المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) ييسر له الأمور، ويسهل عليه كل عسير، واليسر في الأمر غاية ما يرجوه إنسان. ووالله إنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده.. فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيق.. يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره.. وينالها بيسر في حركته وعمله.. ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها.. ويعيش من هذا في يسر رخي ندي، حتى يلقى الله.. فاليسر في الأمر غاية ما يرجوه إنسان.. ثم اسمعوا إلى الفيض المُغري والعرض المثير للتقوى بقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) يندفع عنه المحذور، ويحصل له المطلوب...
الخطبة الأولى:
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة: إن التحلي بتقوى الله -تعالى- خير ما يُزَينُ سلوكَ المرء بعد الإيمان، ويرقى به إلى أن يكون من أهل الدرجات العلا في الجنات.. ولقد ذكر الله -تعالى- التقوى واشتقاقاتها في كتابه العزيز في مواضع كثيرة نيفت على أربعين ومائتي موضعاً، وذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك في مواضع كثيرة.
والتقوى منقبة عظيمة عرفها أهل العلم فقالوا: أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله -تعالى- وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
والتقوى هي وصية الله -تعالى- للأولين والآخرين قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، وهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله -تعالى- وحقوق عباده، ووصى بها رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبا ذر ومعاذَ بنَ جبل -رضي الله عنهما- فقال لكل واحد منهما: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ". (رواه الترمذي وهو حديث حسن).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اتَّق الله حيثما كُنت" مراده في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه، وفي حديث عن أبي ذرٍّ: أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وَعَلَانِيَتِهِ" (رواه أحمد وهو حسن لغيره).
ودعا الله للتقوى عباده المؤمنين دعوة صريحة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، وفسر ابن مسعود -رضي الله عنه- تقوى الله حق تقواه فقال: "هي أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر"..
وقد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتناب المحرَّمات كما قال أبو هريرةَ -رضي الله عنه- لما سئل عن التقوى فقال: هل أخذتَ طريقاً ذا شوكٍ.؟ قالَ: نعم قالَ: فكيف صنعتَ.؟ قال: إذا رأيت الشوكَ عدلْتُ عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى.. وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال:
خلِّ الذُّنوبَ صَغِيرَها | وكَبِيرَها فَهْوَ التُّقَى |
واصْنَعْ كماشٍ فَوْقَ أَرْضِ | الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى |
لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً | إنَّ الجِبَالَ مِنَ الحَصَى |
وفي الجملة، فإن تقوى الله: هي وصيةُ الله لجميع خلقه، ووصيةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، و"كان -صلى الله عليه وسلم- إذا بَعَثَ أميراً على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً".. (رواه مسلم).
ولما خطبَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر وصَّى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم.. (رواه أحمد والترمذي).
ولما وَعَظَ الناسَ وقالوا له: كأنَّها موعِظَةُ مودِّع فأوصنا قال: "أُوصيكم بتقوى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعة".. (أحمد وأبو داود)..
وكان من هديه أنه إذا أراد أن يودع مسافراً ربما قال له: "زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى وَغَفَرَ ذَنْبَكَ وَيَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ" (الترمذي حسن صحيح)..
ولم يزل سَّلفُ الأمة الصالح يتَواصَوْنَ بها، وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول في خطبته: "أما بعد فإني أُوصيكم بتقوى الله، وأنْ تُثنوا عليه بما هو أهلُه". ولمَّا حضرته الوفاةُ وعهد إلى عمر -رضي الله عنه- دعاه فوصَّاهُ بوصيةٍ، وأوَّلُ ما قالَ له: "اتَّقِ الله يا عمر".
وكتب عُمَرُ إلى ابنه عبد الله: "أما بعدُ فإني أُوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنَّه من اتقاه وقاه، ومَنْ أقرضه جزاه، ومَنْ شكره زاده، فاجعل التقوى نُصبَ عينيك وجلاء قلبك". وغير هذا في الصحابة وتابعيهم كثير..
ومن أطرف ما روي في ذلك، ما قاله شعبة رحمه الله: كنتُ إذا أردتُ الخروجَ قلتُ للحكم: ألك حاجةٌ.؟ فقال أوصيك بما أوصى به النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- معاذَ بنَ جبل: "اتَّقِ الله حيثُما كُنتَ، وأتْبِعِ السَّيِّئة الحَسَنة تَمحُها، وخَالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ"..
هكذا كانوا، أما نحن فالغالب أننا لا نفعل ذلك وأجودنا من يدعو، وكثير منا من يقول سلامتك وينصرف، فليت مثل هذا التوجه يوجد فينا لكان له أثر كبير بترسيخ معاني كبار في حياتنا بحول الله..
أيها الأحبة: تقوى الله سبب لكل خير ومفتاح لكل توفيق، وكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- مليئان بذكر أنواع من الخير سنذكر منها: أن من اتقى الله -تعالى- نجا من الشدائد، وتيسر له الرزق من جهة لا تخطر له ببال، وفاز بعظيم الأجر قال الله -تعالى-: (..وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ..) [الطلاق:2،3] مخرجاً من الضيق في الدنيا والآخرة، ورزقاً من حيث لا يُقَدِّرُون ولا ينتظرون ولا يشعرون به، ومن لم يتق الله يقع في الآصار والأغلال التي يقدرون على التخلص منها والخروج من تبعتها.
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4] ييسر له الأمور ويسهل عليه كل عسير، واليسر في الأمر غاية ما يرجوه إنسان. ووالله إنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده.. فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيق.. يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره.. وينالها بيسر في حركته وعمله.. ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها.. ويعيش من هذا في يسر رخي ندي، حتى يلقى الله.. فاليسر في الأمر غاية ما يرجوه إنسان..
ثم اسمعوا إلى الفيض المُغري والعرض المثير للتقوى بقوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5] يندفع عنه المحذور، ويحصل له المطلوب. وإن وردت هذه الآيات في أمر الطلاق لكن ما فيها من حكم هو حكم عام ووعد شامل.. كما قال ذلك أهل العلم..
من اتقى الله أصلح له عمله وغفر ذنبه قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70،71]
من اتقى الله أكرمه -سبحانه وأعزه- قال الله -تعالى-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].
من اتقى الله أحبه الله قال الله -تعالى- في ثلاثة مواضع من كتابه: (..إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4].
من اتقى الله فاز بالبشرى في دنياه وأخراه قال الله سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس:63،64].
من اتقى الله حفظه من عدوه ونجاه مما يخاف ووقاه قال الله سبحانه: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120].
من اتقى الله أمده بعونه وأيده بنصره قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:128]، وقال: (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية:19]، وقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود:49].
من اتقى الله منحه نصيبين من رحمته وجعل له نورا يمشي به راشداً مهدياً قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد:28].
من اتقى الله نجاه من النار عند ورودها قال الله -تعالى-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:71،72].
من اتقى الله كانت الجنة مثواه وأكرمه الله وأعلاه: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق:31]. وقال: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) [الزمر:20].
ولما سئل رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قَالَ: "أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ". (رواه أحمد والترمذي وهو حديث حسن).
اللهم زودنا بالتقوى واجعل التقوى لنا خير زاد بارك لنا بالكتاب والسنة وغفر لنا ووالدينا إنك أنت الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من خالفه وعصاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن ولاه وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد:
أيها الإخوة: إن امتثال العبد لتقوى الله عنوان السعادة.. وعلامة الفلاح.. قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29]، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "قد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا، فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها الأول: الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة.
الثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب،وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر.
الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)".
أحبتي: كل زاد ينفد ويفنى.. وكل لباس يتمزق ويبلى.. سوى زاد ولباس التقوى قال الله -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197]، وقال الله -تعالى- (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف:26].
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتلم بها شعثنا، وتذهب بها الفتن عنا، اللهم لا تفرق هذا الجمع، إلا بذنب مغفور، وعمل متقبل مبرور، إنك أنت الرحيم الغفور.. وصلوا على نبيكم..