البحث

عبارات مقترحة:

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

هدي النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام

العربية

المؤلف عبد الله بن علي الطريف
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المهلكات
عناصر الخطبة
  1. حَاجَةُ الإِنْسَانِ إِلَى الطَّعَامِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهِ .
  2. نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى ودوامها مرتبط بشكرها .
  3. خطورة إلقاء الطعام والاستهانة بالنعمة .
  4. وجوب إِكْرَامَ النِّعْمَةِ وَاحْتِرَامَهَا، وَعَدَمَ الاسْتِهَانَةِ بِقَلِيلِهَا .
  5. إِهَانَة الطَّعَامِ كُفْرٌ لِلنَّعْمَةِ .
  6. تنوع مخاطر الإسراف في الطعام وكثرة المشكلات الصحية .
  7. وجوب شكر النعمة وعدم التبذير فيها. .

اقتباس

حَاجَةُ الإِنْسَانِ إِلَى الطَّعَامِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وهِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي تَحْفَظُ الجِنْسَ البَشَرِيَّ مِنَ الانْقِرَاضِ، فَلاَ حَيَاةَ لِلْإِنْسَانِ بِلاَ طَعَامٍ. ونحن في هذه البلاد المباركة قد فتح الله علينا أبواب الخيرات والنعم لو حدث عنه أجدادنا لم يصدقوه، وإِنَّ حِفْظَ هذه النِّعَم مِنَ الزَّوَالِ مُرْتَهَنٌ بِطَاعَةِ اللهِ –تَعَالَى- فِيهَا كَسْبًا وَإِنْفَاقًا، وَشُكْرِهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهَا. وبَقَاءَ النِّعَمِ مُرْتَهَنٌ بِإِكْرَامِهَا، وَعَدَمِ الاسْتِهَانَةِ بِقَلِيلِهَا وَلَوْ كَانَ حَبَّاتِ أَرُزٍّ، أَوْ كِسْرَةَ خُبْزٍ، أَوْ قَلِيلَ حِسَاءٍ، أَوْ حَبَّةَ تَمْرٍ، فَمَنِ اسْتَهَانَ بِقَلِيلِ النِّعْمَةِ اسْتَهَانَ بِكَثِيرِهَا، وَمَنْ أَلْقَى كِسْرَةَ خُبْزٍ، وَأَهَانَ حُبَيْبَاتِ أَرُزٍّ، هَانَتِ النِّعْمَةُ فِي نَفْسِهِ؛ فَأَلْقَى الكَثِيرَ مِنَ الطَّعَامِ...

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

أيها الأحبة: أَكْثِرُوا حَمْدَ اللهِ وَشُكْرَهُ؛ فَإِنَّ رَبَّكُمْ –سُبْحَانَهُ- يُحْمَدُ لِذَاتِهِ وَلِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكُلُّ مَا فِي الوُجُودِ شَاهِدٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الحَمْدَ.. كَمَا قَالَ أَفْضَلُ حَامِدٍ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

أَيُّهَا الإخوة: حَاجَةُ الإِنْسَانِ إِلَى الطَّعَامِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِهِ، وهِيَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ الَّتِي تَحْفَظُ الجِنْسَ البَشَرِيَّ مِنَ الانْقِرَاضِ، فَلاَ حَيَاةَ لِلْإِنْسَانِ بِلاَ طَعَامٍ.

ونحن في هذه البلاد المباركة قد فتح الله علينا أبواب الخيرات والنعم لو حدث عنه أجدادنا لم يصدقوه، وأن هذا الخيرات لا يمكن أن تكون بالدنيا.. هاهم الناس يزْرعُون ويحصدون ونَأْكلُ، فلا نفقدُ فاكهةَ وخضارَ الصيفِ في الشتاء، ولا فاكهةَ وخضارَ الشتاء في الصيف، أنواع من الحبوب، وأصناف من الفواكه، وأشكال من المآكل والمشارب لا تُعد ولا تُحصى بين طازج ومجمد ومبرد ومعلب.. قد أفاض الله علينا من خيرات الدنيا ما لاَ نُحْصِي..

وإِنَّ حِفْظَ هذه النِّعَم مِنَ الزَّوَالِ مُرْتَهَنٌ بِطَاعَةِ اللهِ –تَعَالَى- فِيهَا كَسْبًا وَإِنْفَاقًا، وَشُكْرِهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهَا. وبَقَاءَ النِّعَمِ مُرْتَهَنٌ بِإِكْرَامِهَا، وَعَدَمِ الاسْتِهَانَةِ بِقَلِيلِهَا وَلَوْ كَانَ حَبَّاتِ أَرُزٍّ، أَوْ كِسْرَةَ خُبْزٍ، أَوْ قَلِيلَ حِسَاءٍ، أَوْ حَبَّةَ تَمْرٍ، فَمَنِ اسْتَهَانَ بِقَلِيلِ النِّعْمَةِ اسْتَهَانَ بِكَثِيرِهَا، وَمَنْ أَلْقَى كِسْرَةَ خُبْزٍ، وَأَهَانَ حُبَيْبَاتِ أَرُزٍّ، هَانَتِ النِّعْمَةُ فِي نَفْسِهِ؛ فَأَلْقَى الكَثِيرَ مِنَ الطَّعَامِ..

ومن نظر إلى حال كثير منا مع طعامه وسلوكه في أكله، ثم قارن ذلك بحال رسولنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسلف الأمة وجد بونا شاسعا بيننا..

أحبتي: إِنَّنَا نُجَازَى بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ: (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء:40]، وَكَمْ فِي حَبَّةِ الأَرُزِّ مِنْ ذَرَّةٍ! وَكَمْ فِي بَقَايَا الخُبْزِ مِنْ ذَرَّةٍ، وَنَسْتَهِينُ بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا؛ كَالتَّمْرَةِ وَاللُّقْمَةِ، وَلْنَنْظُرْ فِي مَوَائِدِنَا اليَوْمِيَّةِ كَمْ يَسْقُطُ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى السُّفْرَةِ! وَكَمْ فِيهِ مِنْ ذَرَّةٍ، وَلَوْ جُمِعَ لَأَشْبَعَ إِنْسَانًا أَوْ أَكْثَرَ! بَيْنَمَا يَأْنَفُ أَحَدُنَا أَنْ يَجْمَعَ مَا سَقَطَ مِنْهُ لِيَأْكُلَهُ، فَلاَ يُبْقِي حَبَّةً بَعْدَهُ، مَعَ أنَّ السْفَرَ نَظَيفَةً كنظافة الأواني.

وَتَأَمَّلُوا كيف كان -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكرم النِّعْمَةَ، وكيف أنه لم يستهن بِقَلِيلِ الطَّعَامِ مَهْمَا كَانَ، وَلَوْ كَانَ تمرة أو لُقْمَةً وَاحِدَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ...". (رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ)..

وَمَرَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: "لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا". (رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه).

أين حالنا من هذا الحديث هل نطبقه.؟ الواقع أن من يطبقه يوصف بما لا يليق..

وَأَمَّا إِذَا صَنَعَ بعضنا وَلِيمَةً لِضَيوْفِهِ فَمَا يَبْقَى أَكْثَرُ مِمَّا يَأْكُلُونَ، وَأَكْبَرُ هَمٍّ يَحْمِلُهُ أَهْلُ البَيْتِ بَعْدَ الوَلِيمَةِ هُوَ: تَصْرِيفُ مَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ، وَلَوْ حَفِظُوهُ لَأَكَلُوا مِنْهُ أُسْبُوعًا، وَلَكِنَّ الناسَ لِترفهم يَأْنَفُونَ مِنْ الطَعَامٍ البَائِتٍ! فَإِمَّا بَعَثُوا بِهِ إِلَى فُقَرَاءَ أَوْ جَمْعِيَّاتٍ تُطْعِمُهُمْ، وَهَذَا فِي أَحْسَنِ الأَحْوَالِ، وَإِمَّا أُلْقِيَ لِلْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ مِنْ أَفْخَرِ الطَّعَامِ، وَإِمَّا رُمِيَ فِي الزُّبَالَةِ، وَهَذَا كُفْرٌ لِلنِّعْمَةِ شَنِيعٌ، أما ما يكون فِي الوَلاَئِمِ الكُبْرَى مِنْ الأَعْرَاسٍ وَالاحْتِفَالاَتٍ وَنَحْوِهَا، فَأَمْرٌ لاَ يَكَادُ يُصَدَّقُ مِنَ الإِسْرَافِ فِي كَثْرَةِ الطَّعَامِ وَأَنْوَاعِهِ، وسيكون لنا حديث عن طعام الوليمة.

أيها الإخوة: فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ اعْتِبَارٌ لِلتَّمْرَةِ الوَاحِدَةِ، وَاللُّقْمَةِ الوَاحِدَةِ، وَلِذَا جعلها النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مداراً لبعض الأحكام فِي حَدِيثِهِ؛ فَأَخْبَرَ كما في حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ الرَّجُلَ حِينَ يُطْعِمُ زَوْجَتَهُ لُقْمَةً فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ". (رواه البخاري ومسلم)..

وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ...". (الحديث عَن عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- وهو متفق عليه).

فَاعْتَبَرَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- التَّمْرَةَ وَاللُّقْمَةَ، وَلَمْ يَحْتَقِرْهَا، وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ وصححه الألباني). وَظِّلْفُ الشاة ما تطأ به الأرض وليس به لحم، وَفِي كَوْنِهِ مُحْرَقًا مُبَالَغَةٌ فِي غَايَةِ مَا يُعْطَى مِنَ القِلَّةِ.

وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ". (متفقٌ عليه). بَلِ اعْتَبَرَ بَعْضَ التَّمْرَة وَلَمْ يَحْقِرْهَا لِقِلَّتِهَا، فقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمِ -رضي الله عنه- والحديث متفق عليه.

فَمَنْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ أَنْ يُكْرِمَ بَعْضَ تَمْرَةٍ فَيَرْفَعَهَا إِنْ كَانَتْ سَاقِطَةً، وَيَأْكُلَهَا أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهَا؛ فَإِنَّ شِقَّ التَّمْرَةِ قَدْ يَقِيكَ مِنَ النَّارِ، وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَبَقَايَا الطَّعَامِ فِي الصِّحَافِ وَالقُدُورِ وَالأَوَانِي لاَ تُحْتَقَرُ وَلاَ يُسْتَهَانُ بِهَا، بَلْ تُكْرَمُ وَتُصَانُ وَتُسْلَتُ فَتُؤْكَلُ، قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ" (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَخَذُوا إِكْرَامَ النِّعْمَةِ وَاحْتِرَامَهَا، وَعَدَمَ الاسْتِهَانَةِ بِقَلِيلِهَا مِنَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-؛ فَعَنْ مَيْمُونَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- أَنَّهَا أَبْصَرَتْ حَبَّةَ رُمَّانٍ فِي الأَرْضِ فَأَخَذَتْهَا، وقَالَتْ: "إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ".

وَتَصَدَّقَ عُمَرُ وَعَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-ما بِحَبَّةِ عِنَبٍ، وَقَالا: "فِيهَا مَثَاقِيلُ كَثِيرَةٌ". ورُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ "أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِتَمْرَتَيْنِ، فَقَبَضَ السَّائِلُ يَدَهُ، فَقَالَ لِلسَّائِلِ: وَيَقْبَلُ اللهُ مِنَّا مَثَاقِيلَ الذَّرِّ، وَفِي التَّمْرَتَيْنِ مَثَاقِيلُ ذَرٍّ كَثِيرَةٌ".

فَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَحْتَقِرُونَ قَلِيلَ الطَّعَامِ أَنْ يَرْفَعُوهُ أَوْ يُقَدِّمُوهُ صَدَقَةً، لاَ يَحْتَقِرُونَ تَمْرَةً وَلاَ عِنَبَةً وَلاَ حَبَّةَ رُمَّانٍ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَامِلُهُمْ بِمَثَاقِيلِ الذَّرِّ؛ وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ إِهَانَةَ الطَّعَامِ كُفْرٌ لِلنَّعْمَةِ، وَأَنَّ كُفْرَ النِّعْمَةِ يُزِيلُهَا وَلاَ يُبْقِيهَا: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 81، 82]. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أيها الإخوة: حق علينا ونحن نسمع هذا الإرشاد النبوي الكريم أن نعيد حساباتنا ونخضع سلوكنا لسنة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسُنته خير السنن، ولن يأمر بأمر فيه ضرر علينا.. أما ما اخترعه الناس من إتيكيت المائدة كما يسمونه، وما أشعروا أنفسهم من أنه مضر أو ملوث، أو أنه لا يليق، وليس من أدب الطعام، أو ليس من أدب المائدة؛ فلسنا بحاجة لما خالف هدي نبينا منها..

وكلما بالغ الناس في الأكل والتفنن بأنواعه، كلما كثرت المشكلات الصحية، وهناك تناسب طردي بين كثرة المطاعم وتنوع الأطعمة وبين السمنة ثم أمراضِها -من السكر وضغط الدم والإصابة بالجلطات-، وكثرة مراكز علاجها وكثرة مراكز الرياضة، وبرامج التخسيس، وكثرة عمليات تحوير المعدة وغيرها.. وكم استنزفت هذه الأمراض والأعمال الناس والاقتصاد الوطني عموما من أموال!! وكم كلفت من جهود!!

ولو عاد الناس للسنة في مقدار أكلهم وآدابه العامة لأدرك الناس خيرا كثيرا, ووقي المجتمع والناس من شرور كثيرة.

أيها الإخوة: على النَّاسِ أَنْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ، وَأَنْ يُغَيِّرُوا سُلُوكَهُمْ فِي اسْتِهْلَاكِ الأَطْعِمَةِ، وَأنْ يُرَسَّخَ فِيهِمُ الاقْتِصَادُ فِي المَآكِلِ وَالوَلاَئِمِ وَالحَفَلاَتِ، وَأَنْ يُرَبَّى فِي الأُسْرَةِ أولاً: تَقْلِيلُ مَا يُطْبَخُ يَوْمِيًّا مِنْ طَعَامٍ..

وثانياً: أَنْ يُنَشَّأَ النَّشْءُ عَلَى أَلاَّ يَأْخُذَ مِنَ الطَّعَامِ فَوْقَ حَاجَتِهِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مِنْ وِعَاءٍ مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ». (رواه ابن حبان عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ وقال الألباني: صحيح لغيره).

وَثالثاً: يربى النَّشْءُ عَلَى احْتِرَامِ مَا يَتَسَاقَطُ مِنَ النِّعْمَةِ تَحْتَ صَحْنِهِ، فَلاَ يَتْرُكُهُ فِي السُّفْرَةِ، بَلْ يَجْمَعُهُ وَيَأْكُلُهُ، كما سبق في الحدث السابق.. "إِذَا وَقَعَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْهَا، فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، وَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ بِالْمِنْدِيلِ حَتَّى يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ..." وأن يَكُونَ الأب قُدْوَةً لِزَوْجِهِ وَوَلَدِهِ.. قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ". (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...