البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان - الحياة الآخرة |
هذه أحوال النطفة التي هي مبدأ الإنسان، وما بين هذا المبدأ وهذه الغاية أحوالٌ وأطباق، قدَّرَ العزيزُ العليمُ تنقُّلَ الإنسان فيها وركوبه لها طبقًا بعد طبق حتى يصل إلى غايته من السعادة والشقاوة، وهي نتيجة الابتلاء والاختبار في هذه الدار.
الحمد لله الذي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خلَقَه، وخلَق الإنسان في أحسن تقويم. أوجده وربَّاه بنِعَمه، وهداه إلى الطريق القويم. وأِشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تحوُّل من حال إلى حال، ولا قوَّة على ذلك إلا بالله، وهو حسبي، ونعم الوكيل.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نقله ربُّه درجةً بعد درجةٍ، ومرتبة بعد مرتبة، حتى انتهى إلى محل القرب والزلفى من ربه الكريم. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أهل العلم والعبادة والهجرة والجهاد، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق:16-19] أقسَم –سبحانه- بالشفق الذي يتضمن إدبار النهار وإقبال الليل، وهما آيتان من آيات الله، وأقسم بالقمر واتِّساقه؛ فالهلال آية، واتساقه -وهو امتلاؤه نورًا- آية، ثم أخذه في النقص آية (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق:19] يعني تنقُّل الإنسان حالاً بعد حال، ومنزلاً بعد منزل، وأمرًا بعد أمر.
عباد الله! هذه الآيات التي حلف الله بها، والمحلوف عليه وهو الإنسان، أدِلَّةٌ على عظَمةِ ربِّنا، وتغييره للعالم وتصريفه إياه كيف أراد، ونقله من حال إلى حال، وهي من أعظم الأدلة على توحيده وصفات كماله، وصدقه، وصدق رسله، وعلى المعاد، ولذلك قال عقِبه: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [الانشقاق:20].
فأول أطباق الإنسان "نطفة"، ثم "علقة"، ثم "مضغة"، ثم "جنينًا"، ثم "مولودًا"، ثم "رضيعًا"، ثم "فطيمًا"، ثم "مميِّزًا". ثم يأخذ في بلوغ الأِشُدِّ والشباب إلى الأربعين. ثم بعد الأربعين يأخذ في الكهولة إلى الستين، ثم يأخذ في الشيخوخة. فإذا انحطمت قواه فهو هرِم. فإذا تغيرت أحواله وظهر نقصه فقد رُدَّ إلى أرذل العمر.
وهو، في جميع أطواره، إما صحيح أو مريض، غني أو فقير، معافىً أو مبتلى، إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه. فإذا بلغ الأجل الذي قُدِّر له واستوفاه جاءته رسل ربه -عز وجل- ينقلونه من دار الفناء إلى دار البقاء، فجلسوا منه مد البصر، ثم دنا منه الملك الموكل بقبض الأرواح، فاستُدعى بالروح، فإن كانت روحًا طيبة قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة ،كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري برَوح وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج من بدنه كما تخرج القطرة من في السقاء، فإذا أخذها لم يدَعوها في يديه طرفة عين، فيحنطونها ويكفنونها بحنوط وكفن من الجنة، ثم يُصلون عليها، ويوجد لها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض، ثم يُصعد بها للعرض الأول على أسرع الحاسبين فينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستأذن لها، فتُفتح لها أبواب السماء، ويصلي عليها ملائكتها، ويشيعها مقربوها إلى السماء الثانية، فيُفعل بها كذلك، ثم الثالثة، ثم الرابعة، إلى أن ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل؛ فتحيِّي ربَّها تبارك وتعالى بتحية الربوبية: اللهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام؛ فإن شاء أذن لها بالسجود، ثم يخرج لها التوقيع بالجنة، فيقول الرب -جل جلاله-: اكتبوا كتاب عبدي في علِّيِّين، ثم أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتُهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
ثم ترجع روحه إلى الأرض، فتشهد غسله وتكفينه، وحمله وتجهيزه، وتقول: قدِّموني قدِّموني. فإذا وُضع في لحده، وتولى عنه أصحابه، دخلت الروح معه، حتى إنه يسمع قرع نعالهم على الأرض، فأتاه حينئذ فتَّانا القبر، فيُجْلِسَانِه، ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد. فيُصَدِّقانِه، ويبشِّرانه بأن هذا الذي عاش عليه، ومات عليه، وعليه يبعث. ثم يُفسَح له في قبره مدَّ بصره، ويفرش له خَضِرًا، ويُقَيَّضُ له شاب حسن الوجه والرائحة، فيقول: أبشر بالذي يسرك. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. ثم يَفْتَحُ له طاقةً إلى النار، ويقول: انظر ما صرف الله عنك. ثم يَفْتَح له طاقة إلى الجنة، ويقول: انظر ما وعد الله لك، فيراهما جميعًا.
وأما النفس الفاجرة فبالضد من ذلك كله: إذا أذنت بالرحيل نزل عليها ملائكة سود الوجوه، معهم حنوط من نار، وكفن من نار، فجلسوا منها مدَّ البصر، ثم دنا الملَك الموكَّلُ بقبض النفوس فاستدعى بها وقال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أبشِري بحميم وغسَّاق، وآخر من شكله أزواج، فتطايَرُ في بدنه، فيجتذبها من أعماق البدن، فتنقع معها العروق والعصب كما ينتزع الشوك من الصوف؛ فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، ويوجد لها كأنتن رائحة جيفة على وجه الأرض، فتحنط بذلك الحنوط، وتلف في ذلك الكفن، ويلعنها كلُّ ملَكٍ بين السماء والأرض، ثم يُصْعَد بها إلى السماء فيستفتح لها فلا تفتح لها أبواب السماء، ثم يجيء النداء من رب العالمين: اكتبوا كتابه في سجِّين، وأعيدوه إلى الأرض.
فتطرح روحه طرحًا، فتشهد تجهيزه وتكفينه وحمله، وتقول وهي على السرير: يا ويلها! إلى أين يذهبون بها؟ فإذا وضع في اللحد أعيدت عليه، وجاء الملكان فسألاه عن ربه ودينه ونبيه، فيتلجلج ويقول: لا أدري. فيقولان له: لا دَرَيْتَ، ولا تَلَيْتَ. ثم يضربانِه ضربةً يصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين. ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ثم يفرش له نار، ويفتح له طاقة إلى الجنة فيقال: انظر إلى ما صرف الله عنك. ثم يفتح له طاقة إلى النار، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، فيراهما جميعًا؛ ثم يُقَيَّضُ له أعمى أصمُّ أبكمُ فيقول: مَن أنت؟ فوجهك الذي يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك السيئ.
ثم ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله، ويُعذَّب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختص كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو، فتُقرَض شِفَاهُ المغتابين الذين يمزِّقون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمقاريضَ من نار، وتُسجر بطون أكَلة أموال اليتامى بالنار، وتُلقم أكلة الربا بالحجارة، ويسبَحون في أنهار الدم كما يسبحون في الكسب الخبيث، وترضح رؤوس النائمين عن الصلاة المكتوبة بالحجر العظيم، ويشق شدق الكذاب الكذبة العظيمة بكلاليب الحديد إلى قفاه، ومِنْخُرُه إلى قفاه، وعينيه إلى قفاه، كما شقت كلمته النواحي، ويعلق النساء الزواني بثُديِّهِنَّ، وتُحبس الزناة والزواني في التنور المحمى عليه، فيعذب محل المعصية منهم ومن هو إلا سافل. وتسلط الهموم والأحزان والآلام النفسانية على النفوس البطالة التي كانت مشغولة باللهو واللعب والبطالة، فتصنع الآلام في نفوسهم كما تصنع الهوام والديدان في جسومهم، حتى يأذن الله تعالى بانقضاء أجل العالم وطيِّ الدنيا.
فتُمْطِرُ الأرضُ مَطَرًا غليظًا أبيضَ كمَنِيِّ الرِّجال أربعين صباحًا، فينبتون من قبورهم كما تنبت الشجرة والعشب، فإذا تكاملت الأجنة واقربت الأم وكان وقت الولادة أمر الله سبحانه إسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث، وهي الثالثة، وقبلها نفخة الموت، وقبلها نفخة الفزع، فتشققت الأرض عنهم، فإذا هم قيام ينظرون، يقول المؤمن: الحمد لله الذي أحيانًا بعد ما أماتنا وإليه النشور. ويقول الكافر: يا ويلنا! من بَعَثَنَا من مرقدنا؟.
فيُساقون إلى المحشر حفاة، عُراة، غُرْلاً، بُهْما، مع كل نفس سائق يسوقها، وشهيد عليها. وهم بين مسرور ومثبور، وضاحك وباكٍ، حتى إذا تكاملت عدتهم، وصاروا جميعًا على وجه الأرض، تشققت السماء، وانتثرت الكواكب، ونزلت ملائكة السماء الثانية فأحاطت بملائكة السماء الدنيا، ثم كل سماء كذلك؛ فبينما هم كذلك إذ جاء الله رب العالمين لفصل القضاء، فأشرقت الأرض بنوره، وتميز المجرمون من المؤمنين، ونُصب الميزان، وأحضر الديوان، واستدعي بالشهود، وشهدت يومئذ الأيدي والألسن والأرجل والجلود، ولا تزال الخصومة بين يدي الله سبحانه حتى يختصم الروح والجسد، فيقول الجسد: إنما كنت ميتًا لا أعقِل ولا أسمع ولا أبصر، وأنتِ كنت السميعة المبصرة العاقلة، وكنتِ تصرفينني حيث أردت. فتقول الروح: وأنت الذي فعلت، وباشرت المعصية، وبطشت؛ فيرسل الله إليهما ملكًا يحكم بينهما فيقول: مثَلكما مثل بصير مقعد، وأعمى صحيح، دخلا بستانًا، فقال المقعد: أنا أرى الثمار ولا أستطيع أن أقوم إليها، وقال الأعمى: أنا أستطيع القيام، ولكن لا أرى شيئًا، فقال المقعد: احملني حتى أتناول لي ولك ففعلا، فعلى من تكون العقوبة؟ فيقولان: عليهما. فيقول: فذلك أنتما.
فيحكم الله سبحانه بين عباده بحُكمه الذي يحمده عليه جميع أهل السموات والأرض، وكل بَرٍّ وفاجر، ومؤمن وكافر.
ثم ينادي مناد: لتتبعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد. فيذهب أهل الأوثان مع أوثانهم، وأهل الصليب من صليبهم، وكل مشرك مع إلهه الذي كان يعبد لا يستطيع التخلف عنه فيتساقطون في النار، ويبقى الموحدون، فيقال لهم: ألا تنطلقون حيث انطلق الناس؟ فيقولون: فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم، وإن لنا ربًا ننتظره، فيقال: وهل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون نعم: إنه لا مثل له، فيتجلى لهم سبحانه في غير الصورة التي يعرفونه، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيتجلى لهم سبحانه في صورته التي رؤي فيها أول مرة ضاحكًا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون لله سُجَّدًا، إلاَّ من كان لا يُصَلِّي في الدنيا، أو يصلِّي رياء، فإنه يُحال بينه وبين السجود. ثم ينطلق -سبحانه- ويتبعونه، ويضرب الجسر على وسط جهنم، ويساق الخلق عليه، وهو دحض مزلة، مظلم لا يمكن عبوره إلا بنور، فإذا انتهَوا إليه قُسمت بينهم الأنوار على حسب نور إيمانهم وإخلاصهم وأعمالهم في الدنيا؛ فنورٌ كالشمس، ونور كالنجم، ونور كالسراج في قوته وضعفه.
وتُرسَل الأمانة والرحم على جنبي الصراط فلا يجوزه خائن ولا قاطع، ويختلف مرورهم عليه بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا فمارٌّ كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، وساع، وماش، وزاحف، وحاب حبوًا.
ويُنْصَبُ على جنبه كلاليب لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، تعوق من علقت به عن العبور على حسب ما كانت تعوقه الدنيا عن طاعة الله ومرضاته وعبوديته، فناج مسلَّم، ومخدوش مسلم، ومقطَّع بتلك الكلاليب، ومُكَرْدس في النار؛ وقد انطفأ نور المنافقين على الجسر أحوج ما كانوا إليه.
فإذا جاوز المؤمنون الصراط -ولا يجوزه إلا مؤمن- أمنوا من دخول النار، فيُحبسون هناك على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقْتَصُّ لبعضهم من بعضِ مظالمَ كانت بينهم في دار الدنيا، حتى إذا هذبوا إذن لهم في دخول الجنة.
فإذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار أُتي بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ثم يُقال: يا أهل الجنة! فيطلعون وجلين؛ ثم يُقال: يا أهل النار! فيطلعون مستبشرين، فيُقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد عرفه. فيقال: هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت.
فاتقوا الله عباد الله، واتَّقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البَقَرَة:281].
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله: هذه أحوال النطفة التي هي مبدأ الإنسان، وما بين هذا المبدأ وهذه الغاية أحوالٌ وأطباق، قدَّرَ العزيزُ العليمُ تنقُّلَ الإنسان فيها وركوبه لها طبقًا بعد طبق حتى يصل إلى غايته من السعادة والشقاوة، وهي نتيجة الابتلاء والاختبار في هذه الدار، هذا هو الاختبار العظيم، وهذه هي النتيجة الأعظم، (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2-3]، (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة:6-11].
فنسأل الله العظيم الجليل الرحيم أن يجعلنا من الذين سبقت لهم منه الحسنى، ولا يجعلنا من الذين غلبت عليهم الشقاوة فخسروا الدنيا والآخرة، إنه سميع الدعاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل.