الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | صلاح بن محمد البدير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتداوَوْا من أمراض القلوب، واحترِزوا من وساوس الشياطين، ولا تسترسِلوا في الأباطيل والظنون، ولا تنشغلوا بعيوب الناس، ولا تتلاعب بكم الأحقادُ، وكونوا ممَّن أذعن للحقِّ وانقاد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليِّ الكبير، الولي القدير، نهى عن اللمز والهمز والتعايب والتعيير، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جلَّ عن الشبيه والمثيل والنظير، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الهادي البشير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة تبقى وسلامًا يترى إلى يوم الدِّين.
أما بعدُ: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله بحفظ اليد واللسان والجوارح والأركان، عن الذنوب والعصيان، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أيها المسلمون: ذوو العقول والألباب يتصوَّنون عن الوصوم والأعياب، ويَحْمُونَ أعراضَهم عن سهام المطاعن، بسلوك الفضائل والمحاسن، والبعد عن الرِّيَب.
ولا طون إلا لامرئ صان عِرْضَه
لَعَمرُكَ ما بالموت عارٌ على الفتى
وما أحدٌ حيٌّ وإن عاش سالِمًا
وكلُّ شباب أو جديد إلى بِلًى
والمؤمن لا يرضى أن يكون غرضًا يرشق بسهام الريبة، ولا هدفًا يُقصَد بالغيبة، ولا أحدوثة تتناولها الألسن العاذلة، ولا مرتَعًا لأقوال القاذفين والحاذفين، بل يقطع مبادي الظنون التي لا تُملك، وخواطر القلوب التي لا تُدفع، ويطلب السلامةَ من الناس، بإظهار البراءة من الرِّيَب والتُّهَم، جاءت صفية أم المؤمنين -رضي الله عنها-، إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدَّثت عنده ساعةً، ثم قامت حتى إذا بلغت باب المسجد، عند باب أم سلمة، مرَّ رجلانِ من الأنصار، فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: "على رِسْلِكُما؛ إنما هي صفية بنت حيي"، فقالَا: "سبحانَ اللهِ يا رسول الله"، وكَبُرَ عليهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئًا"(متفق عليه)، وقديمًا قيل: ومن دعا الناس إلى ذمه، ذموه بالحق وبالباطل، ومَنْ لم يَذُدْ نفسَه عن هواها فَحُشَ إعوارُها وفشت أسرارها، وقد قيل: لا تُمْسِ بالريبة مهينِمًا، ولا تنسَ أن عليك مُهَيْمِنًا.
والعاقل يأنف من الشين والذم، ويترفَّع عن دواعي المقت والشنآن، قال عوف بن محلم الخزاعي:
فتًى يتَّقي أن يَخدِش الذمُّ عِرضَه
وأصون عرضي أن يُنال بنَجْوةٍ
وقال السمؤال بن عادياء الأزدي:
إذا المرءُ لم يَدنَسْ من اللؤمِ عِرضُهُ
أيها المسلمون: وللناس ألسنة حداد على العورات، ونفوس توَّاقة إلى المثالب، ينشرون المعايب، أكثر من نشر المناقب، وتسري بينهم المعايل، أكثر من سريان الفضائل، وتُعقَد المجالس فلا يعلو إلا صوت المغتاب وصَخَب العيَّاب، إلا من رحم الله، وقليل ما هم، قال بكر بن عبد الله: "إذا رأيتُم الرجلَ مُوكلًا بعيوب الناس، ناسيًا لعيوبه فاعلموا أنه قد مُكِرَ به"، وقال محمد بن سيرين: "كنَّا نُحدَّث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذِكْر خطايا الناس"، وقال بعض الصالحين: "أَدْرَكْنَا السلفَ الصالحَ وهم لا يرون العبادةَ في الصوم ولا في الصلاة، ولكن في الكَفِّ عن أعراض الناس"، وقيل للربيع بن خثيم: "ما نراك تعيب أحدًا؟ فقال: لستُ عن نفسي راضيًا، حتى أتفرَّغ لذمِّ الناسِ".
لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها
قبيحٌ من الإنسان أن ينسى عيوبه
ولو كان ذا عقل لَمَا عاب غيرَه
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُبصِر أحدُكم القذاةَ في عين أخيه، وينسى الجذعَ في عينه"(رواه ابن حبان)، قال ابن الأثير: "ضرَبَه مثلًا لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويُعَيِّرهم به، وفيه من العيوب ما نِسْبَتُه إليه كنِسْبَةِ الجذعِ إلى القذاة"؛ فاشتَغِلْ يا عبدَ اللهِ بعيبِكَ، فمن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وزاد همه، وعسر عليه ترك عيوب نفسه، وإن مِنْ أعجز الناس مَنْ عاب الناس بما فيهم، وأعجَز منه مَنْ عابَهُم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر مَنْ أسلَم بلسانه، ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تُعَيِّروهم، ولا تتبَّعُوا عوراتهم؛ فإنه مَنْ تتبَّع عورةَ أخيه المسلم، تتبَّع اللهُ عورتَه، ومن تتبَّع اللهُ عورتَه يفضحه ولو في جوف رحله"(أخرجه الترمذي).
أيها المسلمون: وسوء الظن بالمسلمين الذين أُونِسَتْ منهم العدالةُ والأمانة والستر في الظاهر محظورٌ؛ قال جل وعز: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)[الْحُجُرَاتِ: 12]، فلا تجترِؤوا على الظن، وميِّزوا بين حقِّه وباطله، بأمارة بيِّنة، واستشعِروا التقوى والحذر؛ فقد قيل: "الظانُّ مرتابٌ، ولو أصابَ"، ولا تعيشوا في دائرة الوهم والظن والشك والوسواس، ولا تتخوَّنوا الأهلَ والأقاربَ والناسَ؛ فالجائرُ الظَّنونُ مَنْ عاب مَنْ لا عيبَ فيه، وتنقَّص من تجلَّل بالخُلُق والكمالات، وقد تُلقَى المذمة والملامة على من لا عيب فيه، ويُرمى بالعيب مَنْ لم يفعله، وقد تُصوَّب سهام البهتان على البرآء، وحامل البهيتة معدود في الظَّلَمة، ورامي البريء أحد المفترِينَ، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى، قال: فخياركم الذين إذا رُؤُوا ذكر الله -تعالى-"، ثم قال: "ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى، قال: فشراركم المفسدون بين الأحبة، المشَّاؤون بالنميمة، الباغُونَ البرآءَ العَنَتَ"(أخرجه أحمد).
أنَا الرَّجُلُ الذي قد عِبتُمُوهُ
ومَنْ غلَب عليه الجهلُ واستولى عليه اللؤم وامتلأ صدره ضغنًا وعداوةً وتوقُّدًا من الغيظ والحسد والمنافَسة على الدنيا افترى وجار وظلَم واستطال في الأعراض بالتخمين والتخوين والقدح والجرح والذم؛ فإذا وقعَت بينَه وبين أحد منازَعةٌ أو خصومةٌ أو دعوى، أو مطالَبةٌ ولَغ في عِرْضه بفيه، ورماه بما ليس فيه، وسعى إليه بالتشويه، كان بين أحد الشعراء وبين خَصم له حكومة في بئر فقال خَصمُه: "إنه لصُّ ابنُ لصٍّ"، فقال الشاعر:
رماني بأمر كنتُ منه ووالدي
دعاني لِصًّا في لصوص وما دعا
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عِرْضِ رجلٍ مسلمٍ بغيرِ حقٍّ، ومن الكبائر السبَّتانِ بالسَّبَّةِ"(أخرجه أبو داود)، ومعنى "السبتان بالسبة"؛ أي: سبَّتانِ عِوَضَ سبَّةٍ واحدةٍ.
وعن أسامة بن شريك -رضي الله عنه- قال: "خرجت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حاجًّا، فكان الناس يأتونه؛ فمن قائل: يا رسول الله، سعيتُ قبل أن أطوف، أو قدَّمتُ شيئًا، أو أخَّرتُ شيئًا، فكان يقول: "لا حَرَجَ، لا حَرَجَ، إلا على رجل اقترض عِرضَ رَجُلٍ مسلمٍ وهو ظالمٌ، فذلك الذي حَرِجَ وهَلَكَ"(أخرجه أبو داود).
ومَنْ لا يعرف لذوي الفضل فضلَهم ولا لذوي الأقدار قدرَهم، ولا للناس حرمتَهم فهو البغيض، الممقوت، والحسود المعجَب بنفسه، المحجوب عن فضائل غيره، والصغير مَنْ صغَّر الناسَ، والحقير مَنْ حقَّرَهم، والأعمى من رأى حقَّ نفسه ولم ير لغيره حقًّا ولا فضلًا.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتداوَوْا من أمراض القلوب، واحترِزوا من وساوس الشياطين، ولا تسترسِلوا في الأباطيل والظنون، ولا تنشغلوا بعيوب الناس، ولا تتلاعب بكم الأحقادُ، وكونوا ممَّن أذعن للحقِّ وانقاد.
أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم، فاستغفِروه إنه كان للأوَّابينَ غفورًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، آوى مَنْ إلى لُطفه أوى، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، داوى بإنعامه مَنْ يئس مِنْ أسقامه الدوا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، من اتبعه فقد اهتدى، ومن عصاه فقد هوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فيا أيها المسلمونَ: اتقوا الله وراقِبوه وأطِيعوه ولا تَعصُوه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أيها المسلمون: لقد ذمَّ اللهُ في كتابه الهمَّازَ اللَّمَّازَ، الذي يلمز أخاه في قفاه، ويهمزه إذا قابله ولاقاه، قال جل وعز: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[الْهُمَزَةِ: 1]، الهُمَزة قيل: الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللُّمَزة: الذي يغتابه من خلفه إذا غاب.
وقال قتادة ومجاهد: "الهُمَزة الطَّعَّان في الناس، واللُّمَزة الطَّعَّان في أنسابهم"، وقال ابن زيد: "الهامز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه".
أيها المسلمون: ومن الرذائل المقيتة تجسُّس الأخبار، وإذاعة الأسرار المستودَعة، والأحاديث المكتَّمة.
لا يكتُمُ السرَّ إلا كلُّ ذي ثقة
والعاقل من يضع دون الأسرار الأستار، قال حكيم: "قلوب الأحرار قبور الأسرار"، وقيل: الطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار حمق، وقيل: "لا تُودِعْ سرَّكَ إلى طالبه؛ فالطالب للسرِّ مُذيعٌ".
فاحذروا كل نمَّام مائس برَّاج، إن أمنته نَمَّ، وإن كتمتَ عنه اغتمَّ، ما قال الناس أحصى، وما فات فحَصَ عنه فَحْصًا، لا يُمسِكُ حديثًا، ولا يُستَودَعُ سِرًّا.
إذا المرء أفشى سرَّه بلسانه
إذا ضاق صدرُ المرءِ عن سرِّ نفسه
واحذروا أهلَ التوريش والتحريش والتجسس والتحسس والتحدث، الذين يسألون عن الأخبار، ويتتبعون الأسرار، ويستدرِجون الأغرار، ويتسمعون أحاديث الناس، فكم فتَّشوا عن ميت، وكم أفسَدوا من بيت، ومَنْ سَعَا إليكَ سَعَا عليكَ.
عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل الجنةَ قتَّاتٌ"(متفق عليه)، وعند مسلم بلفظ: "لا يدخل الجنة نمَّامٌ"، قال ابن حزم: "وما في جميع الناس شر من الوشاة؛ وهم النمَّامون، وإن النميمة لَطبع يدلُّ على نتن الأصل، ورداءة الفرع، وفساد الطبع، وخُبْث النشأة، ولابدَّ لصاحبه من الكذب، والنميمةُ فرعٌ من فروع الكذب، ونوعٌ من أنواعه، وكلُّ نمَّامٍ كذَّابٌ"؛ فاحذروا -عبادَ اللهِ- هذه الرذائلَ والشرورَ، التي تأكل الحسنات، وتنشر العداوات، وتزرع الخصومات، وتهدم الأسر والبيوتات.
وصلُّوا وسلِّموا على أحمد الهادي شفيع الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عَشْرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب، الشافع المشفَّع يومَ الحساب، اللهم صلِّ عليه، وعلى جميع الآل والأصحاب، وارضَ عنَّا معَهم، يا كريمُ يا وهَّابُ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحِّدين يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أَدِمْ على بلادِنا بلادِ الحرمينِ الشريفينِ أَمْنَها ورخاءها وعِزَّها واستقرارَها، وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرِنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لِمَا فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمينَ، يا ربَّ العالمينَ.
اللهم اشفِ مرضانا وعافِ مبتلانا، وارحَمْ موتانا، وانصرنا على مَنْ عادانا، اللهم اغفر لآبائنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما رَبَّوْنَا صغارًا، اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تُشمِتْ بنا أحدًا، ولا تجعل لكافر علينا يدًا، يا كريمُ يا عظيمُ يا رحيمُ.