البحث

عبارات مقترحة:

المولى

كلمة (المولى) في اللغة اسم مكان على وزن (مَفْعَل) أي محل الولاية...

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

ظاهرة الانتحار وانتشارها

العربية

المؤلف ياسر دحيم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. عداوة الشيطان للإنسان واستدراجه للقبائح .
  2. الانتحار ظاهرة عالمية   .
  3. تزايد حالات الانتحار بين المسلمين .
  4. التحذير والوعيد لمن قتل نفسه .
  5. الانتحار ليس علاجاً للمشكلات   .
  6. أسباب انتشار ظاهرة الانتحار .

اقتباس

تزايدت حالات الانتحار بين الشباب في السنوات الأخيرة بصورة تثير القلق, وتبعث على الأسى أن ينهي مسلمٌ حياته شنقاً أو بتناول السم أو بقطع شرايينه أو بإطلاق رصاصة على رأسه, حيث تطالعنا الأخبار عن حالاتٍ انتحارٍ متزايدة لأسبابٍ واهية, يقدم فيها الإنسان على قتل نفسه, مما يدل على ضعف الإيمان وغياب الإيمان بالقضاء والقدر...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الجواد الكريم الشكور الحليم، أسبغ على عباده النعم ودفع عنهم شدائد النقم وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل العظيم، والخير العميم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين وسلم تسليما.

عباد الله: لقد حذرنا الله -تبارك وتعالى- من مكائد الشيطان والوقوع فيها, إذ يزين الشيطان لابن آدم الأفعال القبيحة والتي تنكرها العقول قبل الشرائع, لكن لا يزال الشيطان بالإنسان حتى يورده المهالك, إذ توعد بإضلال بني آدم والوقوف لهم في كل طريق حتى يصدهم عن الصراط المستقيم (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 16، 17].

حتى إذا ما هلك الإنسان تبرأ منه الشيطان؛ كذلك الذي كفر بعد إيمانه وزين له الشيطان عمله (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [الحشر: 16 - 18] هذا في الدنيا وأما في الآخرة فإنه يتبرأ من أتباعه في النار (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) [إبراهيم: 22].

لذلك أمرنا الله تعالى أن نحذر منه ونتخذه عدواً, فالعدو لا يُرجى منه خير (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [فاطر: 6] وقال الله محذرا من اتباعه (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [النور: 21].

أيها المؤمنون:  إن الشيطان حريصٌ أشد الحرص, باذلٌ كل الجهد في إغواء الإنسان وصدِّه عن طاعة الرحمن، وهو قاعدٌ لابن آدم صداً وإغواءً وتزييناً له الباطل، روى الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَصْبَحَ إِبْلِيسُ بَثَّ جُنُودَهُ, فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَضَلَّ الْيَوْمَ مُسْلِمًا أَلْبَسْتُهُ التَّاجَ؟ قَالَ: فَيَجِيئُونَ, فَيَقُولُ هَذَا: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى عَقَّ وَالِدَيْهِ, قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَبَرَّهُمَا, وَيَجِيءُ هَذَا فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ, قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَتَزَوجَ, وَيَجِيءُ هَذَا, فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ, فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ, وَيَجِيءُ هَذَا, فَيَقُولُ: لَمْ أَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَ, فَيَقُولُ أَنْتَ أَنْتَ, ويُلْبِسُهُ التَّاجُ".

إن عدوكم يستدرجكم ليوقعكم في أشد الأعمال قبحاً وأعظمها وزراً وأغضبها لربكم سبحانه وتعالى؛ وإن من هذه الأفعال المنكرة التي يزينها الشيطان للإنسان أن يقتل نفسه منتحراً, فيخسر بذلك آخرته كما خسر دنياه.

لقد أصبح الانتحار ظاهرة عالمية؛ إذ يُقتل قرابة مليون شخص سنوياً بسبب قتلهم أنفسهم, وليس هذا بمستغربٍ في بلاد الكفر حيث غياب الإيمان وحياة الضنك التي يعيشها الكافر, (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 124] فمن المعيشة الضنكة حياة الاضطراب والقلق والضيق والاكتئاب والأمراض النفسية المختلفة.

لكن العجيب أن تنتقل هذه الظاهرة إلى بلاد المسلمين؛ إذ تزايدت حالات الانتحار بين الشباب في السنوات الأخيرة بصورة تثير القلق, وتبعث على الأسى أن ينهي مسلمٌ حياته شنقاً أو بتناول السم أو بقطع شرايينه أو بإطلاق رصاصة على رأسه, حيث تطالعنا الأخبار عن حالاتٍ انتحارٍ متزايدة لأسبابٍ واهية, يقدم فيها الإنسان على قتل نفسه, مما يدل على ضعف الإيمان وغياب الإيمان بالقضاء والقدر.

هذا يقتل نفسه لأنه عاطل عن العمل, وذلك بسبب مشكلات أسرية, وهذا لأنه لم يوفق في الزواج ممن يحب, وآخر لفشله في الدراسة, وهكذا يقدم المرء على هذه الجريمة وقد ضعف إيمانه بالله إن لم يكن قد انتهى بالكلية –عياذا بالله- وبعضهم يفعل ما هو أشد من ذلك فيقتل أشخاصاً آخرين ثم يقتل نفسه بعد ذلك, وقد يكون القتلى من أقرب الناس إليه؛ كقتل أبيه أو أمه أو أولاده أو زوجته.

عباد الله: لم نكن نسمع قبل سنوات في مجتمعنا عن رجلٍ يقتل نفسه, لكننا في هذه الأيام تنقل لنا الأخبار عشرات القصص عن أناسِ ينتحرون فيقتلون أنفسهم, بل تزداد الظاهرة كل سنة عن التي قبلها, وبصورة لا يكاد يتخيّلها مؤمن أو عاقل, فإحصائية وزارة الداخلية اليمنية تقول: "إن حوادث الانتحار في اليمن أودت بحياة 253 شخصا من كافة الفئات العمرية خلال العام 2012. وأما في عام 2013م فهي 251 حالة انتحار وبلغت 144 حالة انتحار بينها 35 امرأة خلال النصف الأول من 2014م". أي بمعدل حالة انتحار كل يومٍ تحدث في اليمن.

عباد الله: إن هذا المنتحر الذي يقتل نفسه فيعرضها لعذاب الله تعالى, ويتسبب لأهله بالأذى والضر؛ يظن -ويالسوء ظنه الفاسد الذي زينه له الشيطان- يظن أنه بقتل نفسه سيخلصها مما تعانيه من مشكلات, وخاب وخسر -والله- ماهذا بحل ولا علاج, بل هو الخسران المبين بعينه.

إن الله تعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ) [النساء: 29 - 31]  فانظروا -يا عباد الله- إلى هذا الرب الكريم, ينهى عبده المؤمن أن يقتل نفسه، ويخبره أنه رحيم به، فلماذا يتعجل المؤمن الموت؟! لماذا يقنط من رحمة ربه؟! لماذا يجزع مما ألم به من آلام وهموم, وهو يعلم أن له رباً كريماً رحيماً؛ أرحم به من الأم بولدها؟! فهلّا وضع همومه بين يديه، ورفع مشاكله وحاجاته إليه.

إنّ على المؤمن إذا ضاقت به الأمور، وتكاثرت عليه المشكلات، وضاقت نفسه بما فيها؛ عليه أن يتذكر رحمة الله فتذهب همومه، وتزول غمومه، وينزاح اليأس والقنوط عن نفسه، هذا إذا كان مؤمناً ذاكراً لله مقدراً له حق قدره، فإن لم يكن كذلك وغلبه اليأس فــ (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ)وقال: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر: 56] إن هذا الإنسان هارب من عذاب الدنيا الزائل مهما بلغ ليقع في عذاب الآخرة الذي لا ينتهي.

إنّ هذه الجريمة البشعة العظيمة ليس لها ما يبررها إلا القنوط من رحمة الله، واليأس من روحه، وسوء الظن به سبحانه، وكل ذلك يدل على أن الإيمان بالله وبقضائه وقدره ضعيف جداً في قلب من يسعى لقتل نفسه, ولذلك استحق تلك العقوبة القاسية الشديدة (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا).

وكذلك جاء التحذير في سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- رَوَى البخاريُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أنهُ قالَ: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا".

وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التقى هو والمشركون فاقتتلوا, فلما مال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عسكره, ومال الآخرون إلى عسكرهم, وفي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه, فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنه من أهل النار" فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبدا.

قال: فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه, قال: فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه وضوء وذبابه بين ثدييه, ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أشهد أنك رسول الله. قال: وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه وضوء وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثم ذلك إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" [ رواه مسلم ].

وعن جندب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعنها يطعنها في النار" [ رواه البخاري ]. وعن أبى هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من خنق نفسه في الدنيا فقتلها خنق نفسه في النار ومن طعن نفسه طعنها في النار..." [ رواه ابن حبان ].

عباد الله: ما كان الانتحار علاجاً للمشكلات، ولا حلاً للمعضلات, وليس دواءً لما يحل بنا من النكبات، بل هو داء يسبب الانتكاسة والحرمان من الجنة, ويجلب سخط الرب -تبارك وتعالى-, ويوجب العقوبة الشديدة في الآخرة كما سمعتم من أحاديث نبيكم –عليه الصلاة والسلام-.

فعلينا أن نحسن الظن بربنا, ونتوكل عليه ونفوض أمرنا إليه, فهو -والله- أرحم بنا من أنفسنا, ولنحذر الغفلة والبعد عن الطاعة فإنها سببٌ للشقاء والتعاسة, وما كثر القلق والهم والغم إلا لكثرة الذنوب وقلة الطاعات, والبعد عن بيوت الرحمن, والوقوف بين يديه وقد كان نبيكم إذا حزبه أمرٌ نادى بلالاً: " أرحنا بها يا بلال" أي بالصلاة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه: 124، 127].

الخطبة الثانية:

الحمد لله الجواد الكريم, باسط النعم على العباد، ودافع البلاء عن البلاد، وإليه المرجع والمعاد، نحمده على نعمه العظيمة، ونشكره على آلائه الجسيمة, فلك الحمد ربي حمداً كثيراً كما ينبغي لجلالك وجهك, وعظيم سلطانك.

عباد الله: إن هناك أسباب لظاهرة الانتحار وازديادها وأول سبب هو ضعف الإيمان، ووجود اليأس والقنوط وسوء الظن بالله، ولو كان المنتحر قوي الإيمان واثق بربه ما قتل نفسه فضعف الوازع الديني سبب رئيس لهذه الظاهرة, وكذلك البعد عن الطاعات والانغماس في الشهوات. 

ومن ذلك الظن الخاطئ عند المنتحر وذلك لجهله وقلة عقله, حيث يظن أنه سيضع بانتحاره وإزهاقه لنفسه حداً لما يعيشه أو يُعانيه من مشكلاتٍ أو ظروف سيئة، وهذا مفهومٌ خاطئٌ ومغلوطٌ؛ لأنه بفعلته تلك هرب من مشكلة مؤقتة في الدنيا إلى عذاب شديد أليم في الآخرة.

ومن أسباب فشو هذه الظاهرة وازديادها: الانفتاح الإعلامي والثقافي غير المنضبط الذي نعيشه في مجتمعنا المعاصر، الأمر الذي دعا إلى تقليد الآخرين والتأثر بهم في كل شأنٍ من شؤونهم، وصَدَق النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ" قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ؟"  [متفق عليه].

فاحذروا –أيها الآباء- من الانفتاح الإعلامي غير المنضبط بالظوابط الشرعية, خاصةً مع وجود انفتاح هائل في وسائل الاتصال والتواصل؛ يسهل نقل الأفكار وتسميم العقول, وكثير من أبناء المسلمين خاوٍ عقله من تعاليم الإسلام, مما يصير صيداً سهلاً لمواقع الإلحاد والزندقة والفساد المنتشرة في مواقع الانترنت, والتي تهدف بشبهاتها وشهواتها إلى تدمير القيم والفضائل, وتلويث العقول بالأفكار الضالة المنحرفة التي يتشربها عقلٌ فارغ عن تعاليم الإسلام فيقع فريسة للشيطان من حيث لا يدري.

إننا أحوج في مجتمعاتنا اليوم إلى تحصين عقول شبابنا وبناتنا من الأمراض الفكرية التي تستهدفهم، أشد من حاجتنا إلى تحصين أطفالنا ضد الأمراض الوبائية, فصغار السن ومحدودي الثقافة يتأثرون بما تبثه القنوات الفضائية ومواقع النت من أفكارٍ وطروحاتٍ وموضوعاتٍ تحث بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة على الانتحار، وتجعل منه حلاً عاجلاً وسريعاً لكثيرٍ من المشكلات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها بعض الناس.

ومن أسباب هذه الظاهرة: الغضب الشديد, فالإنسان حال غضبه يطيش عقله ويفعل ما يندم عليه طول حياته, فالغاضب يتلبسه الشيطان ويزين له سوء عمله ثم يتبرأ منه ومن فعله, فلذا حذر النبي من الإشارة إلى مسلم بسلاح ولو كان مزحة حين قال: "لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي؛ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ" متفق عليه. وروى مسلم في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ".

إن الإنسان في حال الغضب لا يسيطر على تصرفاته ويكون صيداً سهلاً للشيطان فقد يقتل أو يؤذي أو يكسر أو يحرق، ولذلك فالقوي الشديد ليس الذي يضرب أو يصارع وإنما كما أخبر –عليه الصلاة والسلام-: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ, إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ".

فتمسكوا –عباد الله- بتعاليم دينكم وقيمه وراقبوا الله في جميع أعمالكم, واجعلوا همكم في هذه الحياة مرضاة ربكم, واعلموا أن هذه الدنيا زائلة, وعما قريب ستلقون ربكم فيحاسبكم على أعمالكم فقدموا لأنفسكم خيراً, واحذروا ما يوجب سخطه وعقابه (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) [فاطر: 5 - 7].

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، يا ذا الجلال والإكرام!.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة, واجعلنا من أهل طاعتك ممن لاخوف عليهم ولايحزنون, وابعثنا في زمرة نبيك وأصحابه وآل بيته في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ, كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ, وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.