الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | عبد الله بن ناصر الزاحم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
واعلموا أن الشكر من أجلّ المقامات وأعلاها، وهو من المقاصد العظمى التي خلق الله الخلق من أجلها، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
الخطبة الأولى:
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أشكره على جزيل عطائه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى بشيرا ونذيرا، وجعله الله لأمته هاديا وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد عباد الله: فاتقوا الله حق التقوى.
واعلموا أن الشكر من أجلّ المقامات وأعلاها، وهو من المقاصد العظمى التي خلق الله الخلق من أجلها، قال -تعالى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].
وأخبر -سبحانه- أن أهل شكره هم أهل عبادته، فقال: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172].
وأثنى -سبحانه- على خليله إبراهيم بشكره نعمه فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل:120-121].
عباد الله: الشكر هو الاعتراف بالنعم باطنا، والتحدث بها ظاهرا، وصرفها فيما يحب مسديها وموليها.
واعلموا -عباد الله- أن الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره.
والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، فمن استكملها فهو الشاكر؛ والحمد يقع بالقلب واللسان.
روى الحاكم في المستدرك عن عائشة -رضي الله عنها-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها، وما أذنب عبد ذنبا فندم عليه إلا كتب الله له مغفرة قبل أن يستغفره، وما اشترى عبد ثوبا بدينار أو نصف دينار فلبسه فحمد الله عليه إلا لم يبلغ ركبتيه حتى يغفر الله له".
وعن ابن عباس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَلْبٌ شَاكِرٌ، وَلِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَبَدَنٌ عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرٌ، وَزَوْجَةٌ لَا تَبْغِيهِ خَوْنًا فِي نَفْسِهَا وَلَا مَالِهِ" رواه البيهقي في شعب الإيمان.
ومن الشكر أن تظهر على المرء آثار النعمة، فالله يحب من عبده أن يرى أثر نعمته عليه، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كُلُوا، وَاشْرَبُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ وَلَا سَرَفٍ؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُرَى نِعْمَتُهُ عَلَى عَبْدِهِ".
وفي صحيح مسلم، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا"، فكان رضوان الله -وهو أعظم جزاء- مقابل شكره -جل وعلا- بالحمد.
قال أبو حازم: وكل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية، وإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره، قال سفيان في قوله -تعالى-: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف:182] ، قال: يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر.
حتى المصائب تكون نعما، قال شريح: ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عليه فيها ثلاث نعم: أن لا تكون كانت في دينه، وأن لا تكون أعظم مما كانت، وأنها لا بد كائنة فقد كانت.
وكان أبو المغيرة إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: أصبحنا مغرقين بالنعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن محتاجون!.
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، ثم بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه- حين أخذ بيده وقال: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ! وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ!". فَقَالَ: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ: لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ) [إبراهيم:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي وعد الشاكرين بالزيادة، فقال: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه...
معاشر المؤمنين: روى البيهقي في شعب الإيمان عن ثابت، قال: كان نبي الله داود -عليه السلام- قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم يكن تأتي ساعة من ساعات الليل أو النهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فعمهم الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].
عباد الله: ومن أجل أن يعرف العبد نعم الله عليه فيحقق الشكر لله -جل وعلا-، فعليه أن ينظر إلى إخوانه الذين حرموا من نعم كثيرة هو يتمتع بها، انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك.
معاشر المؤمنين: لقد حاز السلف الصالح -رحمة الله عليهم- النصيب الأوفر من الشكر والتقدير للنعم، ومعرفة أنواعها، فقد كان الحسن البصري إذا ابتدأ حديثه يقول: الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا، ورزقتنا، وهديتنا، وعلمتنا، وأنقذتنا، وفرجت عنا، لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبتّ عدونا، وبسطت رزقنا، وأظهرت أمننا، وجمعت فرقتنا، وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك كثيرا، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الشكر إذا رضيت.
فاقتدوا -عباد الله- بخيرة خلق الله من الأنبياء والصالحين في الشكر عند النعماء، والصبر عند البلاء، وتدبروا ما في كتاب الله من الأمر بالشكر، والثناء على الشاكرين، واعملوا بها؛ تفوزوا في الدنيا والآخرة.
ثم صلوا وسلموا على أكثر عباد الله شكرا، وأعلاهم قدرا، محمد بن عبد الله النبي الأمي، فقد أمركم ربكم بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]...