتآلف الأرواح، وتكون الأمة يدا واحدة، لا تفرق فيها ولا تنازع ولا شقاق، قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ) [آل عمران: 103]. فلما اعتصموا دانت لهم الدنيا، وجاءتهم صاغرة. والمسامحة أساس المصالحة بين المسلمين، والعفو عند المقدرة من شيم الكرام، فكما...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي العزة والجلال، عزَّ ورحم فرفع عنا الآصار والأغلال، أحصى قطر الأمطار، وأوراق الأشجار، وعلم ما في الأرحام من أنثى وذكر، وخلق الخلق على أحسن الصور، ورزقهم على قدر، وأماتهم على صغر، وشبابٍ وكبر، فالحمد له حمدا يوافي إنعامه، ويكافئ مزيد إكرامه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من رجع إليه وتاب، وراقب ربه فاستغفر وأناب.
وأشهد أن نبينا محمدا عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه، وخيرته من خلقه، المختارُ المجتبى، والنبي المرتضى، والرسول المصطفى، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وذويه ومن اهتدى، ما أقبل ليلٌ وسجى، وأضاءَ نهار وأضحى، وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71].
أيها الناس: إن كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" أساس توحيد الكلمة؛ بكلمة التوحيد يصلح أمر الدنيا والآخرة، وتتحد الصفوف، وتتوادّ القلوب، وتتآلف الأرواح، وتكون الأمة يدا واحدة، لا تفرق فيها ولا تنازع ولا شقاق، قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ) [آل عمران: 103] فلما اعتصموا دانت لهم الدنيا، وجاءتهم صاغرة.
والمسامحة أساس المصالحة بين المسلمين، والعفو عند المقدرة من شيم الكرام، فكما أرشدنا دينُنا إلى عبادة ربنا، لم يغفل أمورَ دنيانا: (وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].
فنظَّمَها من الدورة إلى الدولة، من الدورة وأحكامِ قضاء الحاجة، إلى أنظمةِ الدولة وقوانينِها، الخارجيةِ والداخلية، فإذا كانت الجماعةُ المسافرةُ -وإن قَلَّت- لا بُدَّ لها من أميرٍ يرأسُها ويسوسُها، وقائدٍ يقودها، قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ" [سنن أبي داود (2608)، وحسنه الألباني في الصحيحة (1322)].
هذا وهم ثلاثةٌ في سفر؛ فكيف بسُلطةٍ أو حكومةٍ أو دولة؟ أليس الأولى والأحرى أن يجتمعَ أهلُ البلدةِ الواحدة على قائدٍ يقودها إلى الخير، ويسوقها إلى التقدم والرخاء، فيأتمرون بأمره؛ بُعدا عن التفرقِ والتمزق، والاختلافِ والتنازعِ والتقاتل؟
إن التفرق والتنازع ينشأ بين شخصين، أو عائلتين أو قبيلتين، أو حزبين أو فصيلين، أو حكومتين أو دولتين، وهذا كله موجود في أمتنا اليوم.
فيا أيها المتخاصمون المتنازعون: عودوا إلى رشدكم، وارحموا أمتكم، ف "يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا" [صحيح البخاري (3038)].
التيسيرُ على الناس لا التعسير، والتبشيرُ لا التنفير، والتطاوعُ وعدمُ التنازع.
بهذا تنال الأمة عزتها، وتسترجع مجدها، وتسود بين أفرادها المودة والألفة والرحمة.
لا تكونوا سببا في ذلة هذه الأمة، وتسلط أعدائها عليها، فتحل عليكم اللعنة وسوء الدار.
وما دام الدينُ واحدا، والدمُ واحدا، والعِرْقُ واحدا، واللغةُ واحدة، والوطن واحدا؛ فلماذا لا نكون صفًا واحدا؟ وعلامَ الخُلْفُ والاختلاف؟
قال أحمد شوقي "سنة 1925 شمسية":
إلامَ الخلفُ بينكم؟ إلاما؟ | وهذي الضجة الكُبرى علاما |
وفيمَ يَكيدُ بعضكمو لبعض؟ | وتُبْدُون العداوةَ والخِصاما |
وَلِينا الأمرَ حزبًا بعد حزب | فلم نكُ مصلحين ولا كراما |
وأين الفوز؟ لا مصرُ استقرت | على حالٍ ولا السودانُ داما؟ |
وأين ذهبتم بالحق لما | ركبتم في قضيته الظلاما؟ |
أبَعْدَ العروةِ الوثقى وصفٍّ | كأنياب الغضنفر لن يراما |
تباغيتم كأنكم خلايا | من السرطان لا تجد الضماما؟ |
[الشوقيات (1/ 274- 276)، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي (2/ 130) ف "الخلافُ شَرٌّ" كما قال ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه-، سنن أبي داود (1960)].
إن عبادةَ الله وتوحيدَه، والصلحَ والمسامحة، والأخوة والمصالحة، وائتلافَ القلوب، ورصَّ الصفوف في عصرنا الحاضر؛ مقدم على إقامة الحدود؛ أولى من قتلِ القاتل، ورجمِ الزاني، وقطعِ يدِ السارق؛ لأننا غير ممكَّنين في الأرض، ولأنَّ عدوَّنا المتمكنَ منَّا يطمعُ فينا، وقد يفرُّ ويلجأُ إلى هذا العدوِّ؛ أصحابُ الجُنَحِ، وينحازُ إليه ضعافُ الإيمان من أرباب الجرائم، فتكونُ فرصةً لأعدائنا؛ أن يروا انشغالنا بالفوضى، والأخذ بالثأر من بني جلدتنا، وتكون ثغرةٌ لما يسمَّى بحقوق الإنسان؛ أن يلوكَ أهلُها أعراضَ المسلمين، وتمتدَّ ألسنةُ القائمين عليها إلى الطعنِ في ديننا الحنيف، وإسلامِنا المُنيف، ورسولنا الكريم، وسلفِنا الصالح، والطعنِ في علمائنا ومشايخنا، ووولاة أمورنا، فهل هذا الكلام –تقديم الصلح والتوحُّد والتوحيد والعبادة على إقامة الحدود- بدعةٌ من القول؟ أم له أصلٌ يرجع إليه؟ وسلفٌ يُقتدَى به؟
والجواب:
هذا الكلام؛ ليس بِدعًا من القول، والحُجَّة في ذلك ما ورد من أحاديث وآثار، عن السلف الأبرار، والعلماء الأخيار، وإليكم قطوف منها: ما رواه أبو داود بسنده عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ: مِصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لا تُقْطَعُ الأَيْدِي فِي السَّفَرِ، وَلَوْلا ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ" [أبو داود (4408)، صحيح الترمذي (1490)، صحيح النسائي (4610)].
"وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ سِيرَةِ عُمَرَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ سَارِقًا" [المنتقى شرح الموطإ (6/ 65)].
لوجود الجوع وقلة الطعام، فكيف تقطع يد سارق ما سرق إلا ليأكل، ولم توفر له أدنى سبل الحياة الكريمة.
وأبو الدَّرْدَاءِ "كَانَ يَنْهَى أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ عَلَى الرَّجُلِ، وَهُوَ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَقْفُلَ، مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُ الْحَمِيَّةُ فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ، فَإِنْ تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَادُوا فَإِنَّ عُقُوبَةَ اللَّهِ مِنْ وَرَائِهِمْ".
وعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنَّا فِي جَيْشٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعَلَيْنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، فَشَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَرَدْنَا أَنَّ نُحِدَّهُ، قَالَ حُذَيْفَةُ: "أَتُحِدُّونَ أَمِيرَكُمْ؟! وَقَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فَيَطْمَعُونَ فِيكُمْ" [سعيد بن منصور في سننه (2/ 234)].
ألا واعلموا -عباد الله- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إقامَةُ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؛ خَيْرٌ مِنْ مطرِ أرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي بِلادِ اللَّهِ" [ابن ماجة (2537) عَن ابن عمر، صحيح الجامع (1139)].
فإقامة الحدود في وقتها وزمانها تأديب للفاعلين، وزجر للمجترئين.
فَيَا مَن ينادي في هذا الزمن بإقامة دولة الخلافةِ وتطبيق الحدود على الناس: كيف يتسنى لنا ذلك ولم يمكَّن لنا في الأرض؟ وهذا هو العدوُّ محيط بنا، ومستولٍ على مقدراتِنا؟ فطعامُنا وشرابُنا، وملابسُنا وموادُّ بنائنا، كلها من عنده أو عن طريقه، والسلاحُ وذخيرته لا يصل إلينا إلا بعد إذن عدوِّنا الصريح، أو يتغاضى ويتغافل عن امتلاكه إن رأى أن ضرره عليه ضئيل، وعلى المسلمين عظيم، أو نفعه على عدونا كبير، وعلى المسلمين يسير.
كلُّ ذلك لم تصنعه أيدينا، بل نستجديه من عدوِّنا بأموالنا؛ إن شاءَ أعطانا، وإن شاء منعنا وحاصرنا، فلنبدأْ بما نستطيع، من الوحدة والألفة، والمسامحة والمصالحة.
لهذا؛ يجب علينا نحن المسلمين عموما، والعربَ خصوصا: أن نعملَ ما في وُسعِنا من التعاونِ والتلاحمِ، وأن نتقوّى بتوحيد ربِّنا، وتوحيدِ كلمتِنا ضدَّ أعداءِ الإسلام والعروبة والوطن؛ فالاتحادُ قوة، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ: "أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟" قُلْتُ: "فِي قَرْيَةٍ دُوَيْنَ حِمْصَ" فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَا مِنْ ثَلاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلا بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاةُ؛ إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ" [سنن النسائي (847) قال في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 102) (427): "حسن صحيح"].
عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ -أي من صنع فدك؛ وهي بلدة مشهورة على مرحلتين من المدينة- وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، قَالَ: حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَإِذَا فِي المَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَاليَهُودِ وَالمُسْلِمِينَ، وَفِي المَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتِ المَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ -وغبرتها- خَمَّرَ -أي غطى- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: "لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا" فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: "أَيُّهَا المَرْءُ! إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ، إِنْ كَانَ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا، ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ" فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: "بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ" فَاسْتَبَّ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَاليَهُودُ، حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا سَعْدُ! أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟!" -يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ -بن سلول- قَالَ: "كَذَا وَكَذَا"، قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، لَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ البُحَيْرَةِ -أي المدينة- عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالعِصَابَةِ -أي يتوجوه ملكا على المدينة- فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ" فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ المُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) [آل عمران: 186] الآيَةَ.
وَقَالَ اللَّهُ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 109] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.
وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَأَوَّلُ العَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَدْرًا، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ: "هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ" فَبَايَعُوا الرَّسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا" [صحيح البخاري (4566)].
ومن له كلمةٌ تسمعُ ورأيٌ يطاع؛ يجب عليه أن يسعى في الإصلاح بين المتنازعين والمتخاصمين، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا؛ حَتَّى تَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، فَقَالَ: "اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ" [صحيح البخاري (2693)].
وتوبوا إلى الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إنعامه، والشكرُ له على توفيقه وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد:
أيها المسلم -يا عبد الله-: يقول رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ" [سنن أبي داود (664)].
إنّ في الاتحاد قوةً ومنعة، وفي التفرُّقِ ضعفًا وعجزا وهزيمة، التفرقُ والاختلافُ والتنازعُ يؤدي إلى نتائجَ وخيمة، ومضارَّ جسيمة، تَلحقُ بالمجتمعات والأفراد؛ لأنّه يشلُّ حركةَ المجتمع المسلم، ويوهنُ المسلمين ويضعفُهم... فسُبُل الشّيطان متفرّقة، من تبعها فقد ضلّ وغوى.
والتنازع ناشئ عن اتّباع الأهواءِ التي تفرِّق، والإخاء والتسامح يؤدي إلى المصالحة والاجتماع، فلينظر كلّ واحد ماذا يعمل؟!
إن حُبَّ التفرُّقِ والانقسام بين المسلمين دليل على خبث النّفس الراضيةِ به، وسوءِ الطّويّة، التفرقُ طريق موصل إلى النّار وسخط الجبّار [بتصرف من كتاب "نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم" (9/ 4228) بإشراف الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد، إمام وخطيب الحرم المكي].
فبالصلح والمصالحة، والعفو والمسامحة، والسِّلم والسلام، والوحدة والتوحيد؛ تكون القوة والنصر، وتكون العزة، وتعود الأمجاد إلى سابق عهدها، وترفع راية السلم والعدل، وتتلاشى راية الخوف والظلم.
إن السلامَ إذا عمَّ الأرضَ، والأمنَ إذا شملَ المعمورة؛ عاشَ الناسُ في رخاء، وانتُزِعت من قلوبهم الشحناءُ والبغضاء، وتلاشت الحروب والفتن، وتوقفَ سفكُ الدماء، وانتبهوا لاستصلاحِ الأراضي وعمارتِها، وحرثِها وزراعتِها، واستخراجِ مكنوناتِها وخيراتِها، وشكروا الخالقَ سبحانه فأحسنوا العبادة له، وحده لا شريك له، وحمدوا المنعم -جلّ جلالُه- فأخلصوا قلوبهم له -فنسأل الله تعالى أن يحدُثَ هذا في هذه الآونة-، كما سيحدث في آخر الزمان، في عهد المهديِّ محمدِ بن عبد الله، وكلمةِ الله عيسى بنِ مريم -عليه السلام-، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ إِمَامًا مَهْدِيًّا، وَحَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَتُوضَعُ الْجِزْيَةَ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا" [مسند أحمد، ط الرسالة (15/ 187) (9323)، وانظر: "قصة المسيح الدجال" (ص: 98)، وأصله في البخاري (2222)، ومسلم (155) دون الجملة الأخيرة].
"وَتُمْلأُ الأَرْضُ مِنَ السِّلْمِ كَمَا يُمْلأُ الإِنَاءُ مِنَ الْمَاءِ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً، فَلا يُعْبَدُ إِلاَّ اللَّهُ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَتُسْلَبُ قُرَيْشٌ مُلْكَهَا، وَتَكُونُ الأَرْضُ كَفَاثُورِ الْفِضَّةِ -يعني كمائدة الفضة- تُنْبِتُ نَبَاتَهَا بِعَهْدِ آدَمَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الْقِطْفِ مِنَ الْعِنَبِ فَيُشْبِعَهُمْ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعَهُمْ" [قصة المسيح الدجال للألباني (ص: 45) صحيح الجامع (2970)].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم أصلح ذات بيننا، وأزل الغل والحقد والحسد من صدورنا، واجعلنا يدا على من سوانا.
"اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابَك الجدَّ بالكفار مُلحِق، اللهم قاتل الكفرة والمجرمين؛ الذين يحاربون دينك، ويصدون عن سبيلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.
وصلِّ اللهمَّ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلِّم" [بستان الخطيب (1/ 64)].
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45].