المبين
كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - المنجيات |
الشح يا له من خُلق! ما أرذله! وأشنعه وأقبحه! ترى الشحيح يجمع ويلهث ويسارع ويصارع ولا يبدو عليه من أثر ذلك شيء، لا في لباسه، ولا في هيئته، ولا في مأكله، ولا في ابتسامته، إنما همّه الجمع، ووسمه المنع، يبقى على هذه الحال حتى ينزل به الموت فيتحمل التابعات، ويبقى المال للوارث، بالله عليكم هل في الدنيا بلادة إن لم تكن هذه هي البلادة؟!.. إن هناك جملةً من الأسباب تجعل العبد معرّضًا للهلاك والتباب، ولو تتبعنا القرآن من أوله إلى آخره لوجدنا أن مخالفة أمر الله هي سبب كل بلاء...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: يقول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء:66] أيّ وعظ بعد وعظ الله يُسمع؟! وقد تبين الرشد من الغي يطمع، فراقبوا القلوب فقد استعاذ نبيكم من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع.
إنكم -رعاكم الله- في رحلة لا تتأتى معها إقامة ولا مهلة، من الأصلاب إلى الأرحام، إلى الوجود إلى القبور إلى النشور، لا أحد باقٍ، (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن:15].
ما بعد المقيل إلا الرحيل، وما بعد الرحيل إلا المنزل الكريم أو النزل الوبيل، وإنكم تستقبلون أهوالاً؛ سكرات الموت، شدائدها، فلو كشف الغطا منها عن ذرة لذهبت العقول، وعجز المرء عن الكلام، وما كل حقيقة تشبه الأحلام.
اغتنموا فرص الحياة وارتجوها (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر:56]، وتنادي أخرى (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)، وتقول أخرى: (رَبِّ ارْجِعُونِ)، وتستغيث أخرى (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ).
فرحم الله من نظر لنفسه قبل غروب شمسه، وقدَّم لغده من أمسه، وعلم أن الحياة تجر إلى الموت، والغفلة تقود إلى الفوت، والصحة مركب الألم، والشبيبة سفينة فقط تقطع إلى ساحل الهرم.
أيها الأحباب الكرام: إنكم ترون الفتن حولكم من كل ناحية، داهية تعقبها داهية، والأدهى أن النفوس عن ذلك لاهية، قتل مروع، ونبأ مفجع، وخبر مفزع، اضطرابات وخلافات، وتطاحنات وصراعات، والكل ينظر وكأن الناس قد غشيتهم غاشية، أو دهمتهم داهية، ويضاف إلى ذلك أمراض وأدواء تنتشر بسرعة، وتفتك بضراوة كل ذلك ألا يدعونا إلى التفكر والمراجعة مراجعة أنفسنا علنا نقف على الأسباب التي أدت إلى كل هذا التباب.
إن من مأثورات السلف الخالدة: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة"، ويقول ربنا: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].
إن كل هذه الألوان من ألوان الهلاك ترجع إلى كسب العباد، وبما أحدثوه من مخالفة وفساد وإفساد، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
وهناك جملة من الأسباب تجعل العبد معرّضًا للهلاك والتباب، ولو تتبعنا القرآن من أوله إلى آخره لوجدنا أن مخالفة أمر الله هي سبب كل بلاء.
فما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه، وأنزله وأذله وجعل اسمه مصاحبا للعنة؟!
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟!
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم صرعى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية؟!
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتتهم حجارة من سجيل، وأمطر عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها وما هي من الظالمين ببعيد.
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نار تلظى؟!
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر بعد أن طغى وتجبر، وقال بلسان الاستعلاء: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الزخرف: 51]، وأغرقه وقومه، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق.
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟!
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرًا (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:38- 39].
وما الذي بعث على بني إسرائيل قومًا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء وأحرقوا الديار وأخذوا الأموال؟
ثم بعثهم عليه مرة ثانية، فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علو تتبيرا، ثم هددهم فقال (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا)، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى تسليط العباد.
إن الذي أهلك كل هذه الأمم، وجعلهم أحاديث هو الذنوب، ومن ثَم وجب التحرز منها، ولا يكون ذلك إلا بالالتجاء إلى الله والاحتماء بحماه، وسنذكر طرفًا من أسباب الهلاك التي تعود إلى المخلوقين بعضهم مع بعض.
السبب الأول: البغي والعقوق، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا البغي والعقوق" (رواه الحاكم وصححه الألباني).
والبغي هو تجاوز الحد والاعتداء والظلم والعقوق متعلقًا بالوالدين تعنيفًا وعصيانًا واعتداء عياذًا بالله، وكل هذا موجود ومشاهَد في دنيانا اليوم، فصور البغي ظاهرة، وأخبار العقوق منتشرة، وكل ذلك مما يوجب العذاب في الدنيا والآخرة، أما البغي فلو نظرت ذات اليمين وذات الشمال فلن ترى سوى صور الدمار والوبال، وأما العقوق فكثيرًا ما نسمع عن ضرب لوالد أو والدة، والعجب كيف تمتد اليد إلى الماجد والماجدة؟ كيف تمتد اليد إلى منبع الرحمة المتدفقة والعناية المتحققة.
وإذا رحمت فأنت أم أو أب | هذان في الدنيا هم الرحماء |
كيف تلقى الأذى الأم التي كانت تمسح عنك الأذى –لا حول ولا قوة إلا بالله-؟!
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم". (رواه أحمد وأبو داود).
هنا جاء ذكر قطيعة الرحم باعتبارها سببًا من أسباب العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، وقطيعة الرحم هي الأخرى قد كثرت بين الأقارب في الغالب لأسباب تافهة من قيل وقال، وسوء فعال، وكل ذلك مما يجلب غضب الكبير المتعال، ويكفي ترهيبًا في الباب قول النبي الأواب: "لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم".
السبب الثاني: الزنا والربا، عن ابن عباس قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" (رواه الحاكم وصححه الألباني).
في هذا الحديث جمع -صلى الله عليه وسلم- بين الربا والزنا، وما أشد التشابه بينهما رسمًا وأثراً، رسمًا أي كتابة وأثرًا، فالربا اعتداء على الحقوق في باب الأغراض والزنا، اعتداء على الحقوق في باب الأغراض، فالربا اغتصاب للمال في غير حقه، والزنا اغتصاب للفرج بغير حله، وكل ذلك من الأسباب الجالبة للسخط والناشرة للفساد والإفساد.
لذالكم يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا يأكله الرجل.." اسمعوا يا أمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من 36 زنية "، وعظم جرم الربا على جرم الزنا جاء كون الربا اعتداء على الأرواح، والزنا اعتداء على الأشباح، والاثنان تكون لهم آثار سلبية على الروح تأثرًا واكتئابًا وخسرانًا وتبابًا.
ويكفي وعيدًا في باب الزنا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نداء من سيدنا محمد إلى أمته -صلى الله عليه وسلم-، ومثل هذا النداء ينبغي أن يسمع بالقلوب قبل الأذان نداء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أمته يقول: "يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا".
الله يغار وغيرته أن تُنتهك محارمه، يغار أن يرى عبده أو أمته وهما في وضع الزنا.
فلو تذكر واستحضر كل مقارف لتلك المعصية هذا المعنى لاستحيى من الله، ولخاف من بطشه وانتقامه، واليوم أنتم ترون -رعاكم الله- كيف انتشرت هاتان المعصيتان الكبيرتان في الأمة الربا والزنا، بل أصبحت الدعاية لهما ظاهرة منتشرة، بل دخل الزنا عند كثير من منقطعي الوصل مع الله تحت الحريات الشخصية التي ينبغي احترامها!
سبحان الله! ينظرون إلى احترامها ولا ينظرون إلى تحريمها!!
جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الواسع حلمه النافذ حكمه المولي عفوه المرهوب سطوه الذي قصرت المنن والقدر على الإحاطة بمعرفته، وحصرت الأقوال والألسن في الإبانة عن كيفيته، وصلى الله على نبي الرحمة ذي الفضيلة الباهرة والرسالة الهادية صلى الله عليه صلاة، وسلاما يبلغان أقصى المبالغ ويحرسان ما أولى من النعم السوابغ.
معاشر الأحباب: ومن أسباب الهلاك والتباب: اليمين الفاجرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عُقُوبَةً مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ" (رواه البيهقي وصححه الألباني).
تدع الديار بلاقع، بلاقع جمع بلقع، وهي الأرض الفقراء التي لا شيء فيها، واليمين الفاجرة هي الحلف على الكذب، وتسمى كذلك يمينا غموسًا فاجرًا، وهي الحلف على وقوع أمر ما كذبًا وافتراء، أو هي الحلف على حق امرئ كذبًا وافتراء، وهي محرمة بل هي من الكبائر، وإنما سميت كذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الفجور، ثم تغمسه في النار، عياذا بالله.
والمقصود أن هذه اليمين تفقر الأرض، وتمحق البركة، وتفرق الشمل، وتستجلب نقمة الله وغضبه، بالله عليكم -أيها الإخوة- أليست هذه اليمين منتشرة في معاملاتنا وأسواقنا وتجارتنا وعلائقنا يأخذ الإنسان إلا من رحم الله حق أخيه، ويستولي عليه، ثم يقسم بالله أنه ما أخذ شيئًا أو أن الذي أخذه حقه ونصيبه، وهو يعلم أنه كاذب في ذلك.
هناك حديث عظيم يهز القلب لمن كان له قلب، ووالله لو وقفنا عند هذا الحديث مليًّا ووعيناه بقلوبنا لتغيرت معاملاتنا ولراقبنا تصرفاتنا ولتبرأنا من كل أنواع الغصب والكذب والجور، وتأملوا هذا الحديث العظيم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه –أي: بحلف أقسم عليه- فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، فقال رجل: "وإن قضيبًا من أراك"، يعني: عود سواك فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وإن قضيبًا من أراك".
هذا القضيب من أراك الذي لا يساوي درهمًا أو درهمين، كيف تستطيب بعدها أن تأخذ ما ليس لك وتقسم بالله أنه لك؟ كيف بعدها تتجرأ على غصب الناس حقوقهم، كم رأينا وسمعنا عمن دفعوا الأموال وأقسموا بأغلظ الأيمان من غصب أخذ حقوق الإخوان إنهم وإن فعلوا ذلك اليوم فإن لهم بين يد الله موقفًا عظيمًا.
موقف تشهد فيه الجوارح، وتظهر القبائح فإن أفلتوا هنا فليعدوا العدة للقاء في ساحة الفصل عند ملك عادل؛ حيث لا مال ينفع، ولا رشوة تُدفع ولا جاه يرفع.
من الأسباب كذلك بل من أعظمها "الظلم"، قال بعض الحكماء: "الظلم ثلاث –أي ثلاثة أنواع- الأول ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق ولذلكم قال الله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، وفيه يقول الله تعالى: (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[الإنسان: 31].
الثاني: ظلم بينه وبين الناس وهو المقصود بقوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40]، وبقوله: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الشورى: 42].
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه وهو المقصود بقوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ) وقوله (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) وقوله (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[البقرة: 231].
ومن الأدلة على أن الظلم من أسباب الهلاك قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام:47]، وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)[القصص: 59]، وقوله تعالى في سورة الكهف: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)[الكهف: 59]، وقوله تعالى في سورة إبراهيم (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)[إبراهيم: 13]، وقال تعالى في سورة هود: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
من الأسباب كذلك: الاستكثار من المال مع عدم إخراج الحق فيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نخل المدينة فقال: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَوْ يَا أَبَا هِرٍّ، هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ، إِنَّ الْمُكْثِرِينَ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ : بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ " يعني ينفقه يمنا وشمالا" يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ "، فَقُلْتُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ".
ثم قال: "يا أبا هريرةَ هل تَدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللهِ"؟ قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ. قال: "فإنَّ حقَّ اللهِ على العبادِ أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا وحقُّهم على اللهِ أن لا يُعَذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به".
ما أعظمه من هدي في البداية يلفت -صلى الله عليه وسلم- انتباهنا إلى أن أصحاب الأموال والكنوز المكثرين من جمع المال الذين لا يرعون حق الله فيما أعطاهم هم معرّضون للهلاك، ثم بعد ذلك يدلنا على الكنز الباقي الذي لا يفنى وهو كنز من كنور الجنة وهو قولك "لا حول ولا قوة إلا بالله".
ثم بعد ذلك يدلنا على الكنز الأعظم والوسام الأكرم الموجب لدخول دار السلام مع الإتحاف والإكرام، وهو تحقيق التوحيد وتخليصه من كل ما ينقصه وينقضه.
ومن أسباب الهلاك كذلك "الشح"، عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم" (رواه مسلم).
والشح مأخوذ من مادة شحح التي تدل على المنع، فالشح بخل مع حرص، وقد فسره ابن رجب -رحمه الله- بأنه تشوف النفس أي: تطلعها إلى ما حرم الله، ومنع منه، وعدم قناعة الإنسان بما أحل الله له".
يقول الإمام الجليل ابن القيم -رحمه الله- مبينًا الفرق بين الشح والبخل، يقول: "الفرق بين الشحِّ والبخل: أنَّ الشحَّ هو شدة الحرص على الشيء، والإحفاء في طلبه، والاستقصاء في تحصيله، وجشع النفس عليه، والبخل منع إنفاقه بعد حصوله، وحبه، وإمساكه، فهو شحيح قبل حصوله، بخيل بعد حصوله، فالبخل ثمرة الشحِّ، والشحُّ يدعو إلى البخل، والشحُّ كامن في النفس، فمن بخل فقد أطاع شحَّه، ومن لم يبخل فقد عصى شحَّه ووقي شرَّه، وذلك هو المفلح (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 10]".
قال -صلى الله عليه وسلم-: "وأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" (أورده الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة).
الشح يا له من خُلق! ما أرذله! وأشنعه وأقبحه! ترى الشحيح يجمع ويلهث ويسارع ويصارع ولا يبدو عليه من أثر ذلك شيء، لا في لباسه، ولا في هيئته، ولا في مأكله، ولا في ابتسامته، إنما همّه الجمع، ووسمه المنع، يبقى على هذه الحال حتى ينزل به الموت فيتحمل التابعات، ويبقى المال للوارث، بالله عليكم هل في الدنيا بلادة إن لم تكن هذه هي البلادة؟!
ولله در محمود الوراق حين يقول:
تَمَتَّعَ بِمَالِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ | وَإِلا فَلا مَالَ إِنْ أَنْتَ مُتَّا |
شَقِيتَ بِهِ ثُمَّ خَلَّفْتَهُ لِغَيْرِكَ | بُعْدًا وَسُحْقًا وَمَقْتَا |
فَجَادَ عَلَيْكَ بِزَوْرِ الْبُكَا | وَجُدْتَ لَهُ بِالَّذِي قَدْ جَمَعْتَا |
وَأَعْطَيْتَهُ كُلَّ مَا فِي يَدَيْكَ | وَخَلاكَ وَهْنًا بِمَا قَدْ كَسَبْتَا |
من أسباب الهلاك كذلك: التفريق بين الشريف والضعيف في تطبيق العدالة على الضعيف ويترك الشريف عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم، يعني يستعطف رسول الله صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟! ثُمَّ قَامَ فخَْطَبَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا" (رواه البخاري ومسلم).
إنها رسالة مدوية إلى الدنيا أن الإسلام دين العدل دين الإنصاف دين المساواة، ليس فيه محاباة لأجل مال أو جاه أو سلطة، ولكن ومع الأسف أين هذا الهدي في عالمنا الإسلامي اليوم؟ في الغالب الضعيف ينوب عن القوي في حمل التبعات والعقوبات، بل قد يفعلها صاحب المكانة، ويتحمل وزرها صاحب المسكنة، وعندما لا يتساوى الناس أمام الحقوق فعندها لا تقوم للدول قائمة؛ لأن العدل أساس الحكم.
ولكن ما على الضعيف إلا أن يقول: الحمد لله، الحمد لله على أن هناك يومًا اسمه يوم القيامة الذي قال الله فيه: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
اللهم أصلح أحوالنا واجعل بطاعتك اشتغالنا وإلى الخيرات مآلنا ..