السلام
كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...
العربية
المؤلف | محمد بن صالح بن عثيمين |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
لما كانت النزعات إلى الباطل والشر في ضرورة إلى ما يكبح جماحها، ويخفف من حدتها من وازع إيماني، أو رادع سلطاني؛ جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الباطل والشر، والترغيب في الحق والخير، وبيان ما يترتب على الباطل والشر، من مفاسد في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، وما يترتب على...
الخطبة الأولى:
الحمد لله القوي العظيم، العزيز الرحيم، العليم الحكيم، شرع عقوبة المجرمين منعا للفساد، ورحمة للعالمين، وكفارة لجرائم الطاغين المعتدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل النبيين، وقائد المصلحين، وأرحم الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعرفوا نعمته عليكم بهذا الدين القويم الكامل، الجامع بين الرحمة والحكمة، رحمة في إصلاح الخلق، وحكمة في سلوك الطريق الموصل إلى الإصلاح.
أيها الناس: إن من طبيعة البشر أن يكون لهم إرادات متباينة، ونزعات مختلفة، فمنها نزعات إلى الحق والخير، ومنها نزعات إلى الباطل والشر، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ)[التغابن: 2].
وقال تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)[الليل: 4].
ولما كانت النزعات إلى الباطل والشر في ضرورة إلى ما يكبح جماحها، ويخفف من حدتها من وازع إيماني، أو رادع سلطاني؛ جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الباطل والشر، والترغيب في الحق والخير، وبيان ما يترتب على الباطل والشر، من مفاسد في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، وما يترتب على الحق والخير من مصالح في الدنيا ومثوبات نعيم في الآخرة.
ولكن لما كان هذا الوازع لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشريرة الموغلة في الباطل والشر، وكبح جماحها، والتخفيف من حدتها، فرض رب العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيوية، وحدودا متنوعة، بحسب الجرائم، لتردع المعتدي، وتصلح الفاسد، وتقيم الأعوج، وتظهر الملة، وتستقيم الأمة، وتكفر جريمة المجرم، فلا تجتمع له عقوبة الآخرة مع عقوبة الدنيا.
ففرض الله الحدود، وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع، والغني والفقير، والذكر والأنثى، والقريب منهم والبعيد، ففي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أقيموا حدود الله القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم"[ابن ماجة (2540)].
ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد -رضي الله عنه- حين شفع إليه في امرأة من بني مخزوم كانت تستعير الشيء فتجحده، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقطع يدها، فشفع فيها أسامة -رضي الله عنه-، فأنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "أتشفع في حد من حدود الله"[البخاري (3288) مسلم (1688) الترمذي (1430) النسائي (4902) أبو داود (4373) ابن ماجة (2547) أحمد (6/162) الدارمي (2302)].
ثم قام صلى الله عليه وسلم فاختطب، وقال: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله -أي أحلف بالله- لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"[البخاري (3288) مسلم (1688) الترمذي (1430) النسائي (4903) أبو داود (4373) ابن ماجة (2547) أحمد (6/162) الدارمي (2302)].
الله أكبر، هكذا الحق، أشرف النساء نسبا فاطمة بنت محمد، سيدة نساء أهل الجنة، ويقسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق البار: أن لو سرقت لقطع يدها؟
أين الثرى من الثريا؟ أين هذا القول وما كان عليه الناس اليوم من المماطلات في إقامة الحدود والتعليلات الباردة، والمحاولات الباطلة، لمنع إقامة الحدود؟
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره"[أبو داود (3597) أحمد (2/70)].
لقد فرض الله عقوبة القاذف الذي يرمي الشخص المحصن البعيد عن تهمة الزنا، فيقول: يا زاني، أو يا زانية، فمن قال له ذلك قيل له: إما أن تأتي بالبينة الشرعية على ما قلت، وإما حد في ظهرك، فإذا لم يأت بها عوقب بثلاث عقوبات، يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبدا، ويحكم بفسقه، فيخرج عن العدالة إلا أن يتوب ويصلح، يقول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النور: 4 - 5].
وإنما أوجب الله عقوبته بتلك العقوبات حماية للأعراض، ودفعا عن تهمة المقذوف البريء البعيد عن التهمة.
وفرض الله عقوبة الزاني، وجعلها على نوعين: نوع بالجلد، مائة جلدة، أمام الناس، ثم ينفى عن البلد لمدة سنة كاملة، وذلك فيما إذا لم يسبق له زواج تمتع فيه بنعمة الجماع المباح، يقول الله -تعالى-: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)[النور: 2].
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"[مسلم (1690) الترمذي (1434) أبو داود (4415) ابن ماجة (2550) أحمد (5/327) الدارمي (2327)].
والنوع الثاني من عقوبة الزناة: الرجم بالحجارة، حتى يموت، ثم يغسل ويكفن ويصلى عليه، ويدعى له بالرحمة، ويدفن مع المسلمين.
وتلك العقوبة فيمن سبق له زواج فيه بالجماع المباح، وإن كان حين فعل الفاحشة لا زوج معه، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل -يعني الحمل- أو الاعتراف".
هكذا أعلن أمير المؤمنين على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الملأ، حتى لا ينكر الرجم إذا لم يجدوا الآية في كتاب الله -تعالى-، والله -تعالى- يمحو ما يشاء ويثبت، وقد نسخت آية الرجم من القرآن لفظا وبقي حكمها إلى يوم القيامة، لتتميز هذه الأمة عن بني إسرائيل بالانقياد التام.
فبنو إسرائيل فرض عليهم رجم الزاني إذا أحصن، ونصه في التوراة، وحاولوا إخفاءه حين قرأ قارئهم التوراة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه الأمة نسخ الله لفظ آية الرجم، فلا توجد فيه لفظا، فعملوا بها لعلمهم ببقاء حكمها، وتنفيذ رسولهم -صلى الله عليه وسلم-، وخلفائه الراشدين لهذا الحكم.
وإنما كانت عقوبة الزاني المحصن بهذه الصورة المؤلمة دون القتل بالسيف؛ لأن هذه العقوبة كفارة للذة محرمة اهتز لها جميع بدنه، فكان من المناسب، والحكمة أن تشمل العقوبة جميع بدنه بألم تلك الحجارة.
إن عقوبة الزاني بهذين النوعين من العقوبة؛ لفي غاية الحكمة والمناسبة: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 132].
وإن إيجاب عقوبة الزاني من رجل، أو امرأة لعين الرحمة للخلق لما فيه من القضاء على مفسدة الزنا المدمر للمجتمعات، المفسد للأخلاق والسلوك، الموجب لضياع الأنساب، واختلاط المياه المحول للمجتمع الإنساني إلى مجتمع بهيمي لا يهتم إلا بملء بطنه وشهوة فرجه: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً)[الإسراء: 32].
أما اللواط، وهو جماع الذكر للذكر، فلذلكم الفاحشة العظمى، والجريمة النكراء، هدم للأخلاق، ومحق للرجولة، وقتل للمعنوية، وجلب الدمار، وسبب للخزي والعار، وقلب للأوضاع الطبيعية، تمتع في غير محله، واستحلال في غير حله.
الفاعل ظالم لنفسه، حيث جرها إلى هذه الجريمة.
والمفعول به مع ذلك مهين لنفسه، حيث رضي أن يكون مع الرجال بمنزلة النسوان، لا تزول ظلمة الذل والهوان من وجهه، حتى يموت أو يتوب توبة نصوحا، يستنير بها قلبه ووجهه.
وكلاهما الفاعل والمفعول به ظالم لمجتمعه، حيث نزلوا بمستوى المجتمع إلى هذه الحال المقلوبة، التي لا ترضاها ولا البهائم.
ومن أجل مفاسده العظيمة كانت عقوبته أعظم من عقوبة الزنا، ففي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من وجدتموه يعمل عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"[الترمذي (1456) أبو داود (4462) ابن ماجة (2561) أحمد (1/300)].
واتفق الصحابة -رضي الله عنهم- على قتل الفاعل والمفعول به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: لم يختلف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله سواء كان فاعلا أم مفعولا به، ولكن اختلفوا كيف يقتل؟
فقال بعضهم: يرجم بالحجارة.
وقال بعضهم: يلقى من أعلى شاهق في البلد.
وقال بعضهم: يحرق بالنار.
وإنما كانت هذه عقوبة تلك الفاحشة؛ لأنها قضاء على تلك الجرثومة الفاسدة التي إذا ظهرت في المجتمع، فيوشك أن تدمره تدمير النار للهشيم.
ففي القضاء عليها مصلحة الجميع، وحماية المجرمين أن يملى لهم في البقاء في الدنيا، فيزدادوا إثما وطغيانا، والله عليم حكيم.
اللهم إنا نسألك أن تحمينا وأمتنا عن مساوئ الأخلاق، وعن موجبات سخطك وعقابك، وأن تهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه، وأتباعه إلى يوم الدين.