البحث

عبارات مقترحة:

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

القادر

كلمة (القادر) في اللغة اسم فاعل من القدرة، أو من التقدير، واسم...

عندما يكون الوفاء رجلا

العربية

المؤلف هلال الهاجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. قصة مَثَل: \"أوفى من السَّمَوأل\" .
  2. فضل الوفاء وثمراته .
  3. مشاهد رائعة من الوفاء .
  4. تأملات في وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة .
  5. وفاء النبي صلى الله عليه وسلم للصديق والأنصار .
  6. من علامةِ وفاءِ الإنسان. .

اقتباس

الوفاءُ .. كلمةُ حبٍّ وصفاءِ .. في حروفِها الإخلاصُ والنَّقاءُ .. أجمعَ على تقديرِها العُقلاءُ .. وإذا كانَ قد وُجدَ مثلَ هذا الوفاءِ في الجاهليِّةِ الظَّلماءِ .. فكيفَ إذاً الحالُ بعدَ نزولِ شَريعةِ السَّماءِ .. ولذلكَ لن تجدَ بعدَ ذلك من يقولُ أوفى من محمدٍ سيِّدِ الأنبياءِ .. عليه الصَّلاةُ والسلامُ عددَ نجومِ السَّماءِ .. وعددَ قطرِ الماءِ .. خاتمِ المرسلينَ وإمامِ الأتقياءِ. لقد ضربَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في الوفاءِ من المثالِ أجملَه، ومن النصيبِ أكملَه، ومن ردِّ الجميلِ أحسنَه وأعدلَه. ففي مشهدٍ من مشاهدِ الوفاءِ والبِّرِ .. تنسكبُ دموعُ خيرِ البَشرِ...

الخطبة الأولى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 71- 72]..

أَمَّا بَعْدُ: كانت العربُ إذا ضربتْ مثلاً بالوفاءِ قالوا: "أوفى من السَّمَوأل" .. فما هي قصَّتُه؟

لما أرادَ امرؤ القَيسِ المضيَّ إلى قيصرَ ملكِ الرُّومِ، أودعَ عندَ السَّموأل دُروعاً وسلاحاً وأمتعةً تساوي من المالِ جملةً كثيرةً.

فلمَّا ماتَ امرؤُ القَيسِ أرسلَ ملكُ كندةَ يطلبُ الدُّروعَ والأسلحةَ المودعةَ عندَ السَّموألَ، فقالَ السَّموألُ: لا أدفعُها إلا لمستحقِّها وأبى أن يدفعَ إليه منها شيئاً، فعاودَه فأبى، وقالَ: لا أغدرُ بذمَّتي، ولا أخونُ أمانتي، ولا أتركُ الوفاءَ الواجبَ عليَّ، فقصدَه ذلك الملكُ من كندةَ بعسكرِه، فدخلَ السَّموألُ في حُصنِه، وامتنعَ به، فحاصرَه ذلك الملكُ.

وكانَ ولدُ السَّموأل خارجَ الحُصنِ فظفرَ به الملكُ فأخذَه أسيراً، ثمَّ طافَ حولَ الحُصنِ، وصاحَ بالسَّموأل، فأشرفَ عليه من أعلى الحُصنِ، فلمَّا رآهُ قالَ له: إنَّ ولدَك قد أسرتُه، وها هو معي، فإن سلَّمتَ إليَّ الدروعَ والسِّلاحَ التي لامرئ القَيسِ عندَك، رحلتُ عنك وسلَّمتُ إليك ولدَك، وإن امتنعتَ من ذلك، ذَبحتُ ولدَك وأنت تنظرُ، فاخترْ أيُّهما شئتَ؟

 فقالَ له السَّموألُ: ما كنتُ لأخفِرَ ذِمامي، وأبطلَ وفائي، فاصنعْ ما شئتَ، فذبحَ ولدَه وهو ينظرُ، وصبرَ السَّموألُ على ذبحِ ولدِه، في سبيلِ محافظتِه على وفائِه، ثمَّ لمّا عجزَ عن الحُصنِ رجعَ خائباً، فلمَّا جاءَ الموسمُ وحضرَ ورثةُ امرئ القيسِ، سلَّمَ إليهم الدُّروعَ والسِّلاحَ .. فسارت الرُّكبانُ بعد ذلك بهذا المثلِ: "أوفى من السَّمَوأل".

عبادَ اللهِ .. الوفاءُ .. كلمةُ حبٍّ وصفاءِ .. في حروفِها الإخلاصُ والنَّقاءُ .. أجمعَ على تقديرِها العُقلاءُ .. وإذا كانَ قد وُجدَ مثلَ هذا الوفاءِ في الجاهليِّةِ الظَّلماءِ .. فكيفَ إذاً الحالُ بعدَ نزولِ شَريعةِ السَّماءِ .. ولذلكَ لن تجدَ بعدَ ذلك من يقولُ أوفى من محمدٍ سيِّدِ الأنبياءِ .. عليه الصَّلاةُ والسلامُ عددَ نجومِ السَّماءِ .. وعددَ قطرِ الماءِ .. خاتمِ المرسلينَ وإمامِ الأتقياءِ.

لقد ضربَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- في الوفاءِ من المثالِ أجملَه، ومن النصيبِ أكملَه، ومن ردِّ الجميلِ أحسنَه وأعدلَه.

ففي مشهدٍ من مشاهدِ الوفاءِ والبِّرِ .. تنسكبُ دموعُ خيرِ البَشرِ .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي؛ فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ".

وها هو لا يزالُ يتَّذكرُ زوجتَه المًخلصةَ خديجةَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا- التي وقفتْ معهُ في أشدِّ أيامِه .. وكانتْ له نِعمَ المُعينُ.. صابرةً مُحتَسبةً.. بذلتْ له الرُّوحَ والمالَ.. ورزقَه اللهُ –تعالى- منها العيالَ .. ولا يمنعُه حبُّه لعائشةَ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا- وهيَ في ثورانِ الغَيرةِ .. أن يمدحَ خديجةَ ويذكرَ مآثرَها .. تقولُ عائشةُ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا-: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ - أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، قَالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ".

وكانَ يُكرمُ أهلَها وصاحباتِها .. فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءتْ عَجُوزٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَقَالَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟"، قَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الإِقْبَالَ؟، فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ! إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَانَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنْ الإِيمَانِ".

بل حتى مشاعرَه تتغيَّرُ إذا رأى شيئاً من أثرِها .. لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلادَةٍ لَهَا كَانَتْ عِنْدَ خَدِيجَةَ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ يَومَ زَوَاجِها، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا"، فَقَالُوا: نَعَمْ.

لقد وفَّى النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لعمِه أبي طالبٍ .. فقد حماه ونصرَه .. ومنعَه من سُفهاءِ مكةَ وآزرَه .. فأرادَ له الخيرَ وردَّ الجميلِ والوفاءَ في الدُّنيا .. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: "أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)[التوبة: 113].

 وأما يومُ القيامةِ فقالَ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضيَ اللهُ عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ" .. فأصبحَ أخفَّ النَّاسِ عذاباً في الجحيمِ .. وفاءً لما بذلَه لهذا الدِّينِ العظيمِ.

وأما وفاؤُه لصاحبِ العُمُرِ وصَديقِ الدَّربِ أبي بكرٍ الصِّديقِ -رضيَ اللهُ عنه- فشيءٌ عجيبٌ .. هدى اللهُ أبا بكرٍ -رضيَ اللهُ عنه- برسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وأخرجَه بِه من الظُلماتِ إلى النَّورِ .. وأيُّ نعمةٍ وفضلِ أعظمُ من ذلك .. ومع هذا يعترفُ بفضلِ أبي بكرٍ عليه ويُثني عليه بكلماتٍ .. يبلغُ بها العبدُ منزلةً عظيمةً عندَ ربِّ الأرضِ والسماواتِ .. فيقولُ على المنبرِ أمامَ الصَّحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم-: "ما لِأَحدٍ عندَنَا يَدٌ –أي: نِعْمَةٌ- إلَّا وقَدْ كافأناهُ، ما خلَا أبا بكرٍ، فإِنَّ لَهُ عِندنَا يَدًا يُكافِئُهُ اللهُ بِها يَومَ القيامَةِ، ومَا نفَعَنِي مَالُ أحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعِني مالُ أبي بِكْرٍ، ولَوْ كنتُ متخِذًا خَلِيلًا، لاتخذْتُ أبا بكرٍ خلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صاحبَكُمْ خليلُ اللهِ".. فهنيئاً للصِّدِّيقِ هذا المدحِ والثناءِ .. وذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيه من يشاءُ.

لقد كانَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مع الأنصارِ أعظمَ الوفاءِ والاعترافِ بالفضلِ والشُّكرِ على النِّعمةِ .. لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَوْمَ حُنَيْنٍ مَا أَفَاءَ، طَفِقَ يُعْطِى رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالَ أُنَاسٌ من الأنصارِ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يُعْطِى قُرَيْشًا وَيَدَعُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، فَحُدِّثَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَقَالَتِهِمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَقَالَ: "مَا كَانَ حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟"، قَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذَوُو آرَائِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يُعْطِى قُرَيْشًا وَيَتْرُكُ الأَنْصَارَ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، قال: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ: أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ بِي؟ وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟"، قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ..

 ثُمّ قَالَ: "أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟"، قَالُوا: بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ،.. ولكنَّه لم يتركْهم للنَّفسِ والشَّيطانِ .. قَالَ: "أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ عَلَيّ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا؟، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ، أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَوَادِيًا، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا وَوَادِيًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ وَوَادِيَهَا، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنّاسُ دِثَارٌ، اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ"، فبكى القومُ حتى أَخضَلوا لِحاهم، وقالوا: رضينا برسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قِسْماً وحَظَّاً.

لم ينساهم حتى في آخرِ أيامِه وفي آخرِ صُعودٍ له للمنبرِ .. فقد خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وَقَدْ عَصَبَ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي –أيْ: بطانتي وخاصتي- وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ".

بل بلغَ وفاءُه إلى الجماداتِ .. فبادلَ جبلَ أحدٍ المشاعرَ .. فعنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" .. واحتضنَ جِذعَ النَّخلةِ المُشتاقِ الباكي .. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليه وسلمَ-يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ حَتَّى أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ، وقَالَ: "لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيِّباً مباركاً فيه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلمَ تسليماً كثيراً أما بعد:

أيُّها المسلمونَ .. لقد تنعَّمَ في وفاءِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الجميعُ حتى أعداءَه .. كانَ أهلُ مكةَ وهم على غيرِ دينِه لا يجدونَ إنساناً يأتمنونَه على أَنْفَسِ ودائعِهم وأغلى ما عندَهم إلا محمداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلمَّا هاجرَ إلى المدينةِ أبقى عليَّاً بنَ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ عنه- في مكةَ، وأمرَه أن يَردَّ الودائعَ إلى أهلِها .. بل حتى في الحربِ كانَ أعظمَ النَّاسِ وفاءً .. عن حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ -رضيَ اللهُ عنهما- قَالَ: "مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: "انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ".

وأما وفاءُه للهِ –تعالى-.. فقد بلَّغَ رِسالةَ ربِّه وأدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمَّةَ وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِه حتى أتاه اليقينُ .. حتى إن اللهَ –تعالى- شَهدَ اللهُ له في آخرِ حياتِه .. وأنزلَ آياتٍ تُتلى إلى يومِ القيامةِ بإكمالِ دينِه وتمامِ نعمتِه فقالَ سبحانَه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا) [المائدة: 3].. فغفرَ اللهُ –تعالى- له ما تقدمَ من ذنبِه وما تأخرَ .. ومع ذلكَ كَانَ ‏ ‏يَقُومُ ‏ ‏مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى ‏ ‏تَتَفَطَّرَ ‏ ‏قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ ‏له ‏عَائِشَةُ -رضيَ اللهُ عنها-: ‏لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ:‏ "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".

فيا أهلَ الإسلامِ .. دينُّكم دينُ الوفاءِ .. ونبيُّكم أوفى الأتقياءِ .. فتمسكوا بدينِكم واقتدوا بنبيِّكم .. وكونوا مضربَ مثلٍ لسائرِ الأممِ والأديانِ في الوفاءِ .. فإن كثيراً منهم قد فَقَدَ الوفاءَ في الأحبابِ .. ولم يجده إلا عندَ الكلابِ.

يقولُ عليُّ بنُ الحسينِ المسعودي: "إنَّ من علامةِ وفاءِ المرءِ ودوامِ عهدِه، حنينُه إلى إخوانِه، وشوقُه إلى أوطانِه، وبكاؤه على ما مضى من زمانِه".

اللَّهُمَّ ألِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعَمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِينَ لَهَا وَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا ..

اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالأَبْصَارِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ، وَلا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ، ولا تَفْتِنَّا فِي دِينِنَا، وَاجْعَلْ يَوْمَنَا خَيْراً مِنْ أَمْسِنَا، وَاجْعَلْ غَدَنَا خَيْراً مِنْ يَوْمـِنَا، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَارِنَا أَوَاخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِيمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا.

اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ،ودمِّرْ أعداءَ الدِّينِ، واجعلْ هذا البلدَ آمناً مطمئنَّاً وسائرَ بلادِ المسلمينَ ..اللهم آمنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، وأدمْ الأمنَ والاستقرارَ في ربوعنِا يا ذا الجلالِ والإكرامِ.