العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لِلَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةٌ فِيمَا يَكْرَهُ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةٌ فِيمَا يُحِبُّ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ يُعْطُونَ الْعُبُودِيَّةَ فِيمَا يُحِبُّونَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يُعْطُونَهَا فِيمَا يَكْرَهُونَ. وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي إِعْطَاءِ الْعُبُودِيَّةِ فِي المَكَارِهِ، وَفِيهِ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ الْعِبَادِ، وَبِحَسَبِهِ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ عِنْدَ اللَّـهِ –تَعَالَى-؛ فَالْوُضُوءُ بِالمَاءِ الْبَارِدِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ عُبُودِيَّةٌ، وَمُبَاشَرَةُ زَوْجَتِهِ الْحَسْنَاءِ الَّتِي يُحِبُّهَا عُبُودِيَّةٌ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهَا وَعَلَى عِيَالِهِ وَنَفْسِهِ عُبُودِيَّةٌ. وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ بِالمَاءِ الْبَارِدِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ عُبُودِيَّةٌ، وَتَرْكُهُ المَعْصِيَةَ الَّتِي اشْتَدَّتْ دَوَاعِي نَفْسِهِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مِنَ النَّاسِ عُبُودِيَّةٌ، وَنَفَقَتُهُ فِي الضَّرَّاءِ عُبُودِيَّةٌ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، الرَّزَّاقِ الْكَرِيمِ؛ ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالسَّرَّاءِ وَبِالضَّرَّاءِ، وَامْتَحَنَهُمْ بِالْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ؛ فَمَنْ سَعَى لِمَرْضَاتِهِ سُبْحَانَهُ جَاوَزَ الْبَلَاءَ بِحُسْنِ اخْتِيَارٍ، وَلَمْ يُقْعِدْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ لَفْحُ صَيْفٍ وَلَا بَرْدُ شِتَاءٍ، وَمَنْ رَكَنَ إِلَى الدُّنْيَا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ، وَحَسُنَتْ فِي نَفْسِهِ المُحَرَّمَاتُ، فَزَالَ عَنِ الدُّنْيَا وَخَسِرَ الْآخِرَةَ (أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) [الزُّمر: 15].
نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَاهْتَدَى، وَبِطَاعَتِهِ يَنْفَعُ نَفْسَهُ وَلَا يَنْفَعُ اللهَ تَعَالَى شَيْئًا، وَمَنْ ضَلَّ عَنْهُ فَقَدْ هَوَى وَغَوَى، وَلَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللهَ -تَعَالَى- شَيْئًا (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) [الإسراء: 15].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ تَحَمَّلَ فِي ذَاتِ اللَّـهِ -تَعَالَى- مَا لَمْ يَحْتَمِلْ غَيْرُهُ، فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ وَالرِّضَا وَالْيَقِينِ، حَتَّى قَالَ: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّـهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ فِي اللَّـهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ» صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَارْضُوا بِهِ سُبْحَانَهُ وَبِنَبِيِّهِ وَبِدِينِهِ؛ فَمَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- أَنْ يُرْضِيَهُ، وَإِرْضَاءُ اللَّـهِ -تَعَالَى- لِلْعَبْدِ لَا يَعْدِلُهُ إِرْضَاءً مَهْمَا بَلَغَ، وَشَتَّانَ بَيْنَ إِرْضَاءِ خَالِقٍ لِمَخْلُوقٍ، وَبَيْنَ إِرْضَاءِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [المائدة: 119].
أَيُّهَا النَّاسُ: لِلَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةٌ فِيمَا يَكْرَهُ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَبْدِ عُبُودِيَّةٌ فِيمَا يُحِبُّ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ يُعْطُونَ الْعُبُودِيَّةَ فِيمَا يُحِبُّونَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يُعْطُونَهَا فِيمَا يَكْرَهُونَ.
وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي إِعْطَاءِ الْعُبُودِيَّةِ فِي المَكَارِهِ، وَفِيهِ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُ الْعِبَادِ، وَبِحَسَبِهِ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ عِنْدَ اللَّـهِ –تَعَالَى-؛ فَالْوُضُوءُ بِالمَاءِ الْبَارِدِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ عُبُودِيَّةٌ، وَمُبَاشَرَةُ زَوْجَتِهِ الْحَسْنَاءِ الَّتِي يُحِبُّهَا عُبُودِيَّةٌ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهَا وَعَلَى عِيَالِهِ وَنَفْسِهِ عُبُودِيَّةٌ.
وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ بِالمَاءِ الْبَارِدِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ عُبُودِيَّةٌ، وَتَرْكُهُ المَعْصِيَةَ الَّتِي اشْتَدَّتْ دَوَاعِي نَفْسِهِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مِنَ النَّاسِ عُبُودِيَّةٌ، وَنَفَقَتُهُ فِي الضَّرَّاءِ عُبُودِيَّةٌ، وَلَكِنَّ الْأُولَى عُبُودِيَّةٌ فِيمَا يُحِبُّ الْعَبْدُ، وَالثَّانِيَةَ عُبُودِيَّةٌ فِيمَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ، وَلَا يُحَقِّقُ الْعَبْدُ تَمَامَ الرِّضَا بِاللَّـهِ -تَعَالَى- رَبًّا حَتَّى يُحَقِّقَ الْعُبُودِيَّةَ فِيمَا يُحِبُّ وَمَا يَكْرَهُ.
وَاللهُ -تَعَالَى- ابْتَلَى الْعِبَادَ بِأَنْ جَعَلَ أَجْزَاءً مِنْ عُبُودِيَّتِهِ فِيمَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ؛ لِيُبَرْهِنَ الْعَبْدُ عَلَى صِدْقِ إِيمَانِهِ، وَصِحَّةِ يَقِينِهِ، وَيُدَلِّلَ عَلَى رِضَاهُ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- رَبًّا، وَإِلَّا لَوِ اقْتَصَرَتْ عُبُودِيَّةُ اللَّـهِ -تَعَالَى- عَلَى أَبْوَابٍ يُحِبُّهَا الْعِبَادُ لَمَا تَبَيَّن الرَّاضِي مِنَ الْجَاحِدِ، وَلَا الطَّائِعُ مِنَ الْعَاصِي؛ وَلَكَانَ النَّاسُ فِي تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ سَوَاءً.
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مُحَاوَرَةُ اللَّـهِ -تَعَالَى- لِجبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الَّتِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لمَّا خَلَقَ اللهُ الجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الجَنَّةِ فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَجَاءَهَا وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَوَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالمَكَارِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالمَكَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا، فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
وَالرَّاضِي إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى احْتِمَالِ المَكَارِهِ وَالْآلَامِ فِي ذَاتِ اللَّـهِ -تَعَالَى- مَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّةِ الرِّضَا وَحَلَاوَتِهِ، فَتَكُونُ المَشَقَّةُ عِنْدَهُ مَحْبُوبَةً لَا لِذَاتِهَا؛ وَإِنَّمَا لِعِلْمِهِ بِرِضَا اللَّـهِ -تَعَالَى- عَنْهُ بِسَبَبِهَا؛ وِلَما يَرْجُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ أَجْرَ نُسُكِهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِهَا أَوْ نَصَبِهَا؛ أَيْ: تَعَبِهَا.
وَلِلشِّتَاءِ مَحَابٌّ وَمَكَارِهُ، فَمِنْ مَحَابِّهِ طُولُ اللَّيْلِ لِلْمُتَهَجِّدِينَ، وَقِصَرُ النَّهَارِ لِلصَّائِمِينَ، وَهُوَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنَ الْإِنْفَاقِ لِلْبَاذِلِينَ.
وَأَمَّا مَكَارِهُ الشِّتَاءِ فَيَنَالُ قِسْطَهَا الْأَكْبَرَ الْفُقَرَاءُ وَالمُعْدَمُونَ، وَيُصِيبُ شَيْئًا مِنْهَا المُوسِرُونَ.
فَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ الْوَاجِبَانِ أَوِ المَنْدُوبَانِ؛ فَإِنَّهُمَا يَشُقَّانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي الشِّتَاءِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ سَكَنُوا الْبَرَارِي أَوْ خَرَجُوا إِلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ الِاغْتِسَالُ فِي الصَّيْفِ تَبْرِيدًا وَلَذَّةً فَهُوَ فِي الشِّتَاءِ عُسْرٌ وَمَشَقَّةٌ؛ وَلِذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ اخْتِصَامِ المَلَأِ الْأَعْلَى أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ قُلْتُ: فِي الكَفَّارَاتِ، قَالَ: مَا هُنَّ؟ قُلْتُ: مَشْيُ الأَقْدَامِ إِلَى الجَمَاعَاتِ، وَالجُلُوسُ فِي المَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، وَإِسْبَاغُ الوُضُوءِ فِي المَكْرُوهَاتِ...» (صَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ).
وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّ المَلَائِكَةَ تَفْرَحُ بِذَهَابِ الشِّتَاءِ لِمَا يَلْقَى النَّاسُ مِنَ الْوُضُوءِ».
فَإِذَا اسْتَحْضَرَ المُؤْمِنُ أَنَّ المَلَأَ الْأَعْلَى فِي السَّمَاءِ يَخْتَصِمُونَ فِي إِسْبَاغِهِ الْوُضُوءَ عَلَى المَكَارِهِ عَلِمَ قِيمَةَ إِسْبَاغِهِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَوَدَّ لَوْ تَوَضَّأَ لِكُلِّ حَدَثٍ؛ تَحْصِيلاً لِفَضْلِ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فِي الشِّتَاءِ.
وَلَيْسَ فِي قَصْدِ المَاءِ الْبَارِدِ فِي الشِّتَاءِ لِلْوُضُوءِ بِهِ أَوِ الْغُسْلِ بِهِ فَضِيلَةٌ؛ لِأَنَّ المَشَقَّةَ لَا تُقْصَدُ، وَإِنَّمَا يُصْبَرُ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْعِبَادَةِ، وَالتَّنَزُّهُ عَنِ المَاءِ السَّاخِنِ تَعَبُّدًا مِنَ التَّنَطُّعِ.
وَفِي الشِّتَاءِ لَيْسَتِ المَشَقَّةُ فِي بُرُودَةِ المَاءِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا فِي نَزْعِ الْأَلْبِسَةِ الثَّقِيلَةِ، وَحَسْرِ الْأَكْمَامِ، وَاسْتِيعَابِ الْأَعْضَاءِ بِالْغَسْلِ؛ فَكَانَ رِضَا المُؤْمِنِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّـهِ -تَعَالَى- مُذَلِّلًا لِهَذِهِ الصِّعَابِ، مُسَهِّلًا لِتِلْكَ المَشَاقِّ.
وَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ: مُفَارَقَةُ دِفْءِ الْفِرَاشِ، وَقَطْعُ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّوْمِ وَلَذَّتِهِ لِقِيَامِ اللَّيْلِ أَوْ لِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَجْرِ، وَنَوْمُ الشِّتَاءِ لِلدَّفْآنِ أَلَذُّ مِنْ نَوْمِ الصَّيْفِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ يُعَالِجُ نَفْسَهُ إِلَى الطَّهُورِ وَعَلَيْهِ عُقَدٌ، فَإِذَا وَضَّأَ يَدَيْهِ انْحَلَّتْ عُقدةٌ، فَإِذَا وضَّأَ وجههُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا وَضَّأَ رِجْلَيْهِ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَيَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِلَّذِي وَرَاءَ الْحِجَابِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُعَالِجُ نَفْسَهُ لِيَسْأَلَني، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ، مَا سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا فَهُوَ لَهُ» (صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
وَلَهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: "أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- عَجِبَ مِنْ رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلَا لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي».
وَإِذَا اسْتَحْضَرَ المُؤْمِنُ هَذِهِ الْكَرَامَةَ الْعَظِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللَّـهِ -تَعَالَى- هَانَتْ عَلَيْهِ مَكَارِهُ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَهَجْرِ النَّوْمِ وَالْفِرَاشِ لِمُنَاجَاةِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَهَانَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ.
وَمِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ: أَمْرَاضُ الْبَرْدِ مِنْ زُكَامٍ وَحُمَّى وَنَحْوِهَا، وَهِيَ كَفَّارَاتٌ لِلْعَبْدِ؛ فَلَا يَضْجَرْ بِهَا، وَلَا يَشْتَكِ مِنْهَا، وَلَا يَتَسَخَّطْ بِسَبَبِهَا؛ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ المُسَيِّبِ فَقَالَ: «مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ المُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟» قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا! فَقَالَ: «لَا تَسُبِّي الحُمَّى؛ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَسَوَاءٌ أَصَابَتْهُ أَمْرَاضُ الْبَرْدِ أَوْ أَصَابَتْ أَطْفَالَهُ الصِّغَارَ فَتَأَلَّمَ لِأَلَمِهِمْ، وَسَهِرَ اللَّيَالِيَ لِأَجْلِهِمْ، وَتَكَلَّفَ فِي عِلَاجِهِمْ؛ فَهُوَ عَلَى أَلَمِهِ وَسَهَرِهِ لِأَجْلِهِمْ مَأْجُورٌ، وَمَا أَنْفَقَ فِي عِلَاجِهِمْ مَخْلُوفٌ، فَلَا يَضِيعُ لَهُ شَيْءٌ عِنْدَ اللَّـهِ -تَعَالَى- مَا دَامَ صَابِرًا لَمْ يَجْزَعْ، وَرَاضِيًا لَمْ يَسْخَطْ.
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا عَلَّمَنَا وَهَدَانَا، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَانَا وَأَوْلَانَا، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ الْإِعَانَةَ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنْ مَكَارِهِ الشِّتَاءِ: زِيَادَةُ نَفَقَاتِهِ؛ خَاصَّةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالمَسْتُورِينَ؛ سَوَاءً نَفَقَاتُ الطَّعَامِ أَوْ نَفَقَاتُ اللِّبَاسِ وَاللِّحَافِ وَالتَّدْفِئَةِ، وَكُلُّ مَا يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ صَدَقَةٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إِذَا كَانَ مِنْ حَاجَاتِهِمْ. وَتَوْفِيرُ الدِّفْءِ مِنَ الْحَاجَاتِ المُلِحَّةِ الَّتِي تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضُّرُورِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الْبَرْدَ مُهْلِكٌ.
وَكَمَا أَنَّ نَفَقَاتِ الشِّتَاءِ تُثْقِلُ كَوَاهِلَ الْفُقَرَاءِ وَمَسْتُورِي الْحَالِ فَإِنَّهَا ابْتِلَاءٌ لِلْأَغْنِيَاءِ وَالمُوسِرِينَ بِأَنْ يُوَاسُوا الْفُقَرَاءَ وَالمُعْدَمِينَ، وَلَا سِيَّمَا المُشَرَّدِينَ وَاللَّاجِئِينَ الَّذِينَ يَهِيمُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَجِدُونَ بَلَدًا يُؤْيهِمْ، وَلَا بُيُوتًا تُكِنُّهُمْ، وَلَا لِبَاسًا يُدْفِئِهُمْ، وَكَمْ مَاتَ مِنْ أَطْفَالٍ تَجَمَّدُوا مِنَ الْبَرْدِ فِي مُخَيَّمَاتِ اللَّاجِئِينَ، وَهُمْ إِخْوَانُنَا وَمُوَاسَاتُهُمْ وَاجِبَةٌ. وَلَعَلَّ بَاذِلاً يَبْذُلُ ثَوْبًا أَوْ لِحَافًا أَوْ مِدْفَأَةً لِمُحْتَاجٍ يَرْتَجِفُ مِنَ الْبَرْدِ، فَيَدْفَأُ بِهَا فَيُوجِبُ اللهُ -تَعَالَى- لَهُ بِدِفْءِ أَخِيهِ الْجَنَّةَ.
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: أُتِيَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فِي قَمِيصٍ كَسَاهُ مِسْكِينًا، قَالَ: فَدَخَلَ المَدِينَةَ فَسَأَلَ عَنْهُ فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قِصَّةِ الْقَمِيصِ، فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَهُ، فَتَحَمَّلَ عَلَيْهِ بِأَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّهُ أُدْخِلَ الْجَنَةَّ فِي قَمِيصٍ كَسَاهُ مِسْكِينًا، فَسَلُوهُ يُخْبِرُنَا عَنْ قِصَّتِهِ، قَالَ: فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ، قَالَ: خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى المَسْجِدِ فِي السَّحَرِ فَإِذَا مِسْكِينٌ يَرْتَعِدُ مِنَ الْبَرْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي قَمِيصٌ غَيْرُ الَّذِي كَانَ عَلَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُ.
وَفِي لَيْلَةِ شَاتِيَةٍ تَصَدَّقَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ المَالِكِيُّ بِقِيمَةِ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ كُلِّهَا -وَكَانَتْ مِئَةَ دِينَارٍ ذَهَبِيٍّ- وَقَالَ: مَا نِمْتُ اللَّيْلَةَ غَمًّا لِفُقَرَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّـهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...