الملك
كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...
العربية
المؤلف | محمد بن مبارك الشرافي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - أعلام الدعاة |
مِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْجَلِيلَةِ: فَضِيلَةُ الْعِلِمْ وَالرِّحْلَةُ فِي طَلَبِهِ وَأَنَّهُ أَهَمُّ الأُمُورِ، فَإِنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَحَلَ مَسَافَةً طَوِيلَةً، وَلِقَيَ النَّصَبَ فِي طَلَبِهِ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي لَنَا وَلا سِيَّمَا الشَّبَابُ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَأَنْ يَرْتَحِلُوا فِي طَلَبِهِ. وَيُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ هَذِهِ الإِجَازَةَ دَوْرَاتٌ عِلْمِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ وَتَرْتَحِلُ لِلْعِلْمِ. وَمِنْ فَوَائِدها: الْبَدَاءَةُ بِالأَهَمِّ فَالأَهَمِّ، فَإِنْ الازْدِيَادَ مِنَ الْعِلْمِ أَهَمُّ مِنَ الاشْتِغَالِ باِلدَّعْوَةِ وَتَرْكِ الْعِلْمِ
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاء، وَأَنَارَ بِعِلْمِهِمْ طَرِيقَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَتْقِيَاء، وَجَعَلَ مَحَبَّتَهُمْ فَارِقَةً بَيْنَ الأَخْيَارِ وَالأَشْقِيَاء، وَرَفَعَ مَنَازِلَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَجَعَلَهُمُ الْأَوْلِيَاء، وَالصَّلَاةُ عَلَى إِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاء، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَتَابِعِيهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَا كَثِيرَاً.
أَمَّا بَعْدُ: فَمَعَنَا فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ قِصَّةٌ عَظِيمَةٌ حَكَاهَا لَنَا رَبُّنَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَجَاءَتْ تَفَاصِيلُهَا فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَفِيهَا عِبَرٌ عَظِيمَةٌ وَحِكَمٌ جَلِيلَةٌ.
أَيَّهُا الْمُسْلِمُونَ: قَامَ رَسُولُ اللهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَاُم خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذكَّر النَّاسَ، حَتَّى فَاضَتِ الْعُيُونُ، وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ، فَسُئلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.
فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا، تَجْعَلُهُ بِمِكْتَلٍ، فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ. فَأَخَذَ حُوتًا، فَجَعَلَهُ بِمِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ بِفَتَاهُ يُوشعَ بْنِ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا صَخْرَةً فِي الْبَحْرِ وَضَعَا رُؤُوسَهُمَا فَنَامَا.
وَفِي أَصْلِ تِلْكَ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا: الْحَيَاةُ، لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حُيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتَ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَتَحَرَّكَ وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ، فَدَخَلَ الْبَحْر وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِريةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ.
فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ الْحُوتُ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا.
فَقَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ، يَعْنِي: لِأَنَّهُ إِذَا فَقَدَ الْحُوتَ فِهَي الْعَلَامَةُ التِي جَعَلَهَا اللهُ لَهُ لِيَلْقَى ذَلِكَ الرَّجُلَ الذِي هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ التي كَانَا نَامَا عِنْدَهَا، فَإِذَا رَجُلٌ مُسجّىً بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الخَضِر: وَأنّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ ! قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: جِئْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتُ رُشْدًا. قَالَ: يَكْفِيكَ التَّوْرَاةُ بِيَدِكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ !
يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَه اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ، ثم قال له: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، يَعْنِي: لِأَنَّكَ سَتَرَانيِ أَفْعَلُ أَشْيَاءَ تَسْتَغْرِبُهَا وَلا تَعْلَمُ لِمَاذَا؟ فَلَنْ تَصْبِرَ، فَقَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ.
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ أَجْرَهُ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ نَزَلا أَسْفَلَهَا فلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَّا وَالْخَضِرُ يقَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِفَأْسٍ كَانَ مَعَه، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَدْ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَعَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، فقَالَ الْخَضِرُ: (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) [الطهف: 72- 73].
وَقَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- هَذَا لِأَنَّهُ نَسِيَ مَا كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْخَضِرُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَاسْتَمَرُّوا يَمْشُونَ وَخَرَجُوا لِأَعْلَى السَّفِينَةِ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَنَزَلَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، فَقَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ.
ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ! قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا !
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ مِنَ الْخَضِرِ لِمُوسَى أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، فَقَالَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُعْتَذِرَا: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) [الكهف: 76].
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ وَأَصْلَحُهُ لَهُمْ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، يَعْنِي: إِنْ لَمْ تُجَازِهِمْ بِتَقْصِيرِهِمْ فِي حَقِّنَا فَلا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَطْلُبَ مِنْهُمْ أُجْرَةً عَلَى إِصْلَاحِكِ جِدَارَهُمْ، وَهُنَا كَأَنَّ الْخَضِرَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَيِسَ مِنْ مُوسِى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي أَنْ يَصْبِرَ مَعَهُ، فقَالَ لَهُ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ لِأَنَّكَ لَمْ تَفِ بِالْوَعْدِ، لَكِنْ قَبْلَ أَنْ نَتَفَارَقَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، لِتَعْلَمَ أَنَّي لَمْ أَكُنْ مُفْسِدَاً.
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وَإِنَّمَا عِبْتُهَا لِأَرُدَّهُ عَنْهَا، فَسَلِمَتْ حِينَ رَأَى الْعَيْبَ الَّذِي صَنَعْتُ بِهَا.
وَأَمَّا الْغُلامُ فَسَيَكُونُ كَافِرًا إِذَا كَبِرَ , وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي , أَيْ: مَا فَعَلْتُهُ عَنْ نَفْسِي، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: سُورَةِ الْكَهْفِ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِمَشْرُوعِيَّةِ قِرَاءَتِهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ عِبَرٍ، وَسَنَقِفُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ بِإِذْنِ اللهِ مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرِ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ بِهُدَاهُمُ اقْتَدَى.
أَمَّا بَعْدُ: فَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْجَلِيلَةِ: فَضِيلَةُ الْعِلِمْ وَالرِّحْلَةُ فِي طَلَبِهِ وَأَنَّهُ أَهَمُّ الأُمُورِ، فَإِنَّ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- رَحَلَ مَسَافَةً طَوِيلَةً، وَلِقَيَ النَّصَبَ فِي طَلَبِهِ، فَهَكَذَا يَنْبَغِي لَنَا وَلا سِيَّمَا الشَّبَابُ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَأَنْ يَرْتَحِلُوا فِي طَلَبِهِ. وَيُوجَدُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ هَذِهِ الإِجَازَةَ دَوْرَاتٌ عِلْمِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ وَتَرْتَحِلُ لِلْعِلْمِ.
وَمِنْ فَوَائِدِ الْقِصَّةِ: الْبَدَاءَةُ بِالأَهَمِّ فَالأَهَمِّ، فَإِنْ الازْدِيَادَ مِنَ الْعِلْمِ أَهَمُّ مِنَ الاشْتِغَالِ باِلدَّعْوَةِ وَتَرْكِ الْعِلْمِ، فَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ أَرْشَدَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَرْتِحَلَ لِلْخَضِرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيَتَزَوَّدَ مِنَ الْعِلْمِ، وَمَعَ هَذَا فالْجَمْعَ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالدَّعْوَةُ أَكْمَلُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْقِصَّةِ: التَّأَدُّبُ مَعَ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتِيَارُ الْعِبَارَاتِ الْمُنَاسِبَةِ عِنْدَ مُخَاطَبَتِهِمْ، فَتَأَمَّلُوا: فَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنَ الْخَضِرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ لَهُ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ بِصُورَةِ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُشَاوَرَةِ، وَأَنَّكَ هَلْ تَأْذَنُ لِي فِي ذَلِكَ أَمْ لا؟ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ، بِخَلَافِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَفَاءِ وَالْكِبْرِ، فَلا يُظْهِرُ لِلْعَالِمِ افْتَقَارَهُ إِلَى عِلْمِهِ، بَلْ يَدَّعِي أَنَّهُ يَتَعَاوَنُ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ جَاهِلٌ جِدَاً، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ سَعْدِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ: فَالذُّلُّ لِلْمُعَلِّمِ وَإِظْهَارُ الْحَاجَةِ إِلَى تَعْلِيمِهِ، مِنْ أَنْفِعِ شَيْءٍ لِلْمُتَعَلِّمِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي الصَّبْرُ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَنَيْلِ شَرَفِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا ارتْفَعَتْ قِيمَةُ الشَّيْءِ احْتَاجَ الإِنْسَانُ إِلَى صَبْرٍ أَكْثَرَ لِأَخْذِهِ، وَلاشَكَّ أَنَّ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ أَعْظَمُ وَأَغْلَى مَا يُطْلَبُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنْهَا: الْقَاعِدَةُ الْكَبِيرَةُ الْجَلِيلَةُ أَنَّهُ "يُدْفَعُ الشَّرُّ الْكَبِيرُ بِارْتِكَابِ الشَّرِّ الصَّغِيرِ"، فَإِنْ خَرْقَ السَّفِينَةِ وَإِحْدَاثَ هَذَا الْعَيْبِ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ بَقَائِهَا سَلِيمَةً فَإِذَا مَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْمَلِكُ الظَّالِمُ أَخَذَهَا.
وَهَكَذَا فَقَتْلُ الْغُلَامِ شَرٌّ، وَلَكِنْ بَقَاءَهُ حَتَّى يَفْتِنَ أبَوَيْهِ عَنْ دِينِهِمَا أَعْظَمُ شَرَّاً مِنْ قَتْلِهِ، فَلِذَلِكَ خَرَقَ الْخَضِرُ السَّفِينَةَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ دَفْعَاً لِلشَّرِّ الْأَكْبَرِ بِارْتِكَابِ الشَّرِّ الأَصْغَرِ.
فَإِذَا فَهِمْنَا هَذَا تَبَيَّنَ لَنَا مَا قَدْ يُفْتِي بِهِ الْعُلَمَاءُ، أَوْ يَفْعَلُهُ وَلِيُّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كَوْنِهِ يَرْتَكِبُ مَفْسَدَةً نَرَاهَا نَحْنُ وَاضِحَةً وَلَكِنَّ لَهُ مَنْدَوحَةً وَعُذْراً فِي ارْتِكِابِهَا مَعَ أَنَّهَا شَرٌّ، لَكِنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا شَرَّاً أَكْبَرَ.
وَمِنْ أَوْضَحِ الأَمْثِلَةِ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ: اسْتِعَانَةُ دَوْلَتُنَا السُّعُودِيَّةُ بِالْجَيْشِ الأَمْرِيكِيِّ فِي صَدِّ اعْتِدَاءِ الْجَيْشِ الْعِرَاقِيِّ عَلَى بِلادِنَا عَامَ 1411هـ، وَأَفْتَى الْعُلَمَاءُ وَعَلَى رَأْسِهِمْ سَمَاحَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ بِجَوَازِ ذَلِكَ.
وَبَعْضُ النَّاسِ لَمْ يَعِ هَذِهِ الْقَاعَدِةَ فَاعْتَرَضُوا عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ، وَانْتَقَدُوا فَتْوَى الْعُلَمَاءِ، بَلِ اتَّهَمُوهُمْ بِالْمُدَاهَنِةِ وَأَنَّهُم لا يَفْقَهُونَ الْوَاقِعَ، ثُمَّ مَعَ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي تَبَيَّنَ أَنْ تَصَرُّفَ وَلِيِّ الأَمْرِ كَانَ صَحِيحَاً، وَأَنَّ فَتْوَى الْعُلَمَاءِ كَانَتْ عَيْنَ الصَّوَابِ، حَيْثُ انْدَفَعَ الشَّرُّ الأَكْبَرِ.
فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَ عُلَمَاءَنَا وَأَنْ يَنْفَعَنَا بِعِلْمِهِمْ، وَأَنْ يُعيِنَنَا عَلَى التَّأَدُّبِ مَعَهُمْ فِي حُضُورِهِمْ وَغَيْبَتِهِمْ، كَمَا أَسْأَلُه -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُصْلِحَ وُلاةَ أَمْرِنَا وَيُصْلِحَ بِطَانَتَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ، وَأَسْأَلُهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُوَفِّقَ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَأَنْ يُعِينَهُمْ عَلَى تَحْصِيلِهِ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَصَلِّ اللَّهُمَ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.