البحث

عبارات مقترحة:

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

القدير

كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...

فقه الخشية

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. فضائل الخشية من الله .
  2. منزلة أهل الخشية .
  3. الفرق بين الخوف والخشية .
  4. أكثر الناس خشية لربهم .
  5. علامات الخشية الحقيقية   .
  6. سبب الانتفاع بالمواعظ   .
  7. ثمرات الخشية وفوائدها .
  8. من أحوال أهل الخشية. .

اقتباس

فسمعت للرجل اضطرباً شديداً وصياحاً وصراخاً, فوقفت حتى انقطع صوته ومضيت, فلما أصبحت أتيت إلى دار الرجل فوجدته قد مات, والناس في تجهيزه وعجوز تبكي فسألت عنها فقيل لي: أمه, فتقدمت إليها وسألتها عن حاله. فقالت: كان يصوم النهار ويقوم الليل ويكتسب الحلال, فيقسم كسبه ثلاثاً؛ ثلث لنفقته وثلث لنفقتي وثلث يتصدق به, فلما كان البارحة مر إنسان وهو يقرأ فسمع آية من القرآن ففارق الدنيا...

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ عظيمِ الصِّفاتِ وَالأسماءِ، جَزيلِ البِرِّ وَالعَطاءِ، جعلَ قُلوبَ أوليائِهِ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ، أحمدُهُ -سبحانَهُ- حمداً يملأُ ما بَيْنَ الأرضِ وَالسماءِ، وأشكرُهُ عَلَى عظيمِ الهِبَةِ وَالنَّعْماءِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له المتَفَرِّدُ برِداءِ الكِبْرِياءِ، وَالمُتَوَحِّدُ بصِفاتِ المجْدِ وَالعَلاءِ، وأشهدُ أنْ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَفْوَةُ الخَلْقِ وسَيِّدُ الأنبياءِ، عَطَّرَ أَرِيجُ شَمائِلِهِ الأَرْجاءَ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ السَّادَةِ الأتْقِياءِ، أُولِي الفَضْلِ وَالثَّناءِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يَوْمِ النِّداءِ.

أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وأحبوه لذاته ونعمه، فكم وهبكم من النعم! وكم صرف عنكم من النقم!.

عباد الله: الخشية من الله تعالى مقام من أعلى المقامات, وصفة من أسمى وأعلى الصفات، بل هي شرط من شروط الإيمان قال تعالى: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 13].

ولما كانت هذه الخشية من أعلى المقامات وأشرفها, وأسمى الصفات وأرفعها، فليس عجباً أن تكون صفةَ الملائكة المقرَّبين الذين قال الله فيهم:  (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل:50]، وصفةَ النبيين -عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين- حيث قال -سبحانه- في شأنهم: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39]، وهي أيضاً مما اتصف به عُمَّار مساجد الله الذين قال الله فيهم: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18]. والخشية خُلق لا يتصف بها إلا عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك: 12].

أيها الإخوة: ومقام الخشية لله -تبارك وتعالى- جامع لمقام المعرفة بالله، والمعرفة بحق عبوديته، فمتى عرف العبد ربه، وعرف حقه، اشتدت خشيته له كما قال -سبحانه-: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور) [فاطر: 28].

وهذا مما جعل النبي يلزم سؤال الله أن يرزقه الخشية منه والخوف الذي يحجزه عن العصيان، فعن ابن عمر، قال: قلما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا..." [الترمذي(3520) وحسنه الألباني]. ورفع النبي -صلى الله عليه وسلم- منزلة أهل الخشية، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم" [الترمذي (1633) وصححه الألباني].

أيها الإخوة: والخشية أخص من الخوف، فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء بالله، والخوف حركة للهرب؛ فالذي يرى العدو إما أن يهرب وهي حالة الخوف، وإما يسكن ويطمئن وهي حالة الخشية. فالعلماء بالله وبأمره هم أهل خشيته كما ورد من حديث عائشة -رضي الله عنها- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالله إِنِّي لأرْجُو أنْ أكُونَ أخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأعْلَمَكُمْ بِمَا أتَّقِي" [مسلم(1110)].

والعالم حقاً كل من خشي الله فأطاعه بفعل أوامره وترك نواهيه, كما قال -سبحانه-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9]، فالله -تبارك وتعالى- لا يخشاه إلا العلماء، ولا يكون عالماً إلا من يخشاه، وما من عالم رباني إلا وهو يخشاه، والعلم والخشية متلازمان، فإذا انتفى العلم انتفت الخشية، وإذا انتفت الخشية دلت على انتفاء العلم.

وكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخافه ويخشاه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور) [فاطر: 28]، وإذا كان كل مسلم يخشى الله، وكل مؤمن يخشى الله، فإن الخشية الكاملة إنما هي لأهل العلم، وعلى رأسهم الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، ثم من يليهم من العلماء على طبقاتهم، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، فالخشية لله حق، والخشية الكاملة إنما هي من أهل العلم بالله والبصيرة به، وبأسمائه، وصفاته، وعظيم حقه -سبحانه- وتعالى، وأرفع الناس في ذلك هم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم على اختلاف طبقاتهم في علمهم بالله ودينه.

والجدير بالعالم أينما كان، وبطالب العلم، أن يعنى بهذا الأمر، وأن يخشى الله، وأن يراقبه في كل أموره، في طلبه للعلم، وفي عمله بالعلم، وفي نشره للعلم، وفي كل ما يلزمه من حق الله، وحق عباده.

عباد الله: ومن علامات معرفة الله الهيبة، فكلما ازداد العبد معرفة بربه ازدادت هيبته له، وخشيته إياه. ومن عرف الله صفا له العيش، وطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف كل مخلوق، وأنس بالله، واستوحش من غيره، وأورثته تلك المعرفة الحياء من الله، والتعظيم له، والإجلال والمراقبة، والمحبة والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضا به، والتسليم لأمره.

إن قلوب المؤمنين واجفة من خشية الله، طامعة راجية في فضل الله، متجهة إلى ربها بالطاعة، وهذه الأرواح هي التي تؤمن بالله، وتعرف حقه، وقدره وعظمته: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [السجدة: 15]، هؤلاء إذا ذكروا بآيات الله خروا سجداً؛ تأثراً بما ذكروا به، وتعظيماً لله الذي ذكروا بآياته، وشعوراً بجلاله الذي يقابل بالسجود أول ما يقابل، تعبيراً عن الإحساس الذي لا يعبر عنه إلا تمريغ الجباه بالتراب، وسبحوا بحمد ربهم مع حركة الجسد بالسجود، وهم لا يستكبرون.

فهي استجابة الطائع الخاشع المنيب الشاعر بجلال الله الكبير المتعال، وهؤلاء: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة: 16]،  فالمضاجع تدعوهم إلى الرقاد والراحة ولذة النوم، ولكن هذه الجنوب لا تستجيب؛ لأن لها شغلاً عن المضاجع اللينة، والرقاد اللذيذ، شغلاً بربها، شغلاً بالوقوف في حضرته، وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع، يتنازعها الخوف والرجاء، الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمته، الخوف من غضبه، والطمع في رضاه، الخوف من خذلانه، والطمع في توفيقه.

وهذه الصورة المشرقة لهؤلاء المؤمنين يرافقها الإكرام الإلهي، والحفاوة الربانية بهذه النفوس العالية: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]؛ إنها حفاوة الله بهؤلاء القوم، وتوليه بذاته إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقرب به العيون، هذا المذخور لا يطلع عليه أحد سواه، ويظل عنده مستوراً، حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه.

أيها الإخوة: إن أهل الكرامة عند الله هم أهل خشيته، كما قال -سبحانه-: (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة: 8]. والقرآن الكريم أحسن الحديث، والذين يخشون ربهم يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش، تقشعر منه الجلود، ثم تهدأ النفوس، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر كما قال -سبحانه-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر: 23].

عباد الله: الخشية سبب الانتفاع بالمواعظ؛ لأن صاحب القلب القاسي مهما رأى، ومهما سمع، ومهما وقع له، مقفل على قلبه، أما صاحب القلب اليقظ الواعي الذي تسري فيه نسائم الخشية يتأثر، تأمل في حال أهل العلم النافع: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) [الإسراء: 107 - 109]، ما الذي أبكاهم؟ آيات طرقت أسماعهم ،لكن هذه الآيات ليست مجرد حروف معجم، بل حروف ذات معاني، لامست أوتاراً حساسة في قلوبهم، فانفعلت تلك القلوب، وهملت تلك العيون، وخرت تلك الأعضاء خروراً، من أعلى إلى أسفل (يخرون للأذقان سجداً) يجعلون أذقانهم في الرغام إجلالاً لله، وخشية له.

وتأمل في حال مؤمني أهل الكتاب: (وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [القصص: 53]. وأخبر الله تعالى عنهم في موضع آخر، فقال: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83].

ولقد عاب الله تعالى على بني إسرائيل ووبخهم وقرعهم على قساوة قلوبهم وعدم خشيتهم له -سبحانه- بعد أن أراهم المعجزات الباهرات فقال لهم: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [البقرة: 74]. وضرب لنا -سبحانه- مثلا طيبا في الخشية من الله عند سماع آياته فقال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].

عباد الله: الخوف والخشية عبادة عظيمة، غابت أو ضعفت في حياة كثير من الناس إلا من رحم الله، غابت في تعاملنا مع ربنا، في تعاملنا مع أنفسنا، في تعاملنا مع الناس، في بيعنا وشرائنا، في تربيتنا لأبنائنا، في أدائنا لوظائفنا، في تعاملنا مع الأجراء والخدم, والموفق من وفقه الله لخشيته وتقواه.

إن الخشية الحقة والخوف المحمود هو الذي يحمل على العمل، فلا يزال يدفع بصاحبه إلى الطاعة، وينفره من المعصية، والخشية الحقة هي التي تربي القلب؛ حتى لا ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظرُ إلى عَظَمة من عصى. قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه، وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة". وقال ابن عون: "لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري أكفرت عنك أم لا".

إن الخشية الله تعالى إنما تظهر في أوقات الخلوات وساعات الوِحدة والعزلة عن الخلق, كثير أولئك الذين يتصدقون أمام الناس ولكنهم في السر قليل، كثير الذين يتورعون عن ظلم الناس أمام الناس وهم في السر أظلم الخلق، كثيرٌ هم أولئك الذين يقومون بالطاعات ويهجرون المعاصي في حضرة الخلق، وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.

عباد الله، إن الخشيةَ لا تكون إلا من الله وحده دون سواه؛ لأنه -سبحانه- المدبِّر لأمور المخلوقات كلِّها، وهو الحيُّ الذي لا يموت، القيُّوم الذي تقوم به الخلائق كلُّها وتفتقر إليه، أما غيره فهو عاجز فانٍ لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء، فجميع الخلائق ليسوا في الحقيقة غيرَ وسائط لإيصال ما قدَّره الله من أقدار، يبيِّن ذلك أوضحَ بيان قولُ النبي في وصيَّته المشهورة لابن عمه عبد الله بن العباس -رضي الله عنهما-: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف" [الترمذي(2516) وصححه الألباني].

اللهم ارزقنا كمال الذل لك والخشية منك، وكمال الثقة واليقين فيك يا رب العالمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.

عباد الله: وإن ثمارَ هذه الخشية بيِّنة، وإن آثارها ظاهرة، فهي باعث على إخلاص العمل لله تعالى والاستدامة عليه، وطريقٌ إلى العزَّة التي كتبها الله لعباده المؤمنين، وسبيلٌ إلى صيانة النفس عن الذل، وداع إلى التحلي بمحاسن الأخلاق والنفرة من مساوئها، وسببٌ للسعادة في الدارين، وقائدٌ إلى الأمن من الفزع الأكبر وإلى الفوز بالجنة والنجاة من النار، قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:173، 174].

لا أحد ينجو من الغفلة، ولا أحد يهرب من التأثر بدوامة الحياة، ولكن توجد لحظات صدق تائبة، ونوبات خشوع صادقة تتلمس القلب الصادق مع ربه، يحاسب فيها نفسه، ويجدد فيها العهد، وعندها تثور ثائرة مشاعره الصادقة التائبة، وتغرق العيون بدموع الايمان والخشية فيكون بكاؤه في ذلك الوقت أشبه ما يكون بغيث السماء الذي يرسله المولى -تبارك وتعالى- للأرض فيرد لها الحياة من جديد.

فالبكاء من خشية الله تربية للقلب فتشعر بعدها براحه نفسيه إلى حد لم تتوقعه، والبكاء من خشية الله يغسل أدران القلوب ويلينها ويغرس الرحمة فيها, والبكاء من خشيه الله من طرق الفوز برضوان الله ومحبته، يقول الأصمعي: سمعت شاباً يقول هذه الأبيات:

ألا أيها المقصود في كل وجهــة

شكوت إليك الضر فارحم شاكيتي

ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي

فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي

أتيت بأعمال قباح رديئــــة

وما في الورى عبد جنى كجنايتي

أتحرقني بالنار يا غاية المنـــى

فأين رجائي ثم أين مخافــــتي

ثم سقط مغشياً عليه فدنوت منه فإذا هو زين العابدين بن الحسين بن علي -رضي الله عنهم أجمعين-. فرفعت رأسه في حجري وبكيت فقطرت دمعة على خده, فقال: من هذا الذي يهجم علينا, فقلت: عبدك الأصمعي سيدي, ما هذا البكاء وأنت من أهل بيت الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب: 33]، فقال: هيهات هيهات!! إن الله تعالى خلق الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً, وخلق النار لمن عصاه ولو كان حراً قرشياً.

ثم قال: أليس الله تعالى يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) [المؤمنون: 101]. ثم قال: أليس الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو القائل: "أما والله، إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له" [مسلم(1108)]، ثم قال وهو يبكي: "أنسيت يا هذا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لابنته فاطمة -رضي الله عنه-: "اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً" [البخاري(2753) ومسلم(206)]. فرحم الله هذا الخاشع الزاهد لقد كانت خشية الله شغله الشاغل ونحن نعلم ما يعلمه وندرك ما أدركه جيداً، والكثير منا لا يكلف نفسه حتى الوقوف والتدبر لمعنى هذا الأمر.

وهذا أيضاً الفاروق العادل -رضي الله عنه- كان يخاف من لقاء الله تعالى خوفاً لو جُمع خوفنا كله في كفه وخوفه في الكفة الأخرى لرجحت كفته, وكلنا يعلم مواقف هذا العظيم في الخشية والتذلل, ويكفينا دليلاً على ذلك أنه كان يُرى على وجهه خطين أسودين من كثرة انحدار الدموع, وتكفي كلماته, فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أخذ تبنة من الأرض، فقال: "يا ليتني هذه التبنة، ليتني لم أكُ شيئاً، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت نسيًّا منسيًّا".

وهذا حفيده عمر بن عبد العزيز وقد جاءته مولاة تقص عليه رؤية رأتها, فتقول: أنها رأت في المنام كأن الصراط قد مد على جهنم وهي تزفر على أهلها, وذكرت أنها رأت رجالاً مروا على الصراط فأخذتهم النار, ثم قالت: ورأيتك يا أمير المؤمنين وقد جيء بك, فوقع مغشياً عليه وبقي زماناً يضطرب, وهي تصيح في أذنه: رأيتك والله وقد نجوت.

ما هذه الخشية ؟؟!! لقد أغشي عليه لمجرد سماعه أنه جيء به أمام الصراط, فرحم الله هذا الرجل وأسكنه فسيح جناته, وأمنه الله مما كان يخشاه.

يقول منصور بن عمار -رضي الله عنه-: دخلت الكوفة فبينما أمشي في ظلمة الليل إذ سمعت بكاء رجل بصوت شجي من داخل دار وهو يقول: "إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك, ولكن عصيتك بجهل فالآن من ينقذني من عذابك؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟، واذنوباه.. واغوثاه.. يا الله". فقال منصور بن عمار: فأبكاني كلامه فوقفت فقرأت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].

فسمعت للرجل اضطرباً شديداً وصياحاً وصراخاً, فوقفت حتى انقطع صوته ومضيت, فلما أصبحت أتيت إلى دار الرجل فوجدته قد مات, والناس في تجهيزه وعجوز تبكي فسألت عنها فقيل لي: أمه, فتقدمت إليها وسألتها عن حاله. فقالت: كان يصوم النهار ويقوم الليل ويكتسب الحلال, فيقسم كسبه ثلاثاً؛ ثلث لنفقته وثلث لنفقتي وثلث يتصدق به, فلما كان البارحة مر إنسان وهو يقرأ فسمع آية من القرآن ففارق الدنيا.

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن العباس العِّميِّ -رحمه الله- قال: "بلغني أن داود -عليه السلام- قال: "سبحانك تعاليت فوق عرشك، وجعلت خشيتك على من في السموات والأرض، فأقرب خلقك إليك أشدهم لك خشية، وما علم من لم يخشك؟ وما حكمة من لم يطع أمرك؟".

إن الخشية الحقة، والخوف المحمود هو الحامل على العمل، الذي لا يزال يدفع بصاحبه إلى الطاعة، وينفره من المعصية. الخشية الحقة هي التي تربي القلب حتى لا يفرق بين معصية وأخرى، فلا ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظر إلى عظمة من عصى، قال الله -سبحانه- ـ يحصر المنتفعين بالذكرى: (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)  [طه: 1 ـ 3].

عباد الله: عظموا الله في نفوسكم, واخشوه واتقوه كما أمركم, ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 52].

أخي الحبيب: أقبل على ربك مناديًا تائبًا راجيًا خائفًا وجلاً من سنوات مضت, وأعمال كُتبت, وصحف طُويت، واهتف مع الصالحين: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيدٌ سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.

اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما علمت الحياة خيرًا لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيرًا لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.