الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
في ذلك اليوم يخرس الله -سبحانه وتعالى- أفواههم فلا يقدرون على الكلام، ولا يستطيعون النطق، ولا يقدرون على المجادلة والمناقشة التي لم تعد تنفعهم ولا تغني عنهم شيئاً، فإذا خرست ألسنتهم وتجمدت أفواههم ولم تنطق؛ شهدت عليهم جوارحهم، فتتكلم أيديهم بما اقترفته من أخذ الحرام....
الخطبة الأولى:
الحمد لله منزل القرآن رحمة للعالمين، ومناراً للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، أنزل على عبده الكتاب عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين، ونبراساً منيراً للمهتدين، وأخبرنا فيه أنه قد جعل لنا من أنفسنا أعضاء تشهد علينا يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: يوم القيامة يوم عظيم مشهود، فيه كثير من المواقف العظيمة الجليلة التي تشيب لهولها الولدان، وتبكي من شدتها العينان، وترتجف من عظمتها المشاعر والوجدان, مشاهد مؤثرة، وأحوال مبكية، وعرصات عويصة، ومواقف شديدة، ويوم طويل مشهود، (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : 47].
من هذه المواقف العظيمة التي تكون في ذلك اليوم العظيم موقف جلل، وساعة رهيبة، ولحظة شديدة، إنها لحظة تقهر النفوس، وترجف القلوب، وتوقف الأنفاس وتكتمها، إنها لحظة شهادة الجوارح.
أتدرون ما شهادة الجوارح؟ إنها شهادة جوارحنا وأعضائنا، يوم تشهد علينا في ذلك اليوم العظيم، عندما يسألنا الله عن كل صغيرة وكبيرة، وجليلة وحقيرة، فتشهد جوارحنا على معاصينا، وتعترف أعضاؤنا بما عملته من معاصي وآثام. يقول الله -سبحانه وتعالى- مصوراً ذلك المشهد الرهيب والموقف الصعب: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس : 65].
في ذلك اليوم يخرس الله -سبحانه وتعالى- أفواههم فلا يقدرون على الكلام، ولا يستطيعون النطق، ولا يقدرون على المجادلة والمناقشة التي لم تعد تنفعهم ولا تغني عنهم شيئاً، فإذا خرست ألسنتهم وتجمدت أفواههم ولم تنطق؛ شهدت عليهم جوارحهم، فتتكلم أيديهم بما اقترفته من أخذ الحرام، وسرقة أموال الناس، وظلم الآخرين والتعدي عليهم بالضرب والفعل، وتشهد أرجلهم بما فعلته من آثام وموبقات مشوا إليها بأرجلهم، ومارسوها بتلك الأرجل التي تتجه إلى الحرام وتمشي إليه.
وفي موقف آخر تشهد اللسان نفسها بما قالته من كذب وغيبة ونميمة وزور وبهتان وافتراء، فتقول: قلت كذا وكذا، ونطقت بكذا وكذا، وشهدت زوراً وبهتاناً على كذا وكذا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : 24].
إنه عدل الله -سبحانه وتعالى- ينطق عليهم ألسنتهم ويجعلها شاهدة عليهم، فماذا سيقولون حينما تشهد عليهم جارحة من جوارحهم؟ وكيف سيعترضون أو ينكرون حينما يرونها تشهد ضدهم وتقف خصماً لهم وتكون شاهدة عليهم لا لهم؟.
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ، فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟" قَالَ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ: بَلَى، قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قَالَ: فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا، قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، قَالَ فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" [مسلم (2969)].
يسب العبد أركانه ويتبرم من أعضائه لأنها فضحته وشهدت عليه، فيقول لهن: هلاكاً لكن، وسحقاً وبعداً لكنَّ، فعنكن كنت أجادل وأدافع حتى لا تقعن في العذاب وتصطلين في النار، واليوم تأتي فضيحتي منكن، وتصدر الشهادة علي من خلالكن، فيا للحسرة والندامة، أُخَاصِمُ لِخَلَاصِكُنَّ، وَأَنْتُنَّ تُلْقِينَ أَنْفُسَكُنَّ فِيهَا.
روى أبو يعلى الموصلي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فَجَحَدَ وَخَاصَمَ فَيُقَالَ: هَؤُلاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ فَيَقُولُ: كَذَبُوا فَيَقُولُ: أَهْلُكَ عَشِيرَتُكَ فَيَقُولُ: كَذَبُوا فَيَقُولُ: احْلِفُوا فَيَحْلِفُونَ ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللَّهُ وَتَشْهَدُ أَلْسِنَتُهُمْ ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ" [مسند أبي يعلى الموصلي (1392)].
أيها الناس: إنها -والله- قاصمة الظهر أن تشهد عليك جوارحك، وتنطق أعضاؤك ضدك، فكيف الموقف في تلك الساعة الحرجة؟ وماذا يقولون حينئذ؟ اسمعوا إلى الجواب يقول الله -جل وعلا-: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت 20: 24].
هذا حالهم -أعاذنا الله وإياكم- إذا وردوا على النار، أو أرادوا إنكار ما عملوه من المعاصي، شهد عليهم كل عضو من أعضائهم، فكل عضو يقول: أنا فعلت كذا وكذا، يوم كذا وكذا فإذا شهدت عليهم عاتبوها، وقالوا لها نحن ندافع عنكن؟ فتقول لهم: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، فليس في إمكاننا الامتناع عن الشهادة حين أنطقنا الذي لا يستعصي عن مشيئته أحد، ولا يقدر على رد أمره أحد.
ثم تقول لهم جوارحهم على سبيل التبكيت والذم: لم تكونوا في الدنيا تخفون أعمالكم السيئة خوفاً من أن نشهد عليكم, ولكنكم كنتم تخفونها لاعتقادكم أن الله -تعالى- لا يعلم ما تخفونه من أعمالكم، ولكنه -سبحانه وتعالى- يعلم ما تظهرونه منها وما تخفونه.
ولكن لم يحملكم على هذا الاعتقاد الباطل إلا جهلكم بصفات الله -تعالى- وكفركم باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء، واستبعادكم أننا سنشهد عليكم، فهذا الظن السيئ أهلككم فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم التناد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الرسل وخلاصة العباد، الذي دعا أمته بالحكمة والموعظة الحسنة وهداها إلى سبيل الرشاد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان في الأقوال والأفعال والاعتقاد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: إذا علمنا وأيقنا أن جوارحنا ستكون فاضحة لنا وشاهدة علينا يوم القيامة؛ فما علينا إلا أن نتقي الله في أنفسنا، ونحتاط لها، وننتبه كل الانتباه ونحذر كل الحذر من أن نكون ضحية لهذه الشهادة العظيمة التي تأتي من داخلنا، ومن نفس أعضائنا وجوارحنا.
علينا أن نحاول بكل ما أوتينا من استطاعة وقدرة أن نجعل شهادة الأعضاء لصالحنا لا ضدنا، ولنا لا علينا، ولن يكون هذا إلا بتحقيق تقوى الله -سبحانه وتعالى- ومراقبته في كل حركاتنا وسكناتنا.
إذا أردنا تحقيق ذلك فيجب علينا أن نتقي الله في هذه الأعضاء، نتقي الله في ألسنتنا، فلا نتكلم بالحرام، ولا نقول الحرام، ولا يصدر من ألسنتنا قولاً محرماً، كالكذب، وقول الزور، والكلام بالباطل، والسب واللعن، والقذف وغيره.
ونتقي الله في أيدينا فلا نبطش بالحرام، ولا نأكل الحرام، ولا نعتدي على أحد بالباطل، ولا تصل أيدينا إلى ما لا يحل لها أن تصل إليه، سواء كان ذلك عبر السرقة، أو الغصب، أو غيره.
ولنتقي الله في أرجلنا، ولنقصرها قصراً على أن لا تمشي إلا إلى ما يجوز لها أن تمشي إليه، ولا نسمح لها أبداً بالجري إلى الحرام، أو المشي إلى أماكن لا تحل لنا ولا يجوز المشي إليها.
لنتقي الله في كل أعضائنا وجوارحنا، فإن أنفسنا التي بين جنبينا ليست ملكاً لنا، وإنما عهدة عندنا وستعود إلى الله، ويبعثها من جديد كما كانت فيحاسبها على كل شيء، فإيانا ثم إياناً أن نكون سبباً في شقاء أنفسنا وتعاستها، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم : 6]، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المائدة : 105]، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يونس : 23].
فهذه الآيات الثلاث كلها تأمرنا بأن ننتبه لأنفسنا، ونبعدها من عذاب الله وسخطه، فكل واحد منا مسؤول عن نفسه ولا دخل له بغيره، فليحرص على هداية نفسه وإبعادها عن الضلال والضياع، فمن بغى وأصر فليعلم أنه بغيه سيكون في النهاية على نفسه.
صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك، وهب لنا غنىً لا يطغينا، وصحةً لا تلهينا، واغننا اللهم عمن أغنيته عنا، واحفظ جوارحنا من الوقوع في الحرام واجعلها شاهدة لنا لا علينا يوم لقائك.
اللهم هب لنا فرجًا قريبًا، وصبرًا جميلاً، وكن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وتولَّ أمرنا، لا إله إلا أنت، أنت حسبنا ونعم الوكيل.