الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنّ المتصدر للقضايا والمشاكل الأسرية, لَيَرى ما يتفطر منه القلب, ويندى له الجبين. نساءٌ بلغت الثلاثين والأربعين بل والستين, ولم يتزوجن أبدًا. الْمُطلّقاتُ والأراملُ منسيّاتٌ ومشغولاتٌ بآلامهنّ.. عندما تشعر الفتاة بأنها تحمل لقب "عانس", وتتخطى سِنَّ الزواج الْمُعتاد, فإنَّ هذا يُصيبُها بحالة من الإحباط والقلق النفسيّ, مهما كان عملها ووظيفتُها، فالعانس تتجرّع مرارةَ الوحدة, على الرغم من كثرة الناس حولها, خاصةً حينما يُرخي الليلُ سدولَه, فلا تكاد تُغمض عينَها إلا بدمعةٍ وألم, حين يلوحُ في خاطرها زميلاتُها وأقاربُها, اللاتي يقضين ليلهنّ مع أزوجهنّ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ النساءَ في وقت سابقٍ, لا يكاد يبقى أحدٌ منهن عوانسَ في البيوت, بسبب قِلَّتهِنَّ وكثرةِ الرجال, أما في هذا الزمان, فالعوانس ملأن البيوت, وضاقت بهن الأرض بما رحبت.
وإنّ المتصدر للقضايا والمشاكل الأسرية, لَيَرى ما يتفطر منه القلب, ويندى له الجبين.
نساءٌ بلغت الثلاثين والأربعين بل والستين, ولم يتزوجن أبدًا.
الْمُطلّقاتُ والأراملُ منسيّاتٌ ومشغولاتٌ بآلامهنّ.
عندما تشعر الفتاة بأنها تحمل لقب "عانس", وتتخطى سِنَّ الزواج الْمُعتاد, فإنَّ هذا يُصيبُها بحالة من الإحباط والقلق النفسيّ, مهما كان عملها ووظيفتُها، فالعانس تتجرّع مرارةَ الوحدة, على الرغم من كثرة الناس حولها, خاصةً حينما يُرخي الليلُ سدولَه, فلا تكاد تُغمض عينَها إلا بدمعةٍ وألم, حين يلوحُ في خاطرها زميلاتُها وأقاربُها, اللاتي يقضين ليلهنّ مع أزوجهنّ.
فيا أيّها الفتيات! بادرن بالزواج قبل فوات الأوان, فتَتَجَرَّعْنَ آلام الوحدة والحرمان, واحذرن من ردّ الخطّاب الأكفّاء.
ويا أيها الآباء والأمهات, اتقوا الله في بناتكم, خذوا على أيدهنّ, وابحثوا لهنّ عن الزوج الذي يُسعدهنّ, ولو كان قليل ذات اليد أو مُتزوّجًا, فالمعيار في قبول الخاطب, ما قاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".
وقد كشفت إحصائيةٌ, لجمعيةٍ متخصصةٍ في مجال شؤون الأسرة، أنَّ نحو ثلث الفتيات, اللاتي تجاوزن سِنَّ الـثلاثين عاماً، لم يتزوجن خلال العقد الماضي.
وقال أمين جمعية "وئام" للرعاية الأسرية: "إنَّ عدد اللواتي لم يتزوجن في العقد الماضي, أكثرُ من مليونِ ونصفِ فتاة، بِمَا يعادل ثلث عدد النساء في المملكة".
إنّ هذا العدد المخيف, يُوجب علينا أنْ نفكّر بجدّيةٍ عن أسباب عنوستهنّ, وحرمانِهِنّ من الزواج والأولاد والاستقرار النفسي.
والعنوسةُ لها أسبابٌ كثيرة منها:
السبب الأول: الفتيات أنفسهنّ, حيث يُكثرن من الاشتراط والْمواصفات في الأزواج, فتردّ الخطاب اللذين لا تتوفر فيهم هذه المواصفات.
امرأةٌ تقدّم لها شابٌّ جامعيٌّ فيه الخير والصلاح, فاشترطت عليه أنْ يسكن في بيت منعزلٍ عن أبويه, وأنْ يكون مُوظّفًا, فتركها وتزوج أخرى, فمضى على زواجه خمس عشرة سنة, رُزق بعدها بوظيفةٍ نافعة, وذرّيّةٍ صالحة, ولا تزال تلك الفتاة إلى هذا اليوم عانسًا, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والكثير من الفتيات ترد الخاطب المتزوج, وكأنَّ زواجه عيبٌ قادحٌ في دينه أو رجولته, ووالله لرجلٌ صالحٌ مُتزوج, عُرف عنه الدين والصلاح, خيرٌ من كثير من الشباب, الذين لا تُعرف سيرتهم وأخلاقهم.
ومنهن من تردّ الخاطب لأجل إكمال دراستها, فتمضي عليها السنون وهي على هذا الحال.
السبب الثاني: الوالدان, حيث يتقاعسان في طلب الزوج الصالح لبناتهم, بل والله منهم من منع بناته من الزواج, وقد سعى أحدُ المصلحين في إقناع الأم في تزويج بناتها, فغضبت وقالت: لا دخل لكم في بناتي.
وبعضُ الآباء والأمهات: لا يُلحّون على بناتهنّ في قبول الخاطبِ الْكُفء, ولا يسعون في إقناعهنّ وحوارهن.
فإذا لم يَطْرُقْ أحدٌ بابه فليس له خيارٌ آخر, والواجب عليه أنْ يسعى بكلِّ الطرق لزواجها, وذلك بعرضها على الكفء من الرجال, وذكرِها عند أهل الأمانة والثقة.
فهذا الفاروقُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- يقول: "أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فأجابه عُثْمَانُ بأنه لا يرغب في النكاح", فهل توقف ويئس؟
لا , بل عرضها على أبي بكرٍ أيضًا.
قال الحافظ -رحمه الله-: "فِيهِ عَرْض الْإِنْسَان بِنْته وَغَيْرَهَا مِنْ مَوْلِيَّاته, عَلَى مَنْ يُعْتَقَد خَيْرُه وَصَلَاحه؛ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْع الْعَائِد عَلَى الْمَعْرُوضَة عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا اِسْتِحْيَاء فِي ذَلِكَ". ا.هـ
السبب الثالث: الأقارب, حيث يرون قريبتهم عانسًا ولا يُحركون ساكنًا, والواجب عليهم أن يسعوا في زواجها, وإذا علموا أن أحد والديها يرفضون الزواج, وجب عليهم رفع أمره للمحكمة لرفع الولاية عنها.
السبب الرابع: رفضُ المجتمع لمبدأ التعدد.
وهذا من أعظم أسباب العنوسة, حيث إنَّ التعدد هو الحل الأمثل لعلاج هذه المشكلة الخطيرة.
والسبب في هذا الرفض, ما غرسته القنوات الفضائية, من تصوير التعدد بأنه جريمةٌ وخيانةٌ زوجيّة.
إنّ للتعدد مصالحَ عظيمةً وكبيرة, للرجال والنساء والمجتمع كلّه.
أما مصلحتُه للنساء, فَلِأنّه يُنقذهنّ من العنوسة والبؤس, فزواج المرأة من معدّد صالح عادل, تُنجب منه الأولاد الذين يملئون عليها حياتَها, خيرٌ والله من مُكثها وحيدةً بلا زوج ولا أولاد.
قال العلامةُ ابن باز -رحمه الله تعالى-: "كونُ المرأةِ يحصل لها ربعُ الزوج, أو ثلثه, أو نصفه, خيرٌ مِن بقائها في بيتها بدون زوج". ا.هـ
وأما مصلحته للرجال, فلأنه يُحصنهم ويحفظهم, فكم من رجلٍ أعطاه الله من النشاط والقوة, فهل مثلُ هذا تُغلق الأبواب في وجهه؟
كلا, بل الواجب أنْ يُعان على إعفاف نفسه, وتحصين فرجه.
وأما مصلحته للمجتمع والأمة بأكملها, فَلِأنه الوسيلةُ إلى كثرة نسلها، ووفرةِ شبابها, فهو تشريع من حكيم خبير، لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بكفر أو نفاق أو عناد.
يقول العلامةُ محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "الْمَرْأَةُ تَكُونُ مُسْتَعِدَّةً لِلنَّسْلِ, نِصْفَ الْعُمُرِ الطَّبِيعِيِّ لِلْإِنْسَانِ, وَهُوَ مِائَةُ سَنَةٍ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ قُوَّةَ الْمَرْأَةِ تَضْعُفُ عَنِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ فِي الْغَالِبِ، فَيَنْقَطِعُ دَمُ حَيْضِهَا, وَبُوَيْضَاتُ التَّنَاسُلِ مِنْ رَحِمِهَا، فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ, التَّزَوُّجُ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ, كَانَ نِصْفُ عُمُرِ الرِّجَالِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْأُمَّةِ, مُعَطَّلًا مِنَ النَّسْلِ, الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ الزَّوَاجِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّ الرَّجُلَ يَقْتَرِنُ بِمَنْ تُسَاوِيهِ فِي السِّنِّ، أو يكبرها بقليل.
وَقَدْ لَاحَظَ هَذَا الْفَرْقَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغرب فَقَالَ : "لَوْ تَرَكْنَا رَجُلًا وَاحِدًا مَعَ مِائَةِ امْرَأَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً, لَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِ فِي السَّنَةِ مِائَةُ إِنْسَانٍ، وَأَمَّا إِذَا تَرَكْنَا مِائَةَ رَجُلٍ, مَعَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةً كَامِلَةً, فَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنْ نَسْلِهِمْ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ". ا.هـ
وقد أثبتتِ الإحصائياتُ, أنَّ عدد النساء أكثرُ من الرجال، فلو أنَّ كلَّ رجلٍ تزوج امرأةً واحدة, فهذا يعني أنَّ مِن النساء من ستبقى بلا زوج، مما يعود بالضرر عليها وعلى المجتمع:
أما الضرر الذي سيلحقها, فهو أنها لن تجد لها زوجاً يقوم على مصالحها، ويوفر لها المسكن والمعاش، ويحصنها من الشهوات المحرمة، وترزق منه بأولاد تَقَرُّ بهم عَيْنُها، مما قد يؤدي بها إلى الانحراف والضياع, إلا من رحم الله.
وأما الضرر العائد على المجتمع, فمعلوم أنَّ هذه المرأة, التي ستجلس بلا زوج، قد تنحرف عن الجادة, وتسلكُ طُرُقَ الغواية والرذيلة، فتقع في مستنقع الزنا والدعارة - نسأل الله السلامة – مما يؤدي إلى انتشار الفاحشة, فتظهر الأمراض الفتاكة, من الإيدز وغيره من الأمراض المستعصية المعدية, التي لا يوجد لها علاج، وتتفكك الأسر، ويُولد أولادٌ مجهولو الهوية، لا يَعرفون من أبوهم؟.
"فَإِذَا لَمْ يُبَحْ لِلرَّجُلِ الْمُسْتَعِدِّ لِلزَّوَاجِ, أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ, اضْطَرَّتِ الْحَالُ إِلَى تَعْطِيلِ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ، وَمَنْعِهِنَّ مِنَ النَّسْلِ, الَّذِي تَطْلُبُهُ الطَّبِيعَةُ وَالْأُمَّةُ مِنْهُنَّ. فالْخَيْرُ لَهُنَّ أَنْ يَكُنَّ ضَرَائِرَ وَلَا يَكُنَّ فَوَاجِرَ, يَأْكُلْنَ بِأَعْرَاضِهِنَّ، وَيُعَرِّضْنَ أَنْفُسَهُنَّ بِذَلِكَ لِمَصَائِبَ لا تُحمد عُقْباها".
والرجال عرضةٌ للحوادث, التي قد تُوْدي بحياتهم، لأنهم يعملون في المهن الشاقة، وهم جنود المعارك، فاحتمال الوفاة في صفوفهم, أكثرُ منه في صفوف النساء، وهذا من أسباب ارتفاع معدل العنوسة في صفوف النساء، والحل الوحيد للقضاء على هذه المشكلة هو التعدد.
اللهم الْطف بالعوانس والأرامل والمطلّقات, اللهم هيّئ لهنّ الأزواجَ الصالحين, والأولياءَ الناصحين, برحمتك يا أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين, وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين..
أما بعد: أيها المسلمون: إنّ التعدد شريعةٌ أثبتها ربّ العالمين, وسنّةُ الأنبياء والصالحين, وقد قال أحدُ العلماء: "أنا لا أعلم صحابيًّا كانت له زوجةٌ واحدة، ومن كان له زوجةٌ واحدةٌ كان له إماء بجوارها".
وبعضُ الناس يُثرِّب على من يُعدد بأنّ همَّه إشباعُ رغبته, وقضاءُ وطره! وهذا ليس بعيب, بل هو من مقاصد النكاح, ويُؤجر على ذلك, إذا كان يُريد إعفاف فرجه, وقضاءَ وطره في الحلال دون الحرام.
فالواجب على المرأة, ألا تعترض على زَوْجِهَا إنْ أراد التعدد, وأنْ تعلم أنها آثمةٌ إن طلبت الطلاق لأجل ذلك.
ولا يعني زواجُه أنّه لا يُحبها, أو أن فيها عيبًا خُلُقيًّا أو خَلْقيًّا.
والواجب أنْ تُوجد الْمؤسساتُ التي تُعْنَى بشؤون العوانس, وأنْ يسعى كلّ من علم أنّ في أحدِ البيوت عانسًا, بالبحث لها عن زوجٍ ينتشلها من همومها, ويُفرج كربتها.
ولا يمنعها من التصريح إلا حياؤها, فأين هم الرجال الأوفياء الرحماء, أين من يُجفف دموع تلك الفتاة, التي قال الشاعر على لسانها:
طال البكاءُ لوحدتي وبلائي | لا الذنبُ ذنبي معشرَ الآباءِ |
قد كدتُ أَقْضِي حسرةً وتأسفًا | لولا الرضا وتجلدي وعزائي |
فالوردةُ البيضاءُ في ريعانِهَا | صارتْ كَمِثْلِ الصخرة السوداءِ |
ذَبُلَتْ على طول السنينَ فأَخْفَقَتْ | مِن طولهنّ محاسني وصفائي |
قد كنتُ أحلمُ أنْ أكون عروسةً | يُهدى لها بروائحٍ وغناءِ |
وتُزَفُّ مِن بيتِ الأُبُوَّةِ للذي | هو كفؤها في الدين والعلياءِ |
وحَلُمْتُ بالطفل الذي هو مُنْيَتِي | كيما أُسَرُّ بِوَجْهِهِ الوضَّاءِ |
أهفو إليه وأَسْتَشِفُّ نسيمه | وأَضُمُّ منه الصدرَ في سراءِ |
أسقيه باللبن الْمُصَفَّى جُرْعَةً | وأذودُ عنه نوازلَ الأَرْزاءِ |
إنْ بات يشكو بالبكاء مُتَمْتِمًا | كنتُ الفداءَ لسائرِ الأعضاءِ |
رباه قد أعيا البكاءُ قلوبَنَا | فإليك أشكو حرقتي وشقائي |
ربَّاه فَرِّجْ ما لقيتُ من الأسى | يا واسع الإكرام والإعطاءِ |
اللهم فرِّج عن العوانس همومهنّ وأحزانهنّ, ويسّرِ الزوج الْمُناسب لهن, اللهم من وقف عائقًا في نكاحهنّ فاهده, وإن لم تشأ هدايته فاكفهنّ شرَّه, وعجّل بخلاصهنّ مِنْ بَغْيِهِ وظُلْمِه, إنك على كلّ شيءٍ قدير.