البصير
(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...
العربية
المؤلف | سعد بن سعيد الحجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - |
الحاجة إلى المواعظ أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، وأشد من الحاجة إلى الصحة، ومن الحاجة إلى المال وإلى الولد، وإلى النسب والحسب، وإلى المراتب والمناصب؛ لأن الله أرسل الرسل بالمواعظ، وأنزل الكتب بالمواعظ، وجعل الهداية بالمواعظ، والسعادة بالمواعظ، وخص المكلفين بالمواعظ، وشرفهم بالمواعظ. ولأن الحاجة إلى...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)[غافر:61- 63].
أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا شاهدًا علينا، ومبشرًا ونذيرا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فمن أطاعه هدي إلى صراط مستقيم وفاز فوزًا عظيما، ومن عصاه ضل إلى طريق الجحيم وخسر خسرانا مبينا، وعظنا بمواعظ الكتاب والسنة، قال الله -تعالى-: (قُمْ فَأَنذِرْ)[المدثر: 2].
حتى أتاه اليقين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
وهذا يدل على أن الحاجة إلى المواعظ أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، وأشد من الحاجة إلى الصحة، ومن الحاجة إلى المال وإلى الولد، وإلى النسب والحسب، وإلى المراتب والمناصب؛ لأن الله أرسل الرسل بالمواعظ، وأنزل الكتب بالمواعظ، وجعل الهداية بالمواعظ، والسعادة بالمواعظ، وخص المكلفين بالمواعظ، وشرفهم بالمواعظ.
ولأن الحاجة إلى الطعام والشراب مقيدة، والحاجة إلى المواعظ غير مقيدة.
ولأن الحاجة إلى الطعام والشراب عامة للعقلاء، وغير العقلاء وللمكلفين وغير المكلفين، والحاجة إلى المواعظ خاصة بالعقلاء والمكلفين.
والحاجة إلى الطعام والشراب للأبدان، والحاجة إلى المواعظ للقلوب، وميزان العبد وميزان العمل بالقلب، وليس بالبدن؛ لأن الله لا ينظر إلى الأبدان ولا إلى الصور والأموال، ولكن ينظر إلى القلوب.
ولأن العبد السمين يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضه، وليست الحاجة للصحة أشد؛ لأن الله يعطي الصحة من يحب ومن لا يحب، وقد تكون عند الأعداء أكثر من الأنبياء ومن الأولياء، يقول: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل".
ويقول: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم".
ويقول: "من يرد به خيرًا يصب منه".
دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابي، فقال له: "هل أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ قط؟" قال: وما أُمُّ مِلْدمٍ؟ قال: "حَرٌّ يكون بين الجلد واللحم" قال: ما وجدت هذا قط، قال: "فهل أخذك الصُّداع؟" قال: وما الصداع؟ قال: "عرق يضرب على الإنسان في رأسه" قال: ما وجدت هذا قط، قال: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا".
ولست كالحاجة إلى المال لأنه فتنة، حلاله حساب، وحرامه عقاب، يقول تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[التغابن: 15].
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخش علينا الفقر، وإنما خشي علينا كثرة المال، يقول: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا".
ولأن الرزق يطلب العبد كما يطلبه أجله، يقول: "لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت".
والموعظة وظيفة الرسل -عليهم السلام-، دعوا بها الناس وأرشدوهم، وهدوهم إلى الصراط المستقيم، ففتح الله بها قلوبًا غلفا، وآذانًا صما، وأعينًا عميا، وبها دخل الناس في دين الله أفواجا، وبها انتشر الإسلام إلى بيت كل مدر ووبر، وظهر بها الإسلام على جميع الأديان، يقول الله -تعالى-: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)[الغاشية: 21- 22].
ويقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].
ويقول العرباض بن سارية: "وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا؟ قال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ".
قال ابن مسعود: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يتخولنا بالموعظة بين الحين والحين".
والموعظة مفتاح لقلوب المؤمنين، ونور لصدورهم، وحماية لفطرتهم، ينتفعون بها ولا ينتفع بها غيرهم، وتثمر في حياتهم ولا تثمر في حياة غيرهم، جمعهم الله بها بعد فرقة، وأعزهم بها بعد ذلة، وقواهم بها بعد ضعف، ونصرهم بها بعد هزيمة، وجلت بها القلوب واستقامة ووعت وعملت، وذرفت بها العيون وسلمت من عذاب الله: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
واقشعرت بها الجلود فلانت وانقادت وخضعت، وكان بها المؤمنون خير أمة أخرجت للناس؛ لأن نفعهم نفع متعد وليس نفعًا لازمًا، ولأنهم يحبون لغيرهم ما يحبونه لأنفسهم، ولأنهم يعلمون أن من دعا إلى هدى فله مثل أجور من دعاهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، والدال على الخير كفاعله، يقول الله -تعالى-: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55].
ويقول: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى)[الأعلى: 9-11].
وفي غزوة بدر، قال لأصحابه وهم يقاتلون عدوهم: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" قال عمير بن الحمام لما سمع هذه الموعظة: جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: "نعم" قال: بخ بخ، أي: عظيم عظيم، قال: "ما الذي دعاك إلى أن تقول: بخ بخ؟!" قال: رجاء أن أكون من أهلها، قال: "إنك من أهلها" فقاتل حتى استشهد.
ومواعظ الله الشرعية كثيرة جدًا، منها في القرآن ما يزيد على 6220 آية، ومنها في السنة عشرات الآلاف.
وهذه المواعظ أقام الله بها الحجة على الناس؛ لأنها آيات بينات دائمة لا يعقلها إلا العالمون العاملون، وحملهم بها الله الأمانة التي عرضت على أكبر المخلوقات من سماء وأرض وجبال، وما استطاعت حملها واعتذرت إلى ربها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلومًا جهولا، وكلفهم بالتكاليف الشرعية فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
ولم تقتصر المواعظ على الشرعية، بل هناك مواعظ كونية أوجدها الله في الكون، منها المرئية يراها الناس بالعين فيزدادون إيمانا ويداومون الانقياد والاستسلام لله -تعالى-، ومنها المسموعة ليسمعها الناس فيعونها ويعملون بها ويدعون الناس بها ويدعون الناس إليها، ومنها المحسوسة التي تدرك بالحس ليبقى عند الإنسان إحساس بالعمل وإعراض عن الكسل.
وكل هذه الآيات ليبقى المسلم على صلة بربه، فيعبده وكأنه يراه، ويتقيه حيث كان، ويتبع السيئة الحسنة حتى تمحوها ليكون المسلم على بصيرة من أمره، يصبح ويمسي وقد عزفت نفسه عن الدنيا، فيظمأ نهاره بالصيام، ويسهر ليله بالقيام، ويحسن العمل في الدنيا ليحسن له الوقوف بين يدي الله يوم القيامة.
وإن من المواعظ الكونية التي نراها بأبصارنا، ونسمعها بآذاننا، ونحس بها بحواسنا، وكان الإحساس بها في الليل وفي النهار، وفي الشباب وفي الهرم، وفي الصحة وفي السقم، موعظة الشتاء.
والشتاء هو أحد الفصول الأربعة التي تتكون منها أيام العام، وفصول العام الأربعة تتكون من رحلتين للشمس طوال العام: رحلة هبوط من وسط السماء إلى الأفق يتكون فيها فصلا الخريف والشتاء، ورحلة صعود يتكون فيها فصلا الربيع والصيف.
وقد ذكر الله الشتاء في كتابه مرة واحدة في قوله تعالى: (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)[قريش: 2].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على اغتنامه إذ يقول: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة".
وكان عمر يتعاهد رعيته إذا جاء الشتاء ويوصيهم بالاستعداد له، يقول لهم: "إن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، سريع دخوله، بعيد خروجه".
وكان علي يقول: "اتقوا الشتاء في أوله، وتعرضوا له في آخره، يفعل بالأجساد كما يفعل بالأشجار؛ أوله محرق، وآخره مورق".
وكان ابن مسعود يقول: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
وكان عبيد بن عمير يقول إذا جاء الشتاء: "يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر نهاركم لصيامكم فصوموا".
ويتميز الشتاء بقصر النهار، إذ يأخذ الليل منه حوالي ساعتين، ويطول فيه الليل، ويكثر فيه الضباب، وتكثف السحب، ويشتد الهواء، ويبرد الجو، وتكثر الصواعق، وتنزل الأمطار بإذن الله، وتحترق الأرض من شدة البرد، وتساقط أوراق الشجر، وتنقص الثمار، وتنحبس الدواب في جحورها، وتجمد المياه، وتكثر العلل والأمراض، وتقل الحركة، ويكثر النوم وغير ذلك.
الخطبة الثانية:
ينبغي للمسلم أن يتعظ بمواعظ الشتاء، وهي كثيرة:
منها: الاستجابة لله -تعالى-، والانقياد له، والاستسلام له، وذلك بسلامة القلب، وحسن القول، وصلاح العمل، وحسن الخلق، وبالائتمار بأمره، والانتهاء بنهيه، والاشتغال بطاعته، والبعد عن معصيته، ونستفيد ذلك من استجابة المخلوقات له كالشمس، والليل والنهار، والأشجار والأنهار والدواب، فإنها استجابت وهي غير مكلفة، فلماذا لا يستجيب الإنسان وهو مكلف عملاً بقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[الأنفال: 24]؟!
ومن المواعظ: اليقين بأن دين الإسلام دين اليسر، وأن الله لم يكلفنا ما لا نطيق، وأنه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وأنه أمرنا أن نتقيه حسب الاستطاعة، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ)[البقرة: 185].
ويقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن: 16].
ويقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج: 78].
ولم يخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وقال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".
ونستفيد هذا من جواز الجمع بين الصلاتين عند العذر من مطر ونحوه، وجواز المسح على الخفين للمقيم يوم وليله وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وجواز المسح على العمامة، ونحو ذلك.
ومن المواعظ: الصبر على الطاعات، وتحمل الأذى في سبيل الله، فإن الصبر أوسع عطاء، وأجزل وفاء، وهو الضياء، وهو النصر على النفس وعلى الشيطان وعلى الأعداء، وبالصبر على الطاعة يمحو الله الخطايا، ويرفع الدرجات، يقول: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط".
ونستفيد هذا من قوله: "إسباغ الوضوء على المكاره" أي: على البرد، وتحمل ذلك في سبيل الله.
ومن المواعظ: الخوف من الله -تعالى-؛ لأنه الذي يفعل ما يريد، ويقول لشيء: كن فيكون، وله الأمر من قبل ومن بعد، وله مقاليد السموات والأرض، وأزِمَّة أمور الخلق بيده، والخوف نوع من أنواع العبادة لا يجوز صرفه إلا لله وحده، قال تعالى: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 175].
وقد تكفل الله للخائفين منه بجنتين، فقال تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: 46].
وتكفل للخائف أن يؤمنه يوم القيامة أمنا لا ينقطع، يقول تعالى في الحديث القدسي: "وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي بين خوفين ولا أمنين، من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، ومن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة".
ونستفيد هذا من سماع الصواعق والرعد، ومن رؤية البرق، ومن كثافة السحب ونزول المطر، ومن شدة الهواء، ونحو ذلك، فإن الله أهلك عادًا بالريح، وثمود بالصاعقة، ومدين بالصيحة، وقوم فرعون بالغرق، وهزم قريش بالريح، والله غالب على أمره.
ومن المواعظ: معرفة حقيقة الدنيا من أنها قصيرة، فما كأنها إلا ظل شجرة أو سحابة صيف أو دار لها بابان يدخل الإنسان من أحدهما ويخرج من الآخر، وما هي في الآخرة إلا كصفر وكمن غمس أصبعه في البحر ثم أخرجها.
وعلى المسلم إذا عرف حقيقتها: أن يزهد فيها؛ لأنها متاع زائل ومتاع الغرور، ولأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولأنها أهون على الله من الميتة على أهلها، ولأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا، وليس للإنسان فيها إلا ما أكل فأفنى، ولبس فأبلى، وتصدق فأبقى، ولذا قال الله -تعالى-: (فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: 33].
وقال: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ)[الحديد: 20].
ونستفيد من قصر النهار، ومن احتراق الأرض بالثلج، ومن يبوسة الأشجار، وانقطاع الثمار، ونحو ذلك من المواعظ، تذكُّرَ الآخرة، والاستعداد لها، فإنها الدار الباقية، وهي دار الإقامة ودار الحصاد ودار الجزاء، وهي التي لا دار بعدها، وهي الدار التي يجب أن نغتنم الدنيا من أجلها، والشباب من أجلها، والصحة من أجلها، والغنى من أجلها، وأن نجعلها همنا ليكون سعينا مشكورًا وتجارتنا رابحة لن تبور، يقول الله -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا)[الإسراء: 19].
ويقول: "ومن كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة".
ونستفيد هذا من طول الليل الذي يذكرنا القبر، ومن شدة البرد الذي يذكرنا جهنم، فإن من عذابها ما هو بارد يهلك ويسمى الزمهرير والغساق، قال تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ)[ص: 57].
وقال: "اشتكت النار قالت: يا رب، أكل بعضي بعضا ـ أي: حطم بعضي بعضا، فأذن الله لها بنفسين: نفس في الصيف وهو شدة الحر، ونفس في الشتاء وهو شدة البرد".
ومن العلل والأسقام التي تذكرنا الموت.
ومن المواعظ: تذكر نعمة الله على العبد، فإن نعمه لا تعد ولا تحصى، لا في البر ولا في البحر ولا في الجو، ولا في الأنفس والولد والمال والليل والنهار وفي كل شيء، وقد وعد بالمزيد لمن شكره، ووعد بالرضوان ووعد بالجنة.
ونستفيد هذا من دفع البرد بالطعام والشراب وتدفئة البدن بالألبسة وبالأدفئة الكهربائية والغازية والنارية، ونحو ذلك.
ومن المواعظ: السبق إلى الخيرات باغتنام النهار بالصيام، والليل بالقيام، والمال بالنفقة، والوقت بالذكر، والقراءة والدعوة، ونحو ذلك.
ونستفيد ذلك من قصر النهار، فيصومه العبد لقلة ساعاته، وعدم حاجة الجسم إلى الطعام والشراب، والصيام في الشتاء الغنيمة الباردة، والصيام جنة من النار ومن المعاصي ومن الشهوات، وهو باب في الجنة وسعادة في الدنيا والآخرة.
ونستفيده من طول الليل فيقومه بعد النوم لطول الزمن، وقيام الليل دأب الصالحين، ومرضاة الرب ومنهاة عن الإثم، ومغفرة للذنب، ومطردة لداء الجسد، وهو صفة الأنبياء، وصفة عباد الرحمن، وصفة العلماء، وصفة أهل الجنة، وهو شرف المؤمن.
ونستفيد من فقر الناس وحاجتهم إلى المسكن وإلى الأطعمة وإلى الألبسة وإلى الأدوية، فيتصدق المسلم، ويدخل السرور عليهم، ورضي الله عن معاذ الذي بكى عند موته، وقال: "أبكي على أربع: أيام الصيف الحارة كنت أصومها، وليالي الشتاء البارة كنت أقومها، ومجالسة العلماء، ومصاحبة الصالحين".