الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أسمح الناس نفساً هم المتوكلون؛ لأن يقينهم أن المقدّر سيكون، وأطيبُ الناس عيشاً هم المتوكلون؛ لأن اعتقادهم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يكيدوهم بسوء ما قدروا إلا بأمرٍ أراده الله. وحين يُذكر التوكل تتجلى تلكم الصور الرائعة، والسِيَرُ الناصعة، لأقوام توكلوا على ربهم، فسلّم الله أمرهم، ومن كان الله معه حماه ونصره، تأمل في...
الخطبة الأولى:
كل إنسان يريد أن يكون قوياً.
الكثير من الناس يدّعي القوة، والكثير من الدول تدعي القوة أيضاً، لكنني أحدثكم اليوم عن أقوى الناس، ليس هذا الرجل القوي الذي أحدثكم عنه ذا خلقة كبيرة، وبطش شديد، كلا، وقد لا يملك جيوشاً جرارة، ولا أسلحة بتّارة، لكنه أقوى الناس! إنه فردّ، لكنه أقوى الناس.
أقوى الناس -يا موفق- هو أنت، نعم، هو أنت، إذا توكلت على القوي -سبحانه وتعالى-، في الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".
فما هو التوكل؟ ومن هو المتوكل؟ وما خبر المتوكلين؟
أما التوكل، فهو الالتجاء إلى الله في جلب النفع، ودفع الضر، ويكون ذلك، مع فعل الأسباب.
التوكل كلمة، كلٌّ يدّعيها، ويزعم وصلاً بها، وعند المحكّات يبيتن أن المتوكلين حقاً هم أقلّ الناس، سترى من الناس من لا يعتمد على ربه، بل يكون اعتماده على جهده وبذله، أو على عبدٍ من خلقه، ففي الرزق قلبه معلق بالمخلوق، وفي الشفاء القلب متعلق بالطبيب وبالدواء، وفي الامتحان قلبه متعلق باجتهاده، وبما وهب من الذكاء.
وما العقل، وما الدواء، وما الطبيب، وما الخلق إلا من الله، فمن الذي سخر، ودبر هؤلاء.
وبضد هؤلاء، قومٌ ظنوا أنهم متوكلون، فزادوا الكيل، فصاروا متآكلين، يعتمد أحدهم على الله، ولا يفعل الأسباب، وقد أحسن وقد أساء، أحسن إذ علق القلب بالله، لكن التوكل لا بد معه من فعل الأسباب، ولو كان الأمر كذلك إذن لترك النبيُ -صلى الله عليه وسلم- فعل الأسباب، وما تداوى وما تزوج، ولا باع ولا اشترى، بل ولا تحرك ولا دعا، ولمكث في بيته، لتُساقَ إليه الأمور؛ لأنه متوكل على الله، وقد جاء أهل اليمن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدون زاد، وحين قيل: أين زادكم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فنزل قول الله في شأنهم: (وَتَزَوَّدُواْ) [البقرة: 197].
ومرّ عمر -رضي الله عنهما- بقوم، فقال: من أنتم؟ قالوا: المتوكلون، فقال: "أنتم المتأكلون، إنما المتوكل رجلٌ ألقى حبة في بطن الأرض، وتوكل على ربه".
وبين هذين الطرفين وسط محمود، هو العملة النادرة، والرقم الصعب، والموفق الحق، وهو من اعتمد على ربه بقلبه، وفعل الأسباب بجوارحه، ولم يركن إليها، بل كان ركونه إلى المدبر وهو الله، يمثّلُ ذلك ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لمن أتى إليه ومعه ناقته، وقال: يا رسول الله أعقلها وأتوكل ، أم أطلقها وأتوكل ؟ قال: "اعقلها وتوكل".
ومرّ الشعبيّ -رحمه الله-: بإبل قد فشا فيها الجرب، فقال لصاحبها: أما تداوي إبلك؟ فقال: إن لنا عجوز نتكل على دعائها، فقال: اجعل مع دعائها شيئا من القطران -وهو داء للجرب-.
التوكل -معشر الكرام- نصفُ الدين، بل قال سعيد بن جبير: "التوكل على الله جماع الإيمان".
التوكل قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محوِّل الأحوال، ومقدِّر الأقدار.
التوكل صدقٌ وإيمانٌ، وسكينةٌ واطمئنان، فهل حققنا التوكل في قلوبنا؟
أسمح الناس نفساً هم المتوكلون؛ لأن يقينهم أن المقدّر سيكون، وأطيبُ الناس عيشاً هم المتوكلون؛ لأن اعتقادهم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يكيدوهم بسوء ما قدروا إلا بأمرٍ أراده الله.
وحين يُذكر التوكل تتجلى تلكم الصور الرائعة، والسِيَرُ الناصعة، لأقوام توكلوا على ربهم، فسلّم الله أمرهم، ومن كان الله معه حماه ونصره، تأمل في شأن موسى -عليه السلام-: حين جاءه فرعون وقومه، ووقف موسى أمام بحر متلاطم، ومِنْ خلفه فرعونُ وجنوده، فيُعلِنُ القوم: يا (مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61] فيقول بتوكل المؤمن: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].
فتحصل المعجزة، ويسيرون على البحر بطريق يبس لا يرون فيه قطرة ماء.
وليس خبر محمد -صلى الله عليه وسلم- عنك بخافٍ، إذ أتاه القوم، واستقرت أقدامهم على مقربة من غاره، فيقول الصديق مقالته، فيقول صلى الله عليه وسلم في توكل يهز الجبال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
ومِن قبل ذلك إبراهيم -عليه السلام- حين استقر به الأمر في النار، قال: "حسبي الله ونعم الوكيل".
فحول الله النار الحارقة إلى برد وسلام.
أيها المبارك: إن الذي يدعوك للتوكل: علمك أن الأمور تدبر في السماء، والأسباب لا تتجاوز كونَها أسباباً، والمسبب هو الله، فإذا وصلت قوافل القضاء، فاستقبلها بالتّوكّل، واذكر قول الله: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : 51].
وإذا نصب الأعداء حبال المكر، فادخل أنت في أرض التّوكّل، واذكر قول الله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ) [يونس: 71].
وإذا طلب المسلمون النصر، فليطلبوه من الله، وليتوكلوا عليه، وقد خاب من طلب النصر من غير ربه: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160].
وإذا خشيت بأس أعداء اللّه والشّيطان، فلا تلتجئ إلّا إلى باب اللّه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 99].
وإذا طلبت الرزق، فأيقن أن الرزق بيد الله، فاطلبه منه، وافعل السبب، ولا يجرنك ذلك إلى سلوك طريق محرم للكسب والرزق، واذكر قول الله: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ) [الذاريات: 22 – 23].
وإذا طلبت الشفاء، فافعل السبب، ولكن علق القلب بالله، فلن يقدر طبيب مهما بلغ حذقه، أو راقٍ مهما بلغ صلاحه، أن يرد عنك داءً إلا إن كتب الله ذلك.
ولو قرر الأطباء بأجمعهم: استحالة الشفاء، وأراد الله زوال الداء، فليس لأمره رادّ، ولا لقدره صادّ، واذكر قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله".
يوم أن تصل إلى هذا، فاعلم أن التوكل قد حط رحاله في قلبك، فهنيئاً لك كرامةَ الله، فالتوكل صفة الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، قال صلى الله عليه وسلم عن وصفهم: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون".
وبعدُ، فالمؤمن يفعل الأسباب، كما كان رسوله -صلى الله عليه وسلم- يصنع، فهو من أمر بإيكاء الأسقية، وإطفاء السرج، وإغلاق الأبواب، وهو من لبس الدرع حين قاتل، ويوسف عليه السلام - وفيه أسوة- قال لمن ظن خروجه من السجن: (اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) [يوسف: 42].
وفي كل هذا يتعلق العبد بربه، فيكون كالمزارع يلقي بذره ويدعو ربه أن يسلم زرعه.
وكالطير، متوكلة على ربها قائمة بالأسباب جَهْدها، فقال صلى الله عليه وسلم واصفاً حالها: "تغدو خماصاً -أي جائعة- وتروح بطاناً".
فلم تعلم أين رزقها، ولم تجلس في بيتها تنتظر رزقها، وكذا المؤمن الحق، فتوكل على الله في عبادتك، واعتمد عليه أن يعينك على طاعته، وترك عصيانه، وتوكل عليه في أمر دنياك وفي سائر أمورك، فأقوى الناس حقاً هم المتوكلون.
اللهم اجعلنا منهم، واملأ قلوبنا بالتوكل عليك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده ...
أما بعد:
في زمن الشدائد، وعند الملمات، تتفاوت توجهات الناس وتعلقاتهم، مِن الناس من يعلّق قلبه بقوته، ويُفاخِرُ بعَدَدِه وعُدده، وينسى الاعتماد على ربه، ويوشك هذا أن يُخذل، وهل أغنت قوة المسلمين في حنين عنهم شيئاً، حين قالوا: "لن نغلب اليوم من قلّة!": (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) [التوبة: 25].
في حين أنهم في بدرٍ كانوا فئة قليلة، رجّالةً على الأقدام، فنصرهم ذو الجلال والإكرام.
مِن الناس من قد يتعلق بالخلق أحياءً أو أمواتاً، ويذكر المؤرخون: أن التتار حين دخلوا ديار المسلمين كان منهم من يقول:
يا خائفين من التتر | لوذوا بقبر أبي عمر |
فما نفعهم قبر أبي عمر، وما ردّ عدواً، ولن ينفع التعلقُ بمخلوق، ولا التشدق بقوة، إنما ينفع التعلقُ بالقوي وكفى.
وطالع سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تجد كيف يلجأ في الملمات إلى رب البريات، في بدرٍ سقط ردائه من الدعاء، بل إن الجيوش كانت تتحرى يوم الجمعة كي تدرك دعواتِ المسلمين، فما بال البعضِ اليومَ نسي ربه، وأعجبته قوته، وكأن الأمور قد تُحسم بقوى البشر فقط!.
ولما صافَّ قتيبهُ بن مسلمٍ للترك، وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع، فقيل: "هو ذاك في الميمنة جامحٌ على قوسه، يبصبصُ بأصبعه نحوَ السماء" فقال: "تلك الأصبعُ أحبُّ إلَّي من مئة ألف سيف شهير، وشاب طرير".
وفي حروب عام "1924م" لمّا قاتل الإخوانُ الإنجليز، ووصلوا إلى عمّان، قيل لهم: لا تتقدموا؛ لأن الإنجليز عندهم طائرات تلقي قنابل من السماء، فقال قادتهم: هل هذه الطائرات فوق الله أم الله فوقها؟! قالوا: الله فوقها، قالوا: توكلنا على الله، فنصرهم الله بفعل السبب، والتوكل الصادق على الله.
معشر المؤمنين: وفي وقت الملمات يتوجه المؤمن لربه، ويُعلِّقُ الناسَ بالله كي تسمو هممهم، فقد كان حديثُ قادة المسلمين عند القتال ذكرُ الجنة، والترغيبُ بها، حتى لَترى المسلمين يتسابقون لنيلها، ويسترخصون الموت من أجلها.
أما أن تتسابق الإذاعات اليوم لنشر أغاني الوطنية، لبث روح الحماسة كما يُزعم، فإن ذلك مصيبة.
البلدُ من حوله أطماع، وكيدُ النصارى، واليهود والرافضة كبير، وسعيهم للقضاء على بلاد الإسلام واضح ما عاد يخفى، والناس اليومَ أحوج ما يكونون إلى تعليقٍ بربهم، وتوبةٍ صادقة من جميعهم، وتغيير ومراجعة.
فالشدائد إذا أطلّت لن يدفعها مغنٍ بأغانيه، إنما يدفعها بإذن الله مجاهدٌ صادقُ النية، قويُ العزم، راسخ القلب، صابرٌ مصابر، يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
وهذا المؤمل بتوفيق الله، فإذا توافر هذا، فاليقين أن الله ناصرٌ من ينصره، وأن جند الله هم الغالبون.
وبعد -يا مسلمون-: فكم نحتاج للتوكل على الله في كل أحوالنا، في عسرنا ويسرنا، وحربنا وسلمنا، وديننا ودنيانا.
فمن توكل على الله كفاه، ولو كادته قوى الأرض كلها، ومن تعلق به ما خذله.
فاللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، واملأ قلوبنا بالتوكل عليك.