المهيمن
كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
فمن حسن الظن بالله -تعالى- أن لا يعترض الداعي على عدم تحقق المطلوب؛ فلعل الخير له في عدم تحقق مطلوبه، ولعله قد أعطي بدعوته ما هو أفضل له من مطلوبه وهو لا يشعر, وفي المقابل على الداعي إذا تأخرت استجابة دعوته أن يسيء الظن بنفسه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], أما بعد:
إن المسلم في هذه الحياة يعيش بين فرح وحزن, وكثرة وقلة, وغنى وفقر, وسعادة وشقاء, وعافية وبلاء, وكل ذلك بتقدير العزيز الحميد.
والمؤمن في كل حال يحسن الظن بالله, ويعلم أن الله لا يقدر شيئا إلا لحكمة, وأن الله يدبر الأمور للمؤمن على خير؛ كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث صهيب بن سنان الرومي -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "عجبا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير, وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن, إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيرا له, وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيرا له".
عباد الله: كم نحن بحاجة إلى إحسان الظن بخالقنا -جل في علاه-؛ الذي هو أرحم بنا من أنفسنا بل من أمهاتنا, وحسن الظن من أعمال القلوب التي بها تتفاضل الأعمال, وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة من السبي تسعى تبحث عن ولدها, فلما وجدته أخذته وألصقته بصدرها وأرضعته؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "أترون هذه طارحة ولدها في النار, وهي تقدر على ذلك؟", قالوا : لا, يا رسول الله!, قال: "فوالله, لله أرحم بعباده من هذه بولدها"(في الصحيحين).
والبعض يظن أن إحسان الظن هو فقط في أن الله غفور رحيم, وأنه -سبحانه- سيتجاوز عنا, ويدخلنا الجنة, والحقيقة أن إحسان الظن بالله في كل شيء, وقد عرف أهل العلم إحسان الظن بقولهم: "حسن الظن بالله -تعالى-: هو قوة اليقين بما وعد الله -تعالى- عباده من؛ سعة كرمه, ورحمته، ورجاء حصول ذلك", ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي", قال القاضي عياض -رحمه الله-: "قيل: معناه: بالغفران له إذا استغفرني, والقبول إذا أناب إليّ, والإجابة إذا دعاني، والكفاية إذا استكفاني؛ لأن هذه الصفات لا تظهر من العبد إلا إذا أَحسن ظنه بالله, وقوى يقينه"(إكمال المعلم).
ومن حسن الظن بالله: حسن الظن بإجابة الدعاء، ويكون بقوة اليقين بأن الله -تعالى- يجيب الداعي؛ حيث قال -عزّ وجل-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186].
لكن إن تأخر جوابه فلا يقنط من رحمة الله -تعالى- وسعة كرمه؛ فإن في القنوط سوء ظن بالله -تعالى-، وهو أمر محرم, قال الله -تعالى-: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)[الحجر: 56], وقال الله -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87],
وسوء الظن مانع من الإجابة؛ ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".
فإذا تأخر جواب دعوته بأمر من أمور الدنيا, فإحسان الظن بالله -تعالى- هو أن يرجو أن الله -تعالى- قد خار له في ذلك, وقدّر له ما هو خير, أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند جيد من حديث أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ؛ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا", قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: "اللهُ أَكْثَرُ".
فمن حسن الظن بالله -تعالى- أن لا يعترض الداعي على عدم تحقق المطلوب؛ فلعل الخير له في عدم تحقق مطلوبه، ولعله قد أعطي بدعوته ما هو أفضل له من مطلوبه وهو لا يشعر, وفي المقابل على الداعي إذا تأخرت استجابة دعوته أن يسيء الظن بنفسه, فيفتش نفسه لعله دعا بإثم، أو بقلة يقين وإخلاص، أو تلبس بأمر محرم؛ يمنع إجابة الدعاء كأكل الحرام.
اللهم فقهنا في الدين, وارزقنا العمل بالتنزيل, أقول ما سمعتم, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على نبيه, وعلى آله وصحبه ومن تبعه, وبعد:
فيا أيها الناس: ومن حسن الظن بالله: ظن العبد بالله بأن يعفو عنه, ويدخله جنته, وينجيه من عذابه, فهذا له حالان:
الحال الأول: أن يكون حسن الظن هذا في حال عافيته وصحته, فحسن الظن هذا ينفع صاحبه إذا صاحبه الخوف من عذاب الله -تعالى-، فاجتنب معاصيه، وأحسن العمل بطاعته, على رجاء من الله -تعالى- أن يتقبل منه, ويعطيه, كما قال الحسن البصري: "إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه، فأساء العمل".
وقد قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة -رضي الله عنها-، فقالت: لو رأيتما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرض له، وكانت عندي ستة دنانير أو سبعة، فأمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أفرّقها، قالت: فشغلني وجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى عافاه الله، ثم سألني عنها فقال: "ما فعلتِ؟ أكنت فرّقت الستة الدنانير؟", فقلت: لا؛ والله لقد شغلني وجعك، قالت فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: "ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟", وفي لفظ: "ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده", فيا لله! ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بالله إذا لقوه، ومظالم العباد عندهم؟!.
ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله, هو حسن العمل نفسه؛ فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل ظنه بربه أن يجازيه على أعماله, ويثيبه عليها ويتقبلها منه.
الحالة الثانية: أن يكون العبد في حال انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة على فراش موته, فهذا ينبغي له أن يغلّب جانب حسن الظن بالله -تعالى-؛ لأن وقت العمل قد ولّى, ولم يبق له إلا هذا الرجاء, أخرج مسلم في صحيحه من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَقُولُ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ-".
ومن إحسان الظن بالله: أنه إذا ابتليت بمرض, أو مات لك حبيب, أو خسرت في تجارة, أو غيرها من البلاء, أحسنت الظن بربك فلم تلمه على قدره, ولم تجزع لمصيبتك, وقلت: قدر الله, وما شاء فعل.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ, اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ, اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ, رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.