العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المهلكات |
لقد فشا الظلم بين الناس اليوم، وكثر بخس الحقوق بينهم، وتعددت مظاهره، والواجب على الإنسان أن يخشى على نفسه من عقوبة الدنيا قبل عقوبة الآخرة، وكل امرئ أدرى بنفسه، فحقوق الناس أمرها عظيم وشأنها كبير، ولقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون الحقوق، ويطففون في المكيال والميزان؛ ذلك أن حقوق العباد مبنية على المشاحة والمطالبة بها.. ولشناعة الظلم وخطره حرّمه الله على نفسه كما حرم في جميع الشرائع الإلهية.. يا هذا! ظلمك لنفسك غاية في القبح، إلا أن ظلمك لغيرك أقبح، ويحك إن لم تنفع أخاك فلا تؤذه، وإن لم تعطه فلا تأخذ منه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبيه عبده ورسوله الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يقتدون.
أما بعد: فيا أيها المسلمون (اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
وأدوا عباد الله ما عليكم من حقوق وواجبات، واحذروا ظلم الناس أو التعدي عليهم بقول أو فعل أو غير ذلك؛ فإن هذا من الظلم المحرم وويل للظالمين من عذاب شديد.
عباد الله : أمر الله بالعدل ورغّب فيه؛ فقال -عز وجل- (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
وحذّر من الظلم وبخس الحقوق، والتعدي على الناس في أموالهم ودمائهم وأعراضهم وحقوقهم في آيات متعددة، وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج خطيبًا، فقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟!"
فحقوق الناس أمرها عظيم وشأنها كبير، ولقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون الحقوق، ويطففون في المكيال والميزان؛ ذلك أن حقوق العباد مبنية على المشاحة والمطالبة بها.
ولهذا لا بد أن يعفو الشخص عن حقه، وإلا فإنه يبقى حتى يقف هو وخصمه بين يدي الله -عز وجل-، ولشناعة الظلم وخطره حرّمه الله على نفسه كما حرم في جميع الشرائع الإلهية ففي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيما يرويه عن ربه -عز وجل-: "يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
إن من الخطورة بمكان الاعتداء على إنسان سواء كان هذا الاعتداء بأخذ ماله أو بإذلاله أو بتشويه سمعته، أو بالتسبب بإلحاق الأذى في بدنه أو ولده، أو زوجته أو التفريق بينه، وبين أحبته أو بالشهادة عليه زورًا وظلمًا، أو بعمل سحر له أو بقتله أو حبسه أو أخذ ماله أو صده عن دينه، أو التقول عليه، أو غير ذلك مما يؤذيه ويضره.
فكل هذا من الظلم المحرم، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم" (رواه مسلم).
وفيه أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجَلحاء من الشاة القَرناء".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه" (رواه البخاري).
يدعو المظلوم على الظالم فيُستجاب دعائه، روى الإمام أحمد والترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ثلاثة لا تُرد دعوتهم؛ الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم".
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن؛ دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم".
وروى الإمام أحمد: "دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه".
قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إياك ودعوات المظلوم، فإنهن يصعدن إلى الله كأنهن شرارات من نار".
لما نُكب البرامكة وصُودرت أموالهم قال يحيى لابنه وهما في السجن: يا أبتِ بعد العز أصبحنا في سجن وقيد؟ فقال له: "يا بني! هذا بدعوة مظلوم سرت بليل، غفلنا عنها لم يغفل الله عنها".
قال أبو الفضل التميمي قال لي والدي: "يا بني! احذر أن تُخاصم من إذا نمت كان منتبهًا يدعو عليك".
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا | فالظلم ترجع عقباه إلى الندم |
تنام عيناك والمظلوم منتبه | يدعو عليك وعين الله لم تنم |
شكا أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فبعث عمر -رضي الله عنه- رجالاً يسألون عنه في مجالس الكوفة، فكانوا لا يأتون مجلسًا إلا يثنون عليه خيرًا، فجاءوا إلى مسجد من مساجدهم فقام رجل فقال عن سعد: "إنه كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً، قام رياءً، وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرّضه للفتن، وكان بعد ذلك يتعرض للإماء في السكك وهو أعمى، فإذا سُئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد" (رواه البخاري).
وذكر التنوخي أن أحد الوزراء في بغداد، وقد سماه، اعتدى على امرأة عجوز هناك، فسلبها حقوقها، وصادر أملاكها، فذهبت إليه تبكي تشتكي من ظلمه، فما ارتدع وما تاب وما أناب. قالت: لأدعون الله عليك، فأخذ يضحك منها باستهزاء، وقال: عليك بالثلث الأخير من الليل!! يستهزئ بها، فذهبت وداومت على الثلث الأخير من الليل كما وصف لها هو، فما هو إلا وقت قصير إذ عُزل هذا الوزير وسُلبت أمواله، وأُخذ عقاره ثم أُقيم في السوق يُجْلَد؛ تعزيرًا له على أفعاله، فخرجت له العجوز فقالت له: أحسنت، لقد وصفت لي الثلث الأخير من الليل فوجدته أحسن ما يكون.
لا تحتقر دعاء المظلوم، فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك، عجبًا للظالم كيف ينام قرير العين وعيون قد سهرت تدعو عليه! وتهديد رب المستضعفين ينادي عليك (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) [الكهف:59].
يا عباد الله: احذروا ظلم الناس بأخذ أموالهم، أو التعدي على أراضيهم، أو جحد حقوقهم، أو الوشاية بهم، أو قصد إيقاع الضرر عليهم؛ فإنه أمر عظيم له عواقبه في الدنيا قبل الآخرة، ولاسيما ظلم ذوي القربى من زوجة وولد وأخ ونحوهم.
واحذروا ظلم العمال والخدم وضعفاء الناس؛ فإن الله للظالمين بالمرصاد، قال معاوية -رضي الله عنه-: "إني لأستحي أن أظلم من لا يجد عليَّ ناصرًا إلا الله".
ومن كان لا يستطيع أن يأخذ حقه في هذه الدنيا فسوف يأخذه في يوم القيامة (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته، وصيامه، وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُقعد فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أُخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طُرح في النار".
لما قتل الحجاجُ العالِمَ سعيدَ بن جبير -رحمه الله- دعا عليه، وقال: "اللهم لا تسلّطه على أحد بعدي، فمرض الحجاج، ثم مات بعد خمسة عشر يومًا من قتله لسعيد".
فواجب علينا -عباد الله- أن ننظر في أحوالنا، وأن نتفقد أنفسنا، وأن نتوب إلى ربنا من ظلم غيرنا، وأن نرجع الحقوق إلى أصحابها، وأن نحذر من علمناه يظلم ويبخس الحقوق (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم:43].
اللهم أعذنا من الظلم وأحوال الظالمين، اللهم انتصر لإخواننا المظلومين في كل مكان، اللهم اقصم كل جبار وظالم عنيد يا قوي يا عزيز، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا ظلم الناس، فإن الله تعالى للظالمين بالمرصاد.
لقد فشا الظلم بين الناس اليوم، وكثر بخس الحقوق بينهم، وتعددت مظاهره، والواجب على الإنسان أن يخشى على نفسه من عقوبة الدنيا قبل عقوبة الآخرة، وكل امرئ أدرى بنفسه (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة:14].
أيها الظالم لغيره! أما سمعت منادي (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أما ينذركم يا هؤلاء أعلام (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، أما يفصم عرى عزائمكم (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً)، أما يقصر من قصوركم (وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) أما سمعتم هاتف العبر ينادي (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ).
يا هذا! ظلمك لنفسك غاية في القبح، إلا أن ظلمك لغيرك أقبح، ويحك إن لم تنفع أخاك فلا تؤذه، وإن لم تعطه فلا تأخذ منه، لا تشابهن الحية؛ فإنها تأتي إلى الموضع الذي قد حفره غيرها فتسكنه، ولا تتمثلن بالعقاب في الحيوانات أخيار وأشرار كبني آدم فالتقط خير الخلال وخلّ خسيسها.
ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي العار وداروا إلى دار العقاب، وملك الغير الدار، وخلوا بالعذاب في بطون تلك الأحجار، فلا مغيث ولا أنيس ولا رفيق ولا جار. أما علموا أن الله جار المظلوم ممن جار، فإذا قاموا في القيامة زاد البلاء على المقدار (سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ) لا يغرنك صفاء عيشهم (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ).
قال بعض الحكماء: "أعجل الأمور عقوبة وأسرعها لصاحبها سرعة وعقوبة: ظلمُ من لا ناصر له إلا الله، ومجاورة النعم بالتقصير، واستطالة الغني على الفقير".
ألا فاتقوا الله يا أهل الإسلام! وحاسبوا أنفسكم قبل الحساب الأعظم، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجار.
اللهم يا حي يا قيوم أعذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللهم أعذنا من ظلم الناس وأخذ حقوقهم...