الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: "الرحيل الرحيل" فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه فقيل: "إنه قد مات", فقال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي يسبح بحمده من في الأرض والسموات، والحمد لله بكل حمدٍ حمد به نفسه، أو علمه أحدًا من المخلوقات، نحمده على ما منح من نعمه السابغات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ترفع قائلها أعلى الدرجات، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات، اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأئمة الثقات.
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن ما توعدون من الآخرة لآت، وإنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر، والطريق كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات.
واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات قبل أن ينادي منادي الشتات، قبل أن يفجأكم هاذم اللذات، ويتصاعد منكم الأنين والزفرات، وقبل أن تتقطع قلوبكم عند فراق الدنيا حسرات، ويغشاكم من غم الموت الغمرات، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100]، وقبل أن تخرجوا من القصور إلى بطون الفلوات، ويُحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) [سبأ: 54]، وقبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا لتعملوا وهيهات هيهات.
فاتقوا الله حق تقاته، فإن فيها النجاة قبل الممات، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن له تعالى في أيام دهركم نفحات، وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات. فرحم الله أقوامًا بادروا الأوقات، وتداركوا الهفوات، عيونهم مشغولة بالدمع، وألسنتهم مسجونة بالصمت عن فضول الكلمات، وأكفهم مكفوفة بالخوف عن تناول الشهوات، وأقدامهم مقيدة بقيود المحاسبات، فتيقظوا -رحمكم الله- للحاقهم من سنة الغفلات، واعملوا مثل أعمالهم تناولوا الدرجات.
عباد الله: حذر الله الرحيم عباده من فجأة الموت، وأمرهم بحسن الاستعداد له، فقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281]، وقال -سبحانه-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185]، وقال -جل وعلا-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2] قال السدي: "أي أكثركم للموت ذكراً، وله أحسن استعداداً، ومنه أشد خوفاً وحذراً".
وأخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم– أن خيار عباد الله هم الذين استعدوا للموت وعملوا لما بعده، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنت جالساً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء رجل من الأنصار، فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: "أي المؤمنين أفضل؟" قال: أحسنهم خلقاً، قال: فأي المسلمين أكيس؟ قال: "أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً أولئك الأكياس" [البيهقي في الزهد الكبير (2/52) وحسنه الألباني].
فالعبد العاقل يُجهِد نفسه في عبادة الله -سبحانه- عملاً يعده لما بعد الموت، ولقاء الله تعالى، وكذلك يحاسب نفسه على ما فرط من عمره، ويستعد لعاقبة أمره؛ بصالح عمله، والتنصل من سالف ذنبه، ويكثر من ذكر الله تعالى، وطاعته في جميع أحواله، فهذا هو الزاد ليوم المعاد، أما المقصر في الأمور، فهو مع تقصيره في طاعة ربه، واتباع شهوات نفسه يتمنى أن يُغفر له، وهذا هو الاغترار؛ نعوذ بالله من الخذلان.
عباد الله: لقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بكثرة ذكر الموت، وأخبرهم أنه يهدم اللذات الدنيوية، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هاذم اللذات". يعني الموت [الترمذي 2307 وصححه الألباني].
وقوله -عليه السلام-: "أكثروا ذكر هاذم اللذات" كلام مختصر وجيز قد جمع التذكرة، وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة؛ نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "أكثروا ذكر هادم اللذات" مع قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه.
لقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيرًا ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته | يبقى الإله ويفنى المال والولد |
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه | والخلد قد حاولتْ عادٌ فما خلدوا |
ولا سليمان إذ تجري الرياح له | والإنس والجن فيما بينها ترد |
أين الملوك التي كانت لعزتها | من كل أوب إليها وافد يفد؟ |
حوض هنالك مورود بلا كذب | لا بد من ورده يوماً كما وردوا |
واعلم -عبد الله- أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية، ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق وسعة، ونعمة ومحنة، فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم والموت أصعب منه، أو في حال نعمة وسعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها، والسكون إليها، لقطعه عنها.
عباد الله: وعلى نفس الطريق سار سلف الأمة الصالحون، يتذكرون الموت ويذكّرون العباد به، قال الحسن البصري: "إن قوماً ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب لو أحسن الظن لأحسن العمل"، وتلا قوله تعالى: (ذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [فصلت: 23]، وقال سعيد بن جبير: "الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية، ويتمنى على الله المغفرة"، وقال بقية بن الوليد: كتب أبو عمير الصوري إلى بعض إخوانه: "أما بعد؛ فإنك قد أصبحت تؤمل الدنيا بطول عمرك، وتتمنى على الله الأماني بسوء فعلك، وإنما تضرب حديداً بارداً والسلام".
عباد الله: الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: "الرحيل الرحيل" فلما توفي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه فقيل: "إنه قد مات", فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره | حتى أناخ ببابه الجمال |
فأصابه متيقظاً متشمراً | ذا أهبة لم تلهـــه الآمال |
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد، من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر فكيف يكون حاله؟". ثم يبكي حتى يسقط مغشياً عليه.
وقال التيمي: "شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى". وكان عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه - يجمع العلماء فيتذاكرون الموت، والقيامة، والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة. وقال أبو نعيم: "كان الثوري إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياماً، فإن سئل عن شيء قال: لا أدري لا أدري".
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات، فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك؟، وإذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى عراء، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان ليس لك -والله- من مال إلا الأكفان، بل هي والله للخراب والذهاب، وجسمك للتراب والمآب فأين الذي جمعته من المال؟ فهل أنقذك من الأهوال؟ كلا بل تركته إلى من لا يحمدك، وقدمت بأوزارك على من لا يعذرك.
عباد الله: وقد شرع الإسلام آدابًا وسننًا تذكّر بالموت وقرب الرحيل، وتنفّر من الركون إلى الدنيا، فمن ذلك أنه شرع زيارة القبور للاتعاظ والذكرى، فعن أبي هريرة قال: زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: "استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" [مسلم (976)].
وعَنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّ فِي زِيَارَتِهَا تَذْكِرَةً" [أبو داود (3700)وصححه الألباني]، فالأصل في زيارة القبور أن يتذكر المرء نهايته، وهول القبور وظلمتها على أهلها، فيرجع ليعمل ويجتهد في طاعة ربه، ورد الحقوق لأصحابها.
وروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه خرج إلى المقبرة فلما أشرف عليها قال: "يا أهل القبور أخبرونا عنكم، أو نخبركم, أما خبر من قبلنا: فالمال قد اقتسم، والنساء قد تزوجن، المسكن قد سكنها قوم غيركم، ثم قال: أما والله لو استطاعوا لقالوا: لم نر زاداً خيراً من التقوى". ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول:
يا عجباً للناس لو فكروا | وحاسبوا أنفسهم أبصروا |
وعبروا الدنيا إلى غيرها | فإنما الدنيا لهم معبر |
لا فخر إلا فخر أهل التقى | غداً إذا ضمهم المحشر |
ليعلمن الناس أن التقى | والبرُ كانا خير ما يُدَّخر |
عباد الله: وزيارة القبور باب من أبواب إصلاح القلوب، ولذلك قال بعض العلماء: "ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور، وخاصة إن كانت قاسية، فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور:
أحدها: الإقلاع عما هي عليه: بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكر، والتخويف والترغيب، وأخبار الصالحين فإن ذلك مما يلين القلوب وينجع فيها.
الثاني: ذكر الموت: هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، روى أن امرأة شكت إلى عائشة -رضي الله عنها- قساوة قلبها، فقالت لها: "أكثري من ذكر الموت يرق قلبك"، ففعلت ذلك فرق قلبها فجاءت تشكر عائشة -رضي الله عنها-. قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا، ويهون المصائب فيها.
الثالث: مشاهدة المحتضرين: فإن في النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته، ونزعاته، وتأمل صورته بعد مماته، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب. قيل أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له: الطعام- يرحمك الله- فقال: "يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم, فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه".
فهذه ثلاثة أمور ينبغي لمن قسا قلبه، ولزمه ذنبه، أن يستعين بها على دواء دائه، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وإغوائه، فإن انتفع بها فذاك، وإن عظم عليه؛ قسا القلب، واستحكمت فيه دواعي الذنب.
الرابع: زيارة قبور الموتى وأثره كبير في إصلاح القلوب والتوبة والأوبة لعلام الغيوب -سبحانه-.
عباد الله: إن الاعتبار بحال المحتضرين غير ممكن في كل الأوقات، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات، وأما زيارة القبور فوجودها أسرع، والانتفاع بها أليق وأجدر، فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف على الأجداث فقط، فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمته -نعوذ بالله من ذلك-.
بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، أو نفع الميت من الدعاء والاستغفار، ويجتنب المشي على المقابر، والجلوس عليها إذا دخل، ويسلم عليها إذا دخل، ويخاطبهم خطاب الحاضرين فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" [مسلم974]، وكذلك كان -عليه الصلاة والسلام- يقول.
فالتزموا رعاكم الله -تلك الوصايا- وانهجوا نهجها تسعدوا وتفوزوا، وتنتظم أحوالكم، ويستقم مجتمعكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه, واعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاءه الموت على وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه، فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه، الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، بل رجعت مع أولادهم وأهليهم.
عن أنس بن مالك، يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله" [البخاري (6154)] مسلم (2960)]. ولو رأيت التراب وقد محا محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريقهم وبلادهم، وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمؤاتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب. وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع والهلاك السريع كغفلتهم، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم.
وليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه، وكان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله، وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه، وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمؤاتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله، وعند هذا التذكر والاعتبار، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمار الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، ويخشع جوارحه.
أيها الإخوة: وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من تمني الموت، فإن الإنسان لا يدري بما يختم الله له، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتمنين أحدكم الموت لضُرّ نزل به، فإن كان لا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي" [البخاري (5671) ومسلم (2680)].
ويؤكد النبي -صلى الله عليه وسلم- خطورة تمني الموت، وأنه سبب لانقطاع العمل، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتمنى أحدكم الموت ولا يَدْعُ به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً" [مسلم 2682].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لن يُدخِل أحدًا عملُه الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا؛ "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنين أحدكم الموت: إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب" [البخاري 5673]، أي بالتوبة والرجوع عن الذنوب.
أيها الإخوة: قد وردت بعض الآثار الشرعية التي تشير إلى تمني الموت، ومن ذلك أن الله - عز وجل- قال مخبراً عن يوسف- عليه السلام-: ( تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) [يوسف: 101]، وعن مريم- عليها السلام - في قولها: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) [مريم: 23]، وعن أبي هريرة: أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه" [البخاري7115 ].
ولا تعارض بين هذه النصوص والتي قبلها، أما يوسف -عليه السلام- فقال قتادة: "لم يتمن الموت أحد لا نبي ولا غيره إلا يوسف -عليه السلام- حين تكاملت عليه النعم وجمع له الشمل، فاشتاق إلى لقاء ربه -عز وجل-، فقال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) [يوسف: 101]، فاشتاق إلى لقاء ربه -عز وجل-.
وقيل إن يوسف -عليه السلام -لم يتمن الموت وإنما تمنى الموافاة على الإسلام، أي: إذا جاء أجلي توفني مسلماً، وهذا هو القول المختار في تأويل الآية عند أهل التأويل، وأما الحديث فإنما هو خبر أن ذلك سيكون لشدة ما ينزل بالناس، من فساد الحال في الدين، وضعفه وخوف ذهابه، لا لضر ينزل بالمرء في جسمه أو غير ذلك، من ذهاب ماله مما يحط به عنه خطاياه.
ومما يوضح هذا المعنى ويبينه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان من دعائه قوله -عليه السلام -: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" [الترمذي (3233) وصححه الألباني]، ومثل هذا قول عمر -رضي الله عنه-: "اللهم قد ضعفت قوتي، وكبرت سني، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مقصر" فما جاوز ذلك الشهر حتى قُبِضَ -رحمه الله- [رواه مالك الموطأ 3/58].
عباد الله: إن الموت من أعظم المصائب، وقد سماه الله تعالى مصيبة في قوله: (فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة: 106]، فالموت هو المصيبة العظمى والرزية الكبرى، وأعظم منه الغفلة عنه، والإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل له، وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر، فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع.