الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | حسن بن علي البار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
إن في هذا الكون من حولنا في بره وبحره وجوه، في حدائقه وصحرائه، وفي حره وبرده، وفي عزه وبؤسه, فيه من الآيات ما يُوقر القلب تعظيماً للخالق، ويزيد الإيمان، ويشرح الصدور، وإذا تأملت ما دعا الله -سبحانه- في كتابه عبادَه إلى الفكر فيه؛ أوقعك على العلم به -سبحانه وتعالى-، وبوحدانيته، وصفات كماله ونعوت جلاله, من عموم قدرته، وعلمه، وكمال حكمته، ورحمته وإحسانه، وبره ولطفه وعدله, ورضاه وغضبِه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الأولِ الذي هو لكل شيءٍ من خلقه سابق، العظيمِ الخالق، الكريم الصادق، الرحيمِ الرازق، رافعِ السبع الطوابق، بغير عَمَدٍ ولا علائق، ومثبِّتِ الأرض بالشُمِّ الشواهق، مزيَّنةً بالأشجار والحدائق، المتعرِّف إلى خلقه بالبراهين والحقائق، المتكفِّلِ بأرزاق جميع الخلائق، خالق الحيوان الناطق، من ماء دافق (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ) [الصافات: 5], أحمده ما سكت ساكتٌ ونطق ناطق، وأُقر بوحدانيته إقرار المخلص لا المنافق.
وأشهد ألا إله إلا هو -سبحانه- وبحمده، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسوله من عمَّت دعوتُهُ الحضيض والشاهق، صلى الله وسلم عليه وعلى صاحبه أبي بكر القائمِ يومَ الردة بالحزم اللائق، وعلى عمرَ مدوِّخِ الكفار وفاتحِ المغالق، وعلى عثمان الذي ما استحل حرمته إلا مارق، وعلى عليٍّ الذي كان يدخل بالشجاعة المضائق، وعلى سائر آله وأصحابه ما أضاء صُبحٌ وذرَّ شارق، وسلَّمَ تسليماً.
أما بعد: فإن الله جميلٌ يُحب الجمال, سبحانه وبحمده (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: 2]، وأرانا من بديع خلقه، وتصريفِ أمره، وصنوف تدبيره ما يشهد بعظمته وجلاله، وكبريائه وحكمته، وأنه الذي أعطى كل شيء خلقه فهدى، وهو -سبحانه- (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه: 8]، ومن جماله -سبحانه- أفاض على هذا الكون من البهاء والروعة, ما لا يقدر عليه إلا من كان له ما هو أعظم وأوفر من ذلك، على حد قول ابن القيم - رحمه الله -:
وهو الجميلُ على الحقيقة كيـف لا | وجمالُ سائر هذه الأكـــوان |
من بعضِ آثار الجميـــل فربُّــها | أولى وأجدرُ عند ذي العِرفان |
فجمالُهُ بالذات والأوصــاف والـ | أفعــال والأسماء بالبرهان |
لا شيء يُشــبـــهُ ذاته وصفاتِهِ | سبحانه عن إفكِ ذي بهتان |
ومن ذلك أنه -سبحانه- أكمل شرعه، وأجمله، وأحسنه، وجمَّل الأرض بأنبيائه ورُسُله, فجنس النبوات معروف في الأرض، يأثره جيل عن جيل في اختلاف أقطارها.
ثم إنه -سبحانه- وبحمده لما اختصَّنا بهذه الشريعة الآخرة المكمَّلة المجمَّلة، جعل نبيَّها -صلى الله عليه وسلم- جميل الخَلق، عظيمَ الخُلُق -صلى الله عليه وسلم- فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خلقاً؛ فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فخرجت حتى أمرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق؛ فإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرتُ إليه وهو يضحك، فقال: "يا أنيس ذهبت حيث أمرتك؟" قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله" [رواه مسلم].
وأما عن جماله الظاهري -صلى الله عليه وسلم- فعن جابر بن سمرة قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة إضحيان -أي ليلةٍ مضيئةٍ مقمرة-، فجعلت أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى القمر، وعليه حلةٌ حمراء فإذا هو عندي أحسن من القمر" [رواه الترمذي].
أحبتي في الله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190، 191]، وإن من عبادات المؤمن: الاستدلال بآيات الله المشهودة مما خلق عليه -سبحانه وتعالى-، فما في الكون شيءٌ إلا وإذا تأمَّله المتأمِّل وجده دالاً على عظمته، واستحقاقه للألوهية والربوبية على خلقه أجمعين (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 20، 21].
ونحن وإن كنا نغفلُ عن عبادة الله بإعمال العقول، والاهتداء والاستدلال بعظيم صنعِهِ على عظيم ما يستحق -سبحانه- من العبادة والخشية والإجلال، فإن سبب ذلك في كثيرٍ من الأحيان هو إلفُ ما نرى، ونسمع، ونشاهد من مخلوقاته، فإذا ألف الطبع ما يعتاد النظر إليه فقلَّما ينتفع به، أو يذَّكر، ولكن ما العذر للإنسان إذا خرج عن مألوفه، وأسعد نظره بجميل وبديع صنعِ الله, ما عذره حينئذٍ إن غفل عن التفكر في آلاء ربه -سبحانه-.
إن في هذا الكون من حولنا في بره وبحره وجوه، في حدائقه وصحرائه، وفي حره وبرده، وفي عزه وبؤسه, فيه من الآيات ما يُوقر القلب تعظيماً للخالق، ويزيد الإيمان، ويشرح الصدور، وإذا تأملت ما دعا الله -سبحانه- في كتابه عبادَه إلى الفكر فيه؛ أوقعك على العلم به -سبحانه وتعالى-، وبوحدانيته، وصفات كماله ونعوت جلاله, من عموم قدرته، وعلمه، وكمال حكمته، ورحمته وإحسانه، وبره ولطفه وعدله, ورضاه وغضبِه، وثوابه وعقابه, فبهذا تعرَّف إلى عباده وندبهم إلى التفكر في آياته.
فانظر -أخي المسلم- إلى خلق السماوات والأرض, وقد أثنى -سبحانه- في كتابه على المتفكرين في خلق السموات والأرض، وذم المعرضين عن ذلك فقال: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) [الأنبياء: 32], وتأمل خلقَ هذا السقف الأعظم مع صلابته وشدته ووثاقته، كيف أن الله خلقه من دخان كما قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11], قال الله تعالى عن السماء وشدة خلقها: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) [النبأ: 12], وقال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) [النازعات: 27، 28], وقال: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا) [الأنبياء: 32].
فانظر إلى هذا البناء العظيم الشديد الواسع، الذي رفع سَمْكَه أعظمَ ارتفاع، وزيَّنه بأحسنِ زينة، وأودعَه العجائبَ والآياتِ، وكيف ابتدأ خلقه دخان.
فسُبحانَ من لا يقدُرُ الخلقُ قدرَهُ | ومَن هُوَ فَوق العرش فردٌ مُوحَّدُ |
ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر، وهو -سبحانه- يُقسم بما يقسم به من مخلوقاته لتضمُّنِهِ الآياتِ والعجائبَ الدالةَ عليه، وكلما كان أعظم آية، وأبلغ في الدلالة؛ كان إقسامُه به أكثرَ من غيره؛ ولهذا يعظم هذا القسم. لقد تعرف إلى خلقه بأنواع التعرفات، ونصب لهم الدلالات، وأوضح لهم الآيات البينات؛ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 42].
فارجع البصر إلى السماء, وانظر فيها وفي كواكبها ودورانها، وطلوعها وغروبها، وشمسها وقمرها، واختلاف مشارقها ومغاربه,ا ودُؤوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها، ولا تغيُّرٍ في سيرها، بل تجري في منازل قد رُتِّبَت لها بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص، إلى أن يطويها فاطرُها وبديعُها، وانظر إلى كثرة كواكبها، واختلاف ألوانها ومقاديرها، فبعضها يميل إلى الحمرة، وبعضها إلى البياض، وبعضها إلى اللون الرصاصي.
ثم انظر إلى مسير الشمس في فلكها في مدة سنة ثم هي في كل يوم تطلُع وتغرُب بسيرٍ سخَّرها له خالقها لا تتعداه ولا تُقَصِّرُ عنه، ولولا طلوعُها وغروبُها لما عُرف الليل والنهار، ولا المواقيت، ولا طَبَّق الظلامُ على العالم أو الضياء، ولما تميز وقت المعاش من وقت السبات والراحة.
وانظر كيف قدر لها السميع العليم سفرين متباعدين:
أحدَهما: سفرُها صاعدةً إلى أوجها (شمالاً) .
والثاني: سفرُها هابطةً إلى حضيضها (جنوباً), تنتقل في منازل هذا السفر منزلةً منزلة حتى تبلغَ غايتها منه, فأحدث ذلك السفرُ بقدرة الرب القادر اختلافَ الفصول من الصيف والشتاء، والخريف والربيع.
ولقد قامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الأربعة واختلفت بسببها الأقوات وأحوال النبات وألوانُه ومنافعُ الحيوان والأغذية وغيرها, (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [لقمان: 11].
ثم انظر إلى القمر وعجائب آياته كيف يُبديه الله كالخيط الدقيق ثم يتزايد نورُه، ويتكاملُ شيئاً فشيئاً كلَّ ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وتمامه، ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيتُ العباد في معاشهم وعبادتهم ومناسكهم، فبه تميزت الأشهر والسنين، وقام حساب العالم، مع ما في ذلك من الحكم والآيات والعبر التي لا يحصيها إلا الله.
وبالجملة فما من كوكب من الكواكب إلا وللرب -تبارك وتعالى- في خلقه حكم كثيرة في مقداره، ثم في شكله ولونه، (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [لقمان: 10، 11].
وهذا مخلوق من خلق الله لفت الله الأنظار إلى التفكر في شأنه فقال -سبحانه-: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية: 17], هذا الجمل ركبه الله تركيباً عجيباً, فجعل في عينيه في الجفن الأعلى وفي الجفن الأسفل من الشعر الكثيف ما يمنع وصول الرمال إلى عينيه، وجعل الله -عز وجل- في أذنه شعراً كثيفاً يمنع دخول الرمال إلى داخل الأذن، كما جعل له الله -عز وجل- شفة مشقوقة، وذلك أن الجمل حينما يسير في وقت الحر وفي وقت الريح، فإنه يستطيع أن يسُدَّ أنفَه بهذه الشفة المشقوقة، فهو يتفادى بذلك دخول الأتربة التي تثيرها الريح بأنفه، ويتفادى أيضا بذلك أيضاً ما قد يسببه دخول الريح إلى جوفه من تنشيف الرطوبة وإحداث اليُبس والعطش له.
وجعل الله -عز وجل- لهذا الجمل سناماً، وجعل لبعض الجمال سنامين، فهذا السنام يكون كالمخزن للغذاء، فيجتمع فيه الدهنُ والشحمُ, فيستطيع الجملُ أن يبقى مدةً طويلة لا يأكل ولا يشرب، يستطيع الجمل أن يستمر خمسة عشر يوماً لا يشرب.
وأيضا فقد جعل الله -عز وجل- لهذا الجمل قوائمَ طويلة بحيث إنه يستطيع أن يسرع وأن يقطع المسافات، وجعل ذلك متناسباً مع جسمه، فهو مع ضخامته إلا أنه يتحرك بكل خفة، ومعلوم أن الرِّجل إذا طالت كان ذلك أسرع في المشي، فجعل الله -عز وجل- قوائم هذا الجمل طويلة، وجعل في أسفلها هذا الخف الذي هو ليِّن الملمس من أسفله، وذلك في هيئة مفلطحة عريضة بحيث أنه يستطيع أن يطأ على الرمال دون أن يغوص فيها مع ضخامة بدنه ومع ثقل وزنه. فلماذا ركّبه الله -عز وجل- هذا التركيب وصنعه بهذه الطريقة العجيبة البديعة، كل ذلك عن علم وحكمة فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأما إذا نظرنا في الأحوال الداخلية في هذا الجمل فإننا نجد عجباً قد حير العلماء، ففي جسم الجمل تركيبات لم يصل العلماء إلى سرها حتى الآن، لكنهم عرفوا بعض عملها وبعض أثرها، وهذه التركيبات تعمل على خفض درجة حرارة الجمل، فكلما اشتدت الحرارة وارتفعت برُد داخل الجمل، فلا هو يعرق ولا يبول فيفقدَ الماء.
كما أن الجمل يتجنب فقدان الماء عن طريق التنفس وذلك بالمحافظة على كمية بخار الماء الموجود بهواء الزفير بما خلق الله له من الأغشية المخاطية الأنفية والمتصفة بقابليتها لامتصاص الماء الذي يكون في هذا الهواء الخارج من جوف الجمل في عملية التنفس، فهو لا يخسر شيئاً من السوائل البتة، حيث إن هذا الهواء حينما يخرج من جوفه فإن الله -عز وجل- قد ركب في هذا الجمل أشياء تمتص الرطوبة التي تكون في هذا الهواء، فهو لا يتعب مع التنفس ولا يعطش في عملية التنفس الطبيعية.
ويستطيع الجمل أن يفقد قريباً من ثلث السوائل التي في جسده، أو يستطيع أن يفقد من السوائل مقدار ثلث الوزن الذي يزنه هذا الجمل، ومن يستطيع ذلك سوى الجمل، فإذا كان وزن الجمل مثلاً ثلاثمائة كيلو فإنه يستطيع أن يفقد من السوائل ما مقدار مائة كيلو من غير أن يتضرر، ويستطيع أن يعوض هذه السوائل في مدة عشر دقائق، فهو يستطيع أن يشرب في هذه المدة مائة لتر من الماء، ثم هو أيضاً يحتاج إلى ساعتين لتصل هذه السوائل إلى جميع أجزاء الجسد وخلاياه.
وأما هذا الوبر الذي يتوهم الإنسان لأول وهلة أنه لربما كان سببا لعنائه في وقت الحر، وأنه سببا لتكالب الحرارة على جسم الجمل وبالتالي زيادة العرق، فإن ذلك على خلاف ما نتوهمه، فهذا الوبر له دور كبير في الموازنة بين حرارة الجوِّ وبين حرارة الجسد، فهو يجعل جسد الجمل على حد من الحرارة لا يحتاج معه إلى فقد مزيد من السوائل عبر الغدد العرقية الموجودة على سطح جلده، وكلما ازدادت كثافة الوبر على جسم الجمل كانت عملية العزل أكبر وأعلى.
أما كيف يحول الجمل الغذاء المدخر إلى دهون ثم يرفعها من أمعائه إلى سنامه ليكون مخزناً له، فهذا شيء حير العلماء ولا يعرفون له جواباً إلى هذه الساعة!.
فوجود هذا الخلق العظيم المحيط بنا من كل ناحية، دليل أكيد على قدرة الله -تبارك وتعالى- وعلى عظمته وعلى كماله، والإنسان في كثير من الأحيان يبقى عاجزاً منكسراً أمام هذا الخلق؛ فيبهره ولا يستطيع أن يتعرف على كثير مما يحيط به, فضلاً على أن يصل إلى الإحاطة به من كل جانب، أو إلى الإحاطة في المخلوقات البعيدة عنه التي لا يشاهدها.
وأما إذا ذكرنا ما هو أعظمُ وأشمل من ذلك فاذكر الأرض التي أكثر تعالى من ذكرها في كتابه، ودعا عباده إلى النظر إليها والتفكر في خلقها, فقال تعالى: (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ) [الذاريات: 48], (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا) [غافر: 64], (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا) [البقرة: 22], (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية: 17 - 20] (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الجاثية: 3، 4].
فانظر إليها وهي ميتة هامدة خاشعة، (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ) [الحج: 5], فتحركت (وَرَبَتْ) فارتفعت واخضرت (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5] فأخرجت عجائب النبات في المنظر والمخبر، بهيجٌ للناظرين، كريمٌ للمتناولين؛ فأخرجت الأقوات على اختلافها وتباين مقاديرها وأشكالها وألوانها ومنافعها، والفواكه والثمار وأنواع الأدوية، ومراعي الدواب والطير.
ثم انظر قطعها المتجاورات وكيف يُنزل عليها ماءً واحداً, فتنبت الأزواجُ المختلفةُ المتباينة في اللون والشكل والرائحة والطعم والمنفعة، واللقاحُ واحد، والأم واحدة، كما قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد: 4], فكيف كانت هذه الأجنة المختلفة مودعة في بطن هذه الأم؟، وكيف كان حملها من لقاح واحدٍ (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88] لا إله إلا هو، ولولا أن هذا من أعظم آياته لما نبه عليه عباده وهداهم إلى التفكير فيه.
قال الله تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [الحج: 5، 7], فجعل النظر في هذه الآية وما قبلها من خلق الجنين دليلاً على هذه النتائج الخمس مستلزماً للعلم بها.
ثم انظر كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب, وكيف نصبها فأحسن نصبها, وكيف رفعها وجعلها أصلب أجزاء الأرض؛ لئلا تضمحل على تطاول السنين وترادف الأمطار والرياح، بل أتقن صنعها، وأحكم وضعها وأودعها من المنافع والمعادن والعيون ما أودعها، ثم هدى الناس إلى استخراج تلك المعادن منها, وألهمهم كيف يصنعون منها النقود والحلي والزينة واللباس والسلاح وآلة المعاش على اختلافها, ولولا هدايته -سبحانه- لهم إلى ذلك لما كان لهم علم شيء منه ولا قدرة عليه.
ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحس اللمس عند هبوبه, يدرك جسمه ولا يرى شخصه, فهو يجرى بين السماء والأرض, والطير مختلفة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء, وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر, فإذا شاء -سبحانه وتعالى- حرَّكه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة, وبشرى بين يدي رحمته, ولقاحاً للسحاب يلقحه بحمل الماء, كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل, وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيماً وأودعه عذاباً أليماً, وجعله نقمة على من يشاء من عباده, فيجعله صرصراً ونحساً وعاتياً ومفسداً لما يمر عليه.
ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والأرض كيف ينشئه -سبحانه- بالرياح فتثيره كسفاً، ثم يؤلف بينه ويضم بعضه إلى بعض, ثم تلقحه الريح وهي التي سماها -سبحانه- لواقح، ثم يسوقه على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه، فإذا علاها واستوى عليها أهرق ماءه عليها, فيرسل -سبحانه- عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته، حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه انقلع عنها وفارقها، فهي روايا الأرض محمولةٌ على ظهور الرياح كما ورد في بعض الأحاديث.
فالسحاب حامل رزق العباد وغيرهم التي عليها ميرتهم, وكان الحسن إذا رأى السحاب قال: "في هذا والله رزقكم ولكنكم تحرموه بخطاياكم وذنوبكم"، وفي الصحيح عن النبي قال: "بينا رجل بفلاة من الأرض إذ سمع صوتاً في سحابة "اسق حديقة فلان" فمر الرجل مع السحابة حتى أتت على حديقة, فلما توسطتها أفرغت فيها ماءها، فإذا برجل معه مسحاة يسحي الماء بها، فقال: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: فلان للاسم الذي سمعه في السحابة"، وكان ذلك بسبب عمله الصالح.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
عباد الله: والمقصود من مثل هذا الأمر بالتفكر والتدبر في آثار خلق الله وبديع صنائعه الظاهرة: أن يُتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتتفتح للقلب أبواب السماء, حتى يجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يُفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن؛ فيَنظُر ببصيرته، وما علمَه من الشريعة سَعَتَهُ وعَظَمَتَهُ وجلالَه ومجدَه ورِفعَتَه، ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافِّين من حوله لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمرَ ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربُها ومليكُها؛ فينزلُ الأمرُ بإحياء قوم، وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإسعاد قوم وشقاوة آخرين، وإنشاء مُلك وسَلبِ مُلك، وتحويل نعمة من محل إلى محل.
وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها من: جبر كسر، وإغناءِ فقير، وشفاءِ مريض، وتفريجِ كربة، ومغفرةِ ذنب، وكشفِ ضُر، ونصرِ مظلوم، وهدايةِ حيران، وتعليمِ جاهل، وردِ آبق، وأمانِ خائف، وإجارةِ مستجير، ومددٍ لضعيف، وإغاثةٍ لملهوف، وإعانةٍ لعاجز، وانتقامٍ من ظالم، وكفٍ لعدوان فهي مراسيمُ دائرةٌ بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة تنفُذُ في أقطار العوالم، لا يشغله سمعُ شيء منها عن سمع غيره، ولا تُغلِّطُه كثرةُ المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرَّمُ بإلحاح الملحين، ولا تنقُصُ ذرةٌ من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، -سبحانه- وبحمده (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].
فحينئذ حين يحيى القلب بالتأمل في عظمة ملكوت الخالق، وحين يعود بالآيات الكونية إلى الآيات الشرعية حينئذٍ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيبته، خاشعاً لعظمته، عانٍ لعزته؛ فيسجدَ بين يدي الملك الحق المبين سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد.
فهذا سَفَرُ القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه, وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه, فياله من سفر ما أبركه وأروحه وأعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته, سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمته العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب.