الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - |
من المؤسف أن ينتابُنا تكاسل، أو تغشانا غفلات, وهذا لا يليق بمؤمن عاقل، فقِه الحياة، وآمنَ بالمعاد, ويرى الناس يَتصرعون يَمنةً ويسرة!, فماذا ننتظر بعد؟! وفِي جائحة كورونا مدّكرٌ ومعتبر، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد, واحسرتاهُ على قلوبٍ قاسية، وبصائرَ سقيمة، وهممٍ فاترة...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله أحيا عبادَه بالإيمان, وشرحَ صدورَهم بالقرآن, وجعلهم في منابع الإحسان, نحمدهُ على آلائه، ونشكره على خيره وإنعامه, أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -عبادَ الله- وتوبوا إليه، وتذكروا أحوالَكم وما تؤولون إليه, (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].
أيها الناس: هل رأيتُم تأسفَ الصالحين على الخيرات؟، أو هل سمعتم بأصحاب الهمم إذا فاتتهم قربات، أو تاهت عنهم ثرواتٌ وقراريط؟!.
جاء في الصحيحين أن أبا هريرة -رضي الله عنه- حدّث بحديث القراريط في الجنازة, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا, وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ, كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا, ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ".
فأنكره الصحابي عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقال: "أكثرَ علينا أبو هريرة", فأرسلوا إلى عائشة أم المؤمنين فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُهُ؛ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: "لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ".
نعم؛ حينما تكونُ الأعمال يسيرات، والثوابُ مضاعفًا, فهي قراريط يُسارَع إليها، ويُتعب من أجلها, وكذلك لو حضرت إليك القراريط؛ كموسم عشر ذي الحجة، الأيام الفواضل، والليالي الكوامل؛ "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ", وفِي المسند: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد", وفي الحديثين حضٌ وحفز، وتنافسٌ ومبادرة، وأمرٌ بالإكثار ومسارعة.
تأتي المواسمُ تحدوني وتَحفزني | إلى البدارِ وقلبي غافلٌ عاني |
ماذا دهاني فأوراقي مبعثرةٌ | وخاطري مدنفٌ من فعل إخواني؟! |
ياربِّ جددْ لنا هما وحازمةً | من السراع إلى ذكرٍ وقرآنِ |
وامنحْ فؤادي أكاليلا مجنحةً | تسمو إليكَ بأفراحٍ وريحانِ |
يا مسلمون: عشرُ ذي الحجة، تناديكم وتقول: "ذروا الكسل، واطرحوا الهموم والأحزان، وسارعوا في مرضاة ربكم وخالقكم", (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133], وفِي القرآن أقسم الباري -تعالى- تنويهًا بشأنها: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 1، 2], وهي الأيامُ المعلومات المندوب فيها الذكرُ والعمل الصالح.
ولكن من المؤسف أن ينتابُنا تكاسل، أو تغشانا غفلات, وهذا لا يليق بمؤمن عاقل، فقِه الحياة، وآمنَ بالمعاد, ويرى الناس يَتصرعون يَمنةً ويسرة!, فماذا ننتظر بعد؟! وفِي جائحة كورونا مدّكرٌ ومعتبر، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد, واحسرتاهُ على قلوبٍ قاسية، وبصائرَ سقيمة، وهممٍ فاترة، ونفوسٍ شائقة إلى الدنيا وزينتها!.
بالأمس ودعتَ عزيزًا, أو شيعت قريبا, فماذا تنتظر بعد، أو فيما تؤمل؟! لقد طالت الغفلات، وتعاظمت الوحشةُ والنكبات, قال نبيّكُم -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "إنَّ الإيمانَ ليخلَقُ في جوفِ أحدِكم؛ كما يخلَقُ الثَّوبُ (أي: يَبلى), فسَلُوا اللهَ -تعالى- أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم".
فاستثمروا هذه الأيام َفي تجديد الإيمان, وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, وتعلّم من صالحين ثابروا، وعقلاء بادروا, قال ابنُ عمرَ -رضي الله عنهما-: خرج عمرُ يومًا إلى حائطٍ له (أي: بستان)، فرجع وقد صلى الناسُ العصر؛ فقال عمرُ: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون؛ فاتتْني صلاة العصر في الجماعة، أُشهِدُكُمْ أنَّ حائطي هذا على المساكين صدقة".
كذا هي النفوس المتألمة, والهمم الكبيرة، التي تأسى وتعالج وتؤنب, وتعزم على الإصلاح والتهذيب, (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 9، 10].
ساق اللهُ إليكَ العشر سوقا جميلا، وفتح لنا فيها أبواب الخيرات، ومنحكَ لسانًا فاجعله ذاكرا، وعضلات اصنع بها المعروف، ومالًا ضعه في محتاجيه، وكلمةً حلّقْ بها في الطيبات، وهمةً تاجرْ بها مع الله؛ فإنها نِعمتِ التجارة، ونعمت الخصلة والبضاعة, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الصف: 10، 11].
فتاجروا مع الله، وسارعوا في مرضاته، وعظّموا الزمانَ والساعات, قال العلامة ابن الجوزي -رحمه الله-: "ينبغي للإنسان أن يعرِف شرفَ وقته، فلا يُضيِّع منه لحظةً في غير قربة", فاحفظ وقتك باستثماره, وصنِ الزمان بعمل الخصال، وقدِّر اللحظات بالباقيات الصالحات.
اللهم أَحيي قلوبَنا، وداوِ غفلتنا، واجعلنا من عبادك التائبين المسارعين, أقولُ قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه، وصلّى الله وسلّم على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبه أجمعين, وبعد:
أيها الإخوةُ الكرام: أكرموا عشرَكم بحُسْن العمل، وصدق التِوجه، وشحذ التنافس, وحبِّ التغيير, (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)[الأنبياء: 90], فسارعوا في الخيرات، واطلبوا القُربات، وادعوا ربَّكم راغبين وراهبين, وهُبُّوا إلى القراريط؛ ففيكم صائمٌ, اقفُوا طريقَه، وآخر ذاكر؛ كونوا على دربه، وقائمٌ تعلموا من قنوته، وقارئ سيروا على طريقته.
ولا تتقالُّوا عملا، أو تحتقروا حسنة، أنتم في موسم مضاعفة، وفِي عشر جدٍ مباركة, (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 61], قال -صلى الله عليه وسلم- في حديث المغانم الخَمس: "وشبابَك قبل هرمِك, وفراغَك قبل شُغلِك".
وهنيئا لمن أحياها بالذكر, أو بالصيام أو بالتلاوة، أو بالصدقات فكلها أعمالٌ مشكورة في أيام معمورة, ومن عَجِز أو ضعُف فلا يفوتنّ صومَ عرفة، أو اللهجَ باللسان الرطب تهليلا وتحميدا, (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)[البقرة: 152].
هذا وصلوا وسلموا على أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].