الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | زيد بن مسفر البحري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
لكن أهل النفاق لا يمكن أن يدعوا أهل الخير على حال، فإنهم لمزوا بمن يُنفق كثيرا فقالوا إنه مُراءٍ، ولمزوا بمن أنفق قليلا فقالوا إن الله -عز وجل- لغني عن صاع هذا، فقال -عز وجل- (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ)، هؤلاء صنف الأثرياء الذين أنفقوا كثيرا، كعثمان -رضي الله عنه-.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا عباد الله: نتحدث في هذه الخطبة عن آخر الأحداث التي جرت في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
بعدما انتهت غزوة حنين والطائف أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يوطِّن حكمه وأن يؤمِّن حدوده من الجهة الشمالية الغربية من المدينة، وذلك تجاه الشام، في منطقة تبوك، فحث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على النفير، وقد أوضحت سورة (براءة) التي هي (سورة التوبة)، وضَّحت هذه السورة تفاصيل هذه الغزوة، وبيَّنت خبث المنافقين... في العهد النبوي، وهذا يعطينا دلالة بأن المجتمع الإسلامي قد لا يخلو من أهل النفاق، فعلى أهل الخير أن يحذروا من أقلامهم ومن كتاباتهم ومن ألفاظهم.
قال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) [التوبة:38]، وأمر الله -جل وعلا- أن يخرج الجميع كلٌ على قدر طاقته: (انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [التوبة:41]، فوضَّح النبي -صلى الله عليه وسلم- المقصد الذي يريده، وما كان -عليه الصلاة والسلام- إذا أراد غزوة إلا ورَّى بها حتى لا يتنبه إليه العدو، ما عدا غزوة تبوك، فإن هذه الغزوة وضَّح فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- القوم الذين يريدهم، لم؟ لأن هذه الغزوة وقعت في وقت طابت فيه الثمار، واشتد فيه الحر؛ ولأن العدو عدو معروف ذو قوة وعتاد.
فحث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على الإنفاق، فكلٌّ أنفق على حسب وسعه وطاقته، حتى إن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنفق في غزوة تبوك... [في تجهيز] جيش العسرة، أنفق فيه معظم تكاليف هذه الغزوة، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صب عثمان في حجره -عليه الصلاة والسلام- ألف دينار، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم!".
وقد بادر عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر وعمر وغيرهم من الصحابة -رضي الله عنهم-، حتى إن الفقراء لم يمتنعوا من تقديم ما يستطيعون، فكان أحدهم يقدم صاعا من تمر، والآخر يقدم نصف صاع من التمر.
لكن أهل النفاق لا يمكن أن يدعوا أهل الخير على حال، فإنهم لمزوا بمن يُنفق كثيرا فقالوا إنه مُراءٍ، ولمزوا بمن أنفق قليلا فقالوا إن الله -عز وجل- لغني عن صاع هذا، فقال -عز وجل- (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ)، هؤلاء صنف الأثرياء الذين أنفقوا كثيرا، كعثمان -رضي الله عنه-.
ثم يأتي الصنف الآخر، وهم صنف الفقراء: (وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ)، هذا جهدهم، نصف صاع أو صاع، (وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة:79].
حتى إن أهل النفاق وقد ظهرت رائحته ومعالمه في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهرت رائحته، فكان بعضهم يثبط بعضا في الخروج: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81].
حتى إن الجِد بن قيس، وهو رجل من أهل النفاق، لما حثه وأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخروج، فقال: يا رسول الله، إنك تعلم أنه لا طاقة لي بالنساء، وإني لا أطيق أن أرى بنات بني الأصفر، وهم الروم، ائذن لي، فقال -تعالى-: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة:49].
ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- أن هذه الغزوة لو كانت قريبة لبادروا بالذهاب إليها حتى يتحصلوا على الغنائم: (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) [التوبة:42].
فاعتذر من اعتذر، وتخلف كثير من أهل النفاق، حتى إن بعض الصحابة، وهم عدد قليل من أصحاب الأعذار، تخلفوا، فعذرهم الله -سبحانه وتعالى-.
لكن؛ هناك ثلاثة تخلفوا في هذه الغزوة، وليس لديهم عذر، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع؛ وظن من تخلَّف أن هذا العدد كبير ولا يمكن أن يكون هناك اطلاع للنبي -صلى الله عليه وسلم- على من تخلَّف وعلى مَنْ حضر، فانطلق النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلمز المنافقون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعلي -رضي الله عنه-، فقالوا: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما خلَّف عليا في المدينة -لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يأذن له أن يذهب معه، وإنما رغب -عليه الصلاة والسلام- أن يبقى علي حتى يكون على أهله وعلى أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلمز المنافقون به- فقالوا ما تركه إلا استثقالا له، فخرج علي -رضي الله عنه- وأخبره بما قاله المنافقون، فبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- ادعاء وكذب هؤلاء المنافقين، وقال له: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي".
فانطلق -عليه الصلاة والسلام-، وكان عدد المسلمين آنذاك ثلاثين أو أكثر من ثلاثين ألف مقاتل، وفي أثناء الطريق خرجت بعض الطوائف من هؤلاء المنافقين؛ ولذلك بعض العلماء يسمي هذه السورة، وهي سورة (التوبة) أو (براءة) يسمونها بـ (الفاضحة)؛ لأنها فضحت المنافقين، حتى كادت أن تصرح بأسمائهم! (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي)، (وَمِنْهُم)... (وَمِنْهُم)...، إلى غير ذلك مما ذُكر في هذه السورة، فإذا أردت أن تكون على اطلاع واسع بما جرى في هذه الغزوة، وهي غزوة تبوك، وما حصل من المنافقين تجاه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاقرأ هذه السورة بتمعن وتدبر.
فلما كانوا في أثناء الطريق قال بعضهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء! يعنون بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم-، قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء! فاطلع النبي -صلى الله عليه وسلم- على حالهم، فنزل قوله -تعالى-: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)، فلما جاءوا معتذرين، ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتفت إليهم، وإنما كان يقول: (أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)؟ يعني: ما وجدتم أحدا تتحدثون وتتسامرون فيه إلا الله -عز وجل- وآياته ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ (أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:65-66].
فلما وصل -عليه الصلاة والسلام- إلى منطقة تبوك، مكث فيها عشرين ليلة، ولم يلق كيدا، لا من الروم ولا من القبائل الأخرى التي كانت منضمة تحت لواء الروم، حتى إن بعض تلك القبائل قد خضعت للنبي -صلى الله عليه وسلم- واستسلمت ودفعت الجزية.
فلما وطَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الحدود رجع، وفي رجوعه مر بديار ثمود، بديار قوم صالح -عليه السلام-، فلما وصلها دخل بعض الصحابة في هذه الديار، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسرع وقال: "أتدخلون على هؤلاء المعذبين، إن الله لا يعبأ بعذابكم أن يصيبكم مثل ما أصابهم".
وهذا يعطينا إشارة إلى أن ما يُفعل في هذا العصر من تنظيمات وترتيبات لزيارة تلك الأماكن التي وقع فيها عذاب الله -سبحانه وتعالى-، كلها تنظيمات غير شرعية، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذَّر منها، ولذا قال للصحابة: "لا تدخلوها إلا أن تكونوا باكين"، أما من يدخلها الآن ويشد إليها الرحال، إنما يدخلها للفرجة، ولكن المسلم يجب عليه أن يُحضر عقله وقلبه حينما يرى آثار عذاب الله وغضبه على قوم، أن يتعظ وأن يحذر مما وقع فيه هؤلاء القوم، حتى لا يصيبه مثل ما أصابهم.
فارتحل النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعا، فوصل المدينة، وكان من سنته -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا أتى من سفر أول ما يبدأ به المسجد فيصلي ركعتين، ثم لما صلى الركعتين، أتاه المخلفون، فعذرهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله -سبحانه وتعالى-.
أما بالنسبة لأولئك الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع؛ لما صدقوا الله، أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يمتحنهم، لما صدقوا الله -سبحانه وتعالى- وقصتهم معروفة، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا يُكلَّموا، حتى قال -تعالى-: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118].
ما الذي بعدها؟ أمْر لنا أن نصدُق، ولو كان ذلك الصدق في أعظم وأحلك الظروف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119]، فإن هؤلاء لما صدقوا الله سطَّر الله -عز وجل- لهم ثناءً في كتابه إلى قيام الساعة.
ثم لما انتهت هذه السنة، وهي السنة الثامنة من الهجرة، وعلمت القبائل أنه لا طاقة لها بقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أتت في العام التاسع، ولذا يسمى العام التاسع بعام الوفود، لأنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مائة وفد يخضعون له ولشرعه -عليه الصلاة والسلام-، ولذا سمي بعام الوفود.
وفي هذه السنة، السنة التاسعة من الهجرة، أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- وفدا مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- ليحج تلك السنة، فلما سار أبو بكر -رضي الله عنه- نزلت سورة براءة، ونزل صدرها، يعني أوائلها، وكانت تتحدث عن فصل حاسم بين الوثنية والإسلام، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن ينطلق إلى أبي بكر وأن يشيع ويذيع علي في تلك السنة في تلك الحجة، أن يذيع ما أنزله الله -سبحانه وتعالى- في صدر براءة: (بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة:1]، إلى آخر ما ذكر -سبحانه وتعالى- في صدر هذه السورة.
ثم كان من بين تلك الوصايا أنه لا يطوف بالبيت عريان، وألا يحج بعد هذا العام مشرك، حتى يتسنى للنبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة من الهجرة أن يحج، وتكون تلك المشاعر خالية من معالم ومظاهر الشرك؛ ولذا، لما أتى وفد ثقيف، بعد أن علمت ثقيف أنها لا طاقة لها بقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أتت في العام التاسع خاضعة، لكنها اشترطت على النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطا، فقالوا: لتبق لنا الطاغية اللات، وهو صنم يعبدونه، لتبقيه لنا بعض الوقت، فرفض النبي -صلى الله عليه وسلم-، لم؟ لأنه لا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك أبدا، وهذا يعطينا دلالة واضحة على أن بلاد المسلمين يجب أن تخلو من الشرك، وأن تطهر من معالم ومظاهر الشرك، فحج النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة، وتعلمون حجته -عليه الصلاة والسلام-.
ثم لما رجع بقي شهر محرم وصفر من السنة الحادية عشرة، وأراد أن يبعث بعثا إلى فلسطين في بلاد الشام بقيادة أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، وكان عمره ثمانية عشر عاما، فكأن بعض الصحابة لم يوافقه هذا الأمر، فناقشوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكنه رفض، وبيَّن أنه لخليق بالأمارة.
لكن هذا الجيش لما جمع قواه في يومين، مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يتمكن من الخروج، فاستمر مرض النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة أيام في شهر ربيع الأول، ثم توفاه الله -سبحانه وتعالى-، ولحق بالرفيق الأعلى.
ولم يخرج بعث أسامة إلا في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، حتى إن أبا بكر أصرَّ وألح أن يخرج هذا الجيش بقيادة أسامة تنفيذا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وفي وفاته -عليه الصلاة والسلام- رثاه كثير من الصحابة، كحسان وغيره من شعراء المسلمين رثاءً عظيما لا يتسع هذا المقام لذكر شيء من ذلك، فهذه خلاصة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وإن كنت قد تحدثت فيما مضى من جُمَع عن بعض مواقفه وعن بعض غزواته -عليه الصلاة والسلام- حتى تكتمل هذه الصورة، وحتى يقف الجميع على سُنَّة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، هذه السنة التي تركها كثير من الناس -وللأسف- في هذا الزمن! ظنا منهم في بعض ما يفعلون أنهم يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وظنا من آخرين أنهم لا قدرة لهم على تطبيق سنته -عليه الصلاة والسلام-.
ولكن حديثي في هذه الوقفة مع أشخاص يظنون -بل ويزعمون- أنهم يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذلك بالاحتفال بمولده -عليه الصلاة والسلام-، فإن المولد النبوي قد احتُفل به في منتصف هذا الأسبوع الجاري من بعض الناس وفي بعض البلدان الإسلامية، وأخشى أن يتسرب إلينا في بلادنا، أخشى أن تتفشى هذه البدعة.
النبي -صلى الله عليه وسلم- تكمن محبته في طاعته، في العرف وفي العقل وفي الشرع إذا أحببت شخصا أحببت متابعته، ولم تأت بما يخالفه، محبة الشخص أن تتبعه وتتبع آثاره، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أحيا مولده في حياته ولا أمر بذلك، فالصحابة -رضي الله عنهم- أحرصُ منا على هذا الأمر وعلى فعل الخير، ولو كان فيه خير لسبقونا إليه، فدل على أن هذا من البدع، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الصحيحين: "مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"؛ ولذا نزلت آية تبين أن الشرع قد اكتمل، نزلت متى؟ في السنة العاشرة من الهجرة في حجته -عليه الصلاة والسلام- في يوم عرفة الذي اجتمع فيه جميع وعموم الناس: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ) [المائدة:3]، فقد اكتمل الدين، ولا حاجة لنا بهذه الاحتفالات التي تنقص إيمان العبد.
ولذا؛ نرى أن بعض هؤلاء توسَّع في هذا الأمر إلى أن دفعه إلى أن يستغيث بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن يدعوه، وأن يتضرع إليه، مع أنه لا يملك نفعا ولا ضرا، صلوات ربي وسلامه عليه، إضافة إلى ما يحصل من الاختلاط الذي يكون في هذه الاحتفالات، بل إن البدعة لا تستقر في مجتمع إلا وينزع منهم نظيرها من السنة، وما فعل عبد بدعة إلا نقص الخير في قلبه؛ ولذا نرى بعض هؤلاء المحتفلين إذا انتهى هذا الاحتفال نجد أن عنده نكوصا وإعراضا عن طاعة الله -سبحانه وتعالى-.
فواجب على الأمة أن تحذر من البدع، وأن تحافظ على توحيدها وعلى معتقدها السليم، فإن الأساس والأصل هو التوحيد، متى ما انهار التوحيد في بلاد المسلمين فقل عليها السلام، لا تسأل عن تلك المصائب والبلايا والمعضلات التي يمكن أن تحيط بها.
فنسأل الله -جل وعلا- أن يطهر بلاد المسلمين من الشرك ومن معالمه، ومن البدع، ما ظهر منها وما بطن.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، تعلمون ما جرى يوم الثلاثاء من حصول هذه الرياح التي غيَّرت أجواءنا وأحوالنا، حتى انقلب لون الجو من اللون الطبيعي إلى اللون البرتقالي، فجأة من غير نذير ولا استعداد، هذه الريح هي نذير من الله -سبحانه وتعالى-.
ونحن، في السنوات الأخيرة، إن كان هناك عقول تعقل، نحن في هذه السنوات الأخيرة نلحظ أن هناك تقلبات ليست في الأجواء فقط، القحط والجدب عمَّ البلاد من سنتين أو أكثر، الأتربة والغبرة التي تأتي أحيانا وأحيانا لم نعهدها من قبل، هذه الريح التي هبت يوم الثلاثاء لم تأت لهذا البلد منذ عشرين سنة كما ذُكر في الأحوال الجوية، بل إن بعض كبار السن يقول: لم ندرك هذه الريح ولم تأت علينا في يوم من الأيام في هذه البلاد!.
هذه تقلبات تنذر بماذا؟ تنذر بخطر عظيم، لا تركن إلى من يقول إن هذه أسبابا كونية، هذا ضعف في المعتقد، لم يُغفل عن الأسباب الشرعية؟! لم لا ينظر الإنسان إلى مثل هذه النذر إلى أنها تخويف من الله -سبحانه وتعالى- حتى نعود إليه بسبب ما اقترفنا؟ (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات:41-42].
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا عصفت الريح أقبل وأدبر ولم يستقر له حال، وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال الله فيه: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) [الأنفال:33]، ومع ذلك كان يخشى -عليه الصلاة والسلام-، فتسأله عائشة -رضي الله عنها- عن خوفه وعن وجله؛ فيقول: "وما يؤمنني أن يكون عذابا من الله؟".
لم نأمن؟! لعل هذه نذرا من الله -سبحانه وتعالى- لنا نحن، نحن غيّرنا -وللأسف- وبدلنا! ضيعنا كثيرا من الواجبات. غلاء الأسعار، أليس هذا نذيرا؟ بلى والله! غلاء الأسعار... كان يتوقع أن تنخفض الأسعار قبل ستة أشهر، مازالت على ما هي عليه، أليست هذه نذرا؟ بلى والله! خلوّ أيدي كثير من الناس من السيولة المالية، مع أنهم كانوا يملكون شيئا كثيرا، أليست هذه نذرا؟ بلى والله إنها لنذر! (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).
ألم تضيع الصلوات؟ أين الناس من هذه الصلاة؟ ولاسيما صلاة الفجر التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى الفجر في جماعة فهو ذمة الله"، يعني في حفظ الله، إذا صليت الفجر فأنت في ذمة الله، فما ظنك بشخص يضع المنبه على وقت الدوام ويدع صلاة الفجر، وإن صلى، صلى إذا استيقظ؟! أهذا في ذمة الله؟ أهذا في حفظ الله؟.
ألم يُدع في عصرنا في مثل هذه الأيام إلى أن تكون هناك (سينما)؟ ومن العجب أن يقال: تضبط بالضوابط الشرعية! سبحان الله! أين الضوابط الشرعية من هذه السينما التي لا تمت إلى الإسلام ولا إلى الضوابط الشرعية بشيء من الأشياء؟ كيف تضبط بالضوابط الشرعية؟!.
أيراد من المجتمع أن يتحلل؟ تفسّخ في الأخلاق، ضياع للحياء، انظروا إلى ما يحصل من اختلاط في بعض المواطن التي هي مصدر العلم، التي هي محضن العلم، في معارض الكتاب، التي كان من الواجب أن يكون الإنسان [فيها] محافظا على أقل الأحوال...
فاتقوا الله عباد الله، عودوا إلى الله حتى يعود إليكم الرخاء، وأنتم تعرفون وتدركون وتشاهدون وتسمعون أكثر مني ما يكون في وسائل الإعلام، تكاد أن تدق طبول الحرب من حولنا، وأنتم تدركون ذلك، تلك المناورات اللفظية التي تصدر من حولنا، أليست هذه نذرا؟ بلى والله إنها لنذر! توبوا إلى الله، عودوا إلى الله، ونحن ما زلنا في أمننا وفي رخائنا، وما زلنا بخير، لسنا بفقراء، لكن حالة الناس تغيرت، المادة تغيرت، حتى إن كثيرا من الناس، وأنا ملاصق لما يجري من الاتصالات التي ترد إلي، كثير من الناس أصيب بقلق وبهم وبأتعاب نفسية، لم؟ كل هذا من الدنيا، كل هذا من الإعراض عن ذكر الله -عز وجل-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) [طه:124]، بخلاف من عمل صالحا: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، قال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل:112]، ما ظلمهم الله -سبحانه وتعالى-، فلنعد إلى الله حتى يعود إلينا رخاؤنا وحتى يعود إلينا معاشنا وأمننا واستقرارنا، حتى الاستقرار النفسي.
أنا أعجب لأننا في بلاد المسلمين نرى أن هناك أعدادا كثيرا قد أصيبت بأمراض نفسية، بل إن البعض ليس به عين وليس به سحر وليس به مس من الجن، إنما به الهم والقلق والاضطراب النفسي،لم؟ لأنه معرض عن طاعة الله -سبحانه وتعالى-، فلنتب إلى الله حتى نفلح، حتى يحصل لنا المطلوب ويزول عنا المكروب (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) ما الأثر؟ (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
وإني على يقين من أن ما يجري إنما هي نذر من الله -سبحانه وتعالى-، حتى هرع مئات -بل آلاف- الأشخاص إلى المستشفيات لأخذ الهواء الاصطناعي مما أصابهم من الأمراض في صدورهم، هذا عذاب من الله -سبحانه وتعالى-، لا نحب أن نكون كالمنافقين الذين تمر عليهم الآيات والمعضلات والبلايا في كل لحظة ثم لا يتعظون، نعم تمر بنا: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة:126].
طريق السعادة واضح وطريق الشقاء واضح، والله لا أحد يجهل طريق الخير وطريق الشر، إن أردتم أن تكونوا على خير وفي أمن ورخاء فعليكم بدين الله ولا سيما التوحيد الذي يراد له الإضعاف في هذه السنوات وفي هذه الأزمان.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يردنا إليه ردا جميلا.