التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | وليد بن سالم الشعبان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد |
قال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: الحسيبُ هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر، بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها. اهـ.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الرقيب الحسيب، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحصى الناس، وكتب الأنفاس، وهو العزيزُ الحميد.
وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله أفضلُ الخلق وأزكى العبيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحزبه إلى يوم الوعيد.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن من أسماء الله -تعالى-: "الحسيب"، قال -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء:86]، وقال -سبحانه-: (وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيبًا) [النساء:4].
والحسيب هو الكافي، الذي كفى عباده جميع ما أهمّهم من أمور دينهم ودنياهم، الميسر لهم كل ما يحتاجونه, الدافع عنهم كل ما يكرهون.
قال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: الحسيبُ هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر، بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها. اهـ.
وقال أيضاً: والحسيب بمعنى الرقيب الحاسب لعباده، المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى الكافي عبده همومه وغمومه. وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، أي: كافيه أمور دينه ودنيا. اهـ.
وقال -رحمه الله-: والحسيب -أيضاً- هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر، ويحاسبهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. اهـ.
وقال في موطن آخر: "(إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)، فيحفظ على العباد أعمالهم، حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود. اهـ.
وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64]، أي: كافيك وكافي أتباعك، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به في متابعة الرسول ظاهراً وباطناً، وقيامه بعبودية الله -تعالى-.
مما سبق من الأقوال يتحصل لنا في معنى (الحسيب) معنيان: الأول: بمعنى الكافي والحافظ. الثاني: بمعنى المحاسب.
عباد الله: إن كفاية الله لعباده عامة وخاصة، فالعامةُ في أنه -سبحانه- كفى جميع المخلوقات وقام بإيجادها وإمدادها وإعدادها لكل ما خلقت له؛ والخاصة فكفايته للمتوكلين، وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، أي: كافيه كل أموره الدينية والدنيوية، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا, فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي".
والعبد لا غنى له عن ربه وكونه له حافظاً وكافياً ومسددا وهاديا؛ ولذا شرع للمسلم في كل مرة يخرج من بيته أن يقول: "بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله"؛ ليكفى همه وحاجته. روى أبو داود والترمذي -وصححه الألباني لشواهده- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ". قَالَ: "يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ؛ فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِي وَوُقِيَ؟". أي: هديت إلى طريق الحق والصواب، وكفيت من كل هم ديني ودنيوي.
قال بعض السلف: جعل الله -تعالى- لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، ولم يقل : نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال الصالحة الأخرى، بل جعل نفسه -سبحانه- كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه.
ولا يكفي العبد كفاية الله له إذا بذل أسبابها، فإن الله بالغ أمره في الوقت الذي قدره له؛ ولذا قال: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3].
وفي مثل هذا المقام، أعني الاعتماد على الله بحق، كثيرا ما يتنازل بعض الناس عن مثل هذه المعاني الجليلة إلى تذلل للمخلوقين، وانكسار بين أيديهم، وسؤالهم، وتعلق قلبه بهم، وكأن الأمور بأيديهم، كل ذلك لينال بعض مآربه وحاجاته على حساب دينه ونيل رضا ربه -عز وجل-، فيخسر كفاية الله للمتوكلين. روى الترمذي، وصححه الألباني، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن التمس رضاء الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس".
عباد الله: ومما يحقق للعبد السلامة في هذا الباب أن لا يجعل الدنيا مبلغ علمه وأكبر همه، روى ابن ماجه، والحديث حسن: "مَن جعل الهموم هماً واحدا، هم المعاد، كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك".
ومن أسماء الله المشابهة: (الكفيل)... ومعنى الكفيل: القائم بأمور الخلائق، المتكفل بأقواتهم وأرزاقهم: (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) [النحل:91]. ومن صدَق مع الله بذلك ورضي به -سبحانه- كفيلا؛ أعانه على الوفاء، ويسّر له الأمر من حيث لا يحتسب .
[ومن أسماء الله المشابهة]: (الوكيل)، قال -تعالى- : (فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]. معناه: الكافي الكفيل، وهو عام وخاص.
أما العام: فيدل عليه قوله -تعالى-: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الزمر:62]، وقوله -تعالى-: (وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود:12]، أي: المتكفل بجميع أرزاق المخلوقات وأقواتها، القائم بتدبير شؤون الكائنات وتصريف أمورها.
والخاص: يدل عليه قوله -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً) [الأحزاب:48]، وقوله : (وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، أي: نعم الكافي لمن التجأ إليه، والحافظ لمن اعتصم به، و[هذا] خاص بعباده المؤمنين به المتوكلين عليه.
والتوكل على الله وحده هو الأصل لجميع مقامات الدين، ومنزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
دعا الله -سبحانه- عباده إلى التوكل عليه وحده، وجعل ذلك دليل الإيمان، قال -تعالى-: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) [المزمل:9]، وقال: (وَعَلى الله فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتمْ مّؤْمِنِينَ) [المائدة:23].
وحقيقة التوكل هو عمل القلب وعبوديته اعتماداً على الله، وثقةً به، والتجاءً إليه، مع فعل الأسباب المشروعة. وقد جمع الله بين هذين الأصلين في نصوص كثيرة، منها قوله -تعالى-: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود:123]، وقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5] وفي الحديث: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله".
والتوكل مصاحب للمؤمن الصادق في أموره كلها، الدينية والدنيوية، وفي الدعاء المتقدم عند الخروج من المنزل: "بسم الله توكلت على الله"، دليل بيّن على عظم افتقار العبد إلى كفاية الله وهدايته ووقايته، وأنه لا غنى له عن ربه طرفة عين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن ترزقنا أن نتوكل عليك حق التوكل؛ والله وحده المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل!.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، ومن عمل صالحا هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر باتخاذ الأسباب، وأجزل للمتوكل عليه الثواب.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أفضل من توكل على ربه وأناب، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الحساب.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، ومن آثار الإيمان باسم الله (الوكيل):
أولاً: استسلام العبد لخالقه، والتفويض له في كلّ الأمور؛ إدراكاً منه بأن جميع الأمور من خير وشرّ ونفع وضرّ إنما هي بقضائه وقدره، يقول الإمام ابن العربي: "إذا علمت أن وكيلك غنيّ، وفيّ، قادر، ملِك؛ فأعرض عن دنياك، واقبل على عبادة من يتولاك".
ثانياً: حسن الظنّ بالله -تعالى-، ومرجع ذلك هو تصوّر عظم شأن من أوكلت إليه الأمور -سبحانه وتعالى-، فهو المتّصف بتمام القوّة والقدرة، وتمام العلم والحكمة، فلن يُقدّر لعبده إلا ما هو لصالحه في معاشه ومعاده.
ثالثاً: أن لا يستكثر العبد سؤال الله -تعالى- في كلّ حين، فإن الوكيل غني يحب أن يسأله السائلون، قال -تعالى-: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء:32]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يسألني فأعطيه؟" متفق عليه.
رابعاً: تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة، لأن التوكّل على الخالق من أجلّ العبادات، وقوامها الاعتماد القلبي عليه، وتفويض الأمور إليه، والأمر بها مطلوب ومرغوب: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)، (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا)، والالتفات إلى غيره محظور: (أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً) [الإسراء:2].
اللهم ارزقنا الإيمان والهدى، والتقى والعفاف والغنى. اللهم افتح علينا من خزائنك التي لا تنتهي. اللهم افتح علينا من بركات السماء والأرض. اللهم أعطِنا ولا تحرمنا.
اللهم اجعلنا شاكرين لرزقك، مقرين بنعمك علينا، وارزقنا التوكل عليك حق التوكل، لا إله إلا أنت.
اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدّم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا. اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لرضاك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه لما فيه صلاح العباد والبلاد، اللهم هيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم فرّج هم المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسر المأسورين، واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.