الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | عبدالله بن صالح القصير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
رأس الحكمة مخافة الله تعالى، فأحكم الناس من عرف الله تعالى معرفة صحيحة تامة، تورثه خشية الله تعالى وخوفه وتعظيمه وإجلاله، وتغرس في قلبه محبة الله سبحانه لما يغذوه به من نعمه، وأسبغ عليه من فضله وإحسانه، بحيث يحب الله تعالى، ويرضى عنه، وينيب إليه، ويرغب إليه، ويتوكل عليه، ويذل له، ويخضع لعظمته ..
الحمد لله العليم الحكيم، الذي وسع كل شيء علماً، وأحاط بكل شيء عزة وحكماً، وأتقن ما صنع، وأحكم ما شرع، أحمده سبحانه حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعدهما. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب. يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، هو أكمل مرسل، أنزل عليه أشرف كتاب، وبعثه إلى الناس كافة آخر الدهر لينذر يوم الحساب، وخاطبه ربه –ممتناً عليه- فقال قولاً كريماً: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113]. صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى وبدور الدجى.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وارغبوا إليه واخشوه، وتدبروا كتابه، وأخلصوا له في العمل، واقتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه إمامكم وأخشاكم وأتقاكم لله عز وجل - تكونوا من خيار الأمة الذي امتن الله عليهم بما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة، فإن الله سبحانه وتعالى قد قال في محكم الكتاب: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:269].
وكفى بذلك تنبيهاً على كريم العطاء وجلي الاصطفاء، وحظاً للمخاطبين واللاحقين من قرون الأمة على علو الهمة وبذل الوسع في تحري الحكمة التماساً للخير الكثير، وأن يكون المرء من أولي الألباب المنتفعين بالتذكير.
فاعرفوا الحكمة -يا أولي الألباب-، وتحروها واتصفوا بها - تكونوا ممن وفق للصواب؛ فإن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها، وإنه من يتحرَّ الخير يَلْقَه، ومن يَتَوقَّ الشر يُوقَه، ومن سارع إلى الخيرات سبق، ومن أخذ بنهج السلف الصالحين لحق.
أيها المسلمون: الحكمة مشتقة (لغة) من المنع الذي يراد به الإصلاح، ولذا وصف بها من يمتنع من الجهل والظلم وأخلاق الأراذل، ومن يقول الصواب بلفظ قليل ومعنى جليل.
وأجمع تعريف للحكمة أنها وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، فهي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي. ولذا فسر قول الله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ): بأنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة للحق بالقول والفعل؛ وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والسنة، والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان؛ ولذا قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).
فمن حاز العلم المشتمل على معرفة الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته الكاملة العليا، الدالة على كماله -سبحانه- في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه وقدره، ومعرفة حقه -تعالى- على عباده، وفضله وإحسانه على من أدّى حقه، وعدله فيمن عصاه مع نفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق للعمل به، والكف عن ضد ذلك ابتغاء وجه الله تعالى، وعلى السنن المأثورة عن نبيه صلى الله عليه وسلم - فقد حاز الحكمة (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد:21].
فاللهم زدنا علماً وهدى، وآتنا الحكمة والتقوى، واجعلنا مباركين أينما كنا، ومن أئمة المتقين في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون: رأس الحكمة مخافة الله تعالى؛ فأحكم الناس من عرف الله تعالى معرفة صحيحة تامة، تورثه خشية الله تعالى وخوفه وتعظيمه وإجلاله، وتغرس في قلبه محبة الله سبحانه لما يغذوه به من نعمه، وأسبغ عليه من فضله وإحسانه، بحيث يحب الله تعالى، ويرضى عنه، وينيب إليه، ويرغب إليه، ويتوكل عليه، ويذل له، ويخضع لعظمته، مستسلماً له منقاداً لمراده، فيتقرب إليه بصالح العمل، ويتوب إليه من الزلل، ويعتذر إليه من الخطأ والتقصير في حقه عز وجل مقرًّا له سبحانه بالربوبية وكماله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته العليا وأنه جل ذكره المتفرد بالإلهية، فلا يستحق أحد سواه شيئاً من العبودية، فإنه تعالى هو الذي أوجدنا من العدم، وأحسن الخلق، وغذّانا بألوان النعم، وجاد بأصناف الكرم، فيا سعادة من خشع له وسلم، وانقاد له بالعبودية طوعاً -محسناً- واستسلم (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:112].
أيها المسلمون: وأسعد الناس بالحكمة أكملهم معرفة وإيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم، واتباعاً له، فإنه هو الذي أنزل الله عليه الكتاب والحكمة، وبعثه رحمة لهذه الأمة، وحفّه بالعصمة، فإنه نبي الله حقًّا ورسوله صدقاً، وإمام أهل التقى، وهو خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وخليل رب العالمين؛ فمن عرفه -صلى الله عليه وسلم- حق المعرفة، وآمن به، وانقاد له ظاهراً وباطناً، وحقق ذلك بتصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وعبد الله تعالى مخلصاً له بما شرعن وجانب ما خالف ذلك من الأهواء والبدع - فقد لبس الحكمة؛ وتدرع بأعظم دروع العصمة؛ وبذلك يكون المرء من أهل الصلاح والإصلاح في الأرض ومحاربة الفساد والساعين في جلب المصالح للأنام في المعاش والمعاد فكان ممن (يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [البقرة:207].
أيها المسلمون: ومن أمارات الحكمة أن يكون المرء رشيداً في تصرفاته كلها، فيبدأ بالأهم فالأهم، ويأخذ بالأصلح فالأصلح، فإذا كان أمامه مصلحتان لا يمكن تحصيلهما جميعاً سعى في تحصيل أكبرهما وأنفعهما، وإذا تعارضت مصلحتان عامة وخاصة قدم العامة؛ لأنها أنفع وأشمل والأجر فيها أكمل، وإذا دار الأمران بين أن يفعل واجباً أو تطوعاً ولا يمكنه القيام بهما جميعاً قدم الواجب على التطوع؛ لأنه آكد، وفاعله بثوابه يوم القيامة أسعد، وإذا تبين له أنه يترتب على بعض تصرفاته مصلحة ومفسدة متساويتان، قدم ما فيه درء المفسدة، لأن درء المفسدة -عند التكافؤ- مقدم وأولى من جلب المصالح، وإذا كان لا بد من ارتكاب إحدى مفسدتين -لا مفر من ذلك- ارتكب أخفهما ضرراً وأقلهما خطراً.
أيها المسلمون: ومن أمارات الحكمة أن لا يدخل العاقل في أمر حتى ينظر في عواقبه، ويعرف سبيل الخلاص منه، فأحزم الناس من لم يرتكب عملاً حتى يفكر ما تجري عواقبه، وإذا فتح الله على العبد باب عمل صالح أو طريق خير ديني أو دنيوي أن يجدَّ فيه، ويحافظ عليه، ويجتهد في الزيادة منه في حدود الشرع، فمن بورك له في شيء فليلزمه.
أيها المسلمون: ومن الحكمة أن تقبل ممن نصحك نصيحته، وتشكر له إحسانه وشفقته، حيث أعانك على نفسك، ونبهك لتتقي ما يضرك، فإن من حق الناصح أن يقابل بالشكر، فإن شكر الناصح فضيلة للمنصوح، وتشجيع للناصح، وليس من أخلاق ذوي الحكمة أن يركب المرء رأسه، ويعبد هواه، وتأخذه العزة بالإثم، فيمضي على خطئه ويصر على ضلاله، بل الحق ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها، ولا يمنعه من قبول الحق منصب أو جاه، قال تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم:76].
عباد الله: ومن أعظم مظاهر الحكمة حسن معاشرة الزوجة ومصاحبتها بخير، قال تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:129].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته -وفي رواية: وكسرها طلاقها- وإن تركته لم يزل أعوج؛ فاستوصوا بالنساء " متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ فإن كره منها خلقاً رضي منها آخر - أو قال: غيره) وقال صلى الله عليه وسلم: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم " رواه الترمذي.
فاتقوا الله عباد الله، وتحلوا بالحكمة في سائر الأحوال، واسألوا الله المزيد منها، فإنها من أعظم النوال، واحذروا مما ينقصها أو يضادها، فإن السفه من أسباب مجانبة الصواب ونقص الثواب والخسران يوم الحساب (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.