الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ماذا يخطرُ ببالِك إذا فتحتَ عينيكَ في صباحِ كلِّ يومٍ؟ .. هل تحمدُ اللهَ -تعالى- أن أحياكَ يوماً آخراً؟ .. تزدادُ به خيراً وعبادةً وطاعةً .. وتتقرَّبُ به إلى اللهِ ساعةً بعدَ ساعةٍ .. وتقولُ: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ" .. كانَ الرَّبيعُ بنُ خُثيمٍ -رحمَه اللهُ- إذا أصبحَ قالَ: "مرحباً بملائكةِ اللهِ، اكتبوا، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ: سبحانَ اللهِ والحمدُ اللهِ ولا إلهَ إلا اللهُ واللهُ أكبرُ".. صارحْ نفسَك .. ما هو الهمُ الحقيقيُّ الذي تحملُه في هذا اليومِ الجديدِ؟ .. هل هو همّ الدُّنيا والشَّهواتِ الزَّائلةِ .. أم الآخرةِ وما فيها من اللَّذاتِ الهائلةِ؟ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ" ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ .. وفَّقَ من شاءَ لطاعتِه .. وصدَّ من شاءَ عن معصيتِه .. أهلِ المغفرةِ والتَّقوى، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علماً، وأحصى كلَّ شيءٍ عدداً، له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحتَ الثَّرى .. أحمدُه سبحانَه وأشكرُه وأتوبُ إليه وأستغفرُه .. نعمَهُ لا تُحصى، وآلاؤهُ ليسَ لها مُنتهى ..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه .. أخشى النَّاسِ لربِّه وأتقى، دلَّ على سَبيلِ الهدى، وحذَّرَ من طريقِ الرَّدى، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، معالمِ الهُدى ومَصابيحِ الدُّجَى والتَّابعينَ ومن تَبعَهم بإحسانٍ وسارَ على نهجِهم واقتفى .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) ..
أما بعد:
عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: "رَأَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ سُلَيْمٍ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: غَدًا الْقِيَامَةُ، مَا كَانَ عِنْدَهُ مَزِيدٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ" .
وهَذا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقولُ: "إنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيَّ: لَوْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ جَهَنَّمَ تُسَعَّرُ، مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَزِيدَ فِي عَمَلِهِ".
وهُشَيْمٌ يَقولُ: "لَوْ قِيلَ لِمَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ عَلَى الْبَابِ مَا كَانَ عِنْدَهُ زِيَادَةٌ فِي الْعَمَلِ."
وَيَنقِلُ لنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ صُورَةً أُخرى عَظِيمَةً بَقولِه: "مَا أَتَيْنَا سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ فِي سَاعَةٍ يُطَاعُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهَا إِلَّا وَجَدْنَاهُ مُطِيعًا، إِنْ كَانَ فِي سَاعَةِ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ مُصَلِّيًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَاعَةَ صَلَاةٍ وَجَدْنَاهُ مُتَوَضِّئًا، أَوْ عَائِدًا مَرِيضًا، أَوْ مُشَيِّعًا لِجِنَازَةٍ، أَوْ قَاعِدًا فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ: فَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ".
عبادَ اللهِ ..
لعلكم تعجبونَ من أمرِ هؤلاءِ العُظماءِ .. وكيفَ وصلوا بطاعتِهم إلى السَّماءِ .. ولكنْ إذا أردنا أن نَعرفَ سببَ التَّوفيقِ لبعضِ النَّاسِ في طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فلنسمعْ لهذه المقولةِ: "إذا أردتَ أن تعرفَ عندَ اللهِ مقامَك .. فانظرْ أينَ أقامَكَ؟" .. أيْ: استعملَكَ في ماذا؟ .. وأشغلَكَ في ماذا؟.. وتقضي أوقاتَكَ في ماذا؟.
فالناسُ عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- مقاماتٌ متفاوتةٌ .. منهم صاحبُ المقامِ الرفيعِ .. والخيرِ الوَسيعِ .. في أعلى عِلِّيِّينَ .. الموَفقُونَ لكلِ خيرٍ ..المُبعدُونَ عن كلِ شرٍ .. فهم محفوظونَ بحفظِ اللهِ -تعالى- الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ .. من كلِ ما يُبغضُه من الأقوالِ والأفعالِ ..اسمعوا كيفَ أنقذَ اللهُ -تعالى- عبداً من عبادِه في أحلكِ الظروفِ: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ) [يوسف: 24].. كلُّ ذلك لأنه كانَ من عبادِه الأخيارِ الذين لهم مقامٌ عندَ اللهِ عظيمٌ.
ومنهم من هو في أسفلِ سافلينَ .. قد سقطَ من عينِ اللهِ -تعالى- .. فتركَه وأعداءَه من النَّفسِ والهوى والشَّيطانِ .. فلا يبالي أيُّ دربٍ سلكَ .. أو في أي وادٍ هلكَ .. اسمعوا كيفَ عاقبَ اللهُ -تعالى- مَن عصاه واتَّبعَ هواه: (وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 175- 177].. فسبحانَ من خَذلَ هذا ووفَّقَ ذلك .. (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 132].
يا أهلَ الإيمانِ ..
إن من عبادِ اللهِ -تعالى- من سدَّدَ اللهُ جوارحَهم فلا يستعملونها إلا في طاعتِه.. جاءَ في الحديثِ القدسي: "إِنَّ اللهَ -تعالى- قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، ولا يَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ" .. فهل أنت من هؤلاءِ الأولياءِ؟
ماذا يخطرُ ببالِك إذا فتحتَ عينيكَ في صباحِ كلِّ يومٍ؟ .. هل تحمدُ اللهَ -تعالى- أن أحياكَ يوماً آخراً؟ .. تزدادُ به خيراً وعبادةً وطاعةً .. وتتقرَّبُ به إلى اللهِ ساعةً بعدَ ساعةٍ .. وتقولُ: "الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ" .. كانَ الرَّبيعُ بنُ خُثيمٍ -رحمَه اللهُ- إذا أصبحَ قالَ: "مرحباً بملائكةِ اللهِ، اكتبوا، بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ: سبحانَ اللهِ والحمدُ اللهِ ولا إلهَ إلا اللهُ واللهُ أكبرُ".
صارحْ نفسَك .. ما هو الهمُ الحقيقيُّ الذي تحملُه في هذا اليومِ الجديدِ؟ .. هل هو همّ الدُّنيا والشَّهواتِ الزَّائلةِ .. أم الآخرةِ وما فيها من اللَّذاتِ الهائلةِ؟ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ" .
قالَ ابنُ القيمِ -رحمَه اللهُ-: "إذا أصبحَ العبدُ وأمسى وليس همُّه إلا اللهُ وحدَه: تحمَّلَ اللهُ سبحانَه حوائجَه كلَّها، وحمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّه، وفرَّغَ قلبَه لمحبِته، ولسانَه لذكرِه، وجوارحَه لطاعتِه، وإن أصبحَ وأمسى والدُّنيا همُّه: حمَّلَه اللهُ همومَها، وغمومَها، وأنكادَها، ووكلَه إلى نفسِه فشغلَ قلبَه عن محبتِه بمحبةِ الخلقِ، ولسانَه عن ذكرِه بذكرِهم، وجوارحَه عن طاعتِه بخدمتِهم وأشغالِهم، فهو يكدحُ كَدحَ الوَحشِ في خدمةِ غيرِه، كالكيرِ ينفخُ بطنَه ويعصرُ أضلاعَه في نفعِ غيرِه، فكلُّ من أعرضَ عن عبوديةِ اللهِ وطاعتِه ومحبتِه بُليَ بعبوديةِ المخلوقِ ومحبتِه وخدمتِه قالَ -تعالى-: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَلَهُ قَرِينٌ) [الزخرف: 36]".
هل أنتَ ممَّنْ يُوَّفقُ إذا خرجَ من منزلِه لذكرِ دعاءِ الخروجِ؟ .. فتقولُ: "بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" .. فيناديكَ منادي الخيرِ عندَ ذلك: "هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ" ..
اللهُ أكبر .. كلُّنا واللهِ يحتاجُ إلى هذا .. هدايةٌ من الفتنِ والشهواتِ .. كفايةٌ للهمومِ والحاجاتِ .. وقايةٌ من الشرورِ والآفاتِ .. "فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيَاطِينُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ وَكُفِيَ وَوُقِيَ" فما أعظمَها من بدايةِ يومٍ سعيدٍ؟!
هل أنت ممن يُعانُ على أداءِ صلاةِ الفجرِ في المسجدِ؟ .. فيُعلقُ وسامَ "مَن صَلَّى الصُّبحَ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ" على صدرِه .. فلا يضُرُه شيءٌ أبداً .. ولو انطبقتِ السماواتُ والأرضُ على مَنْ بينِهما، لأنه في ضمانِ اللهِ -تعالى- وأمانِه.
هل تبدأُ يومَك بأذكارِ الصباحِ وبما فيها من بركةٍ وخيرٍ عظيمٍ؟ .. ومنها "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ وهو أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِي لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ،وَأَنَا عَلى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِ مَا صَنَعْتُ، أَبْوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بَذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ .. مَنْ قَالَهَا في النَّهَارِ مُوقِنَاً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَومِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" .. والمحرومُ من حرمَه اللهُ -تعالى-.
هل تلاحظُ في أعمالِك وأقوالِك .. في ليلِك ونهارِك .. أنَّك مفتاحٌ لكلِّ خيرٍ .. تنفعُ نفسَك وينتفعُ بكَ الغيرُ .. فتكونُ ممن قَالَ عنهم رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ".
هل تشعرُ بحبِ الإيمانِ وأهلِه؟ .. وتكرَه العصيانَ وأهلَه؟ .. أأنتَ فيمن قالَ اللهُ -تعالى- فيهم: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات: 7] .. أو والعياذُ باللهِ داخلٌ في قولِه -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].
هل تُحبُّ للمؤمنينَ ما تُحبُّ لنفسِكَ؟ .. تفرحُ لأفراحِهم .. وتحزنُ لأحزانِهم .. تُشاركُهم المشاعرَ والإحساسَ .. وتتمنَّى السَّعادةَ لهم ورفعَ البأسِ .. مُستشعراً قولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
يا عبدَاللهِ ..
ما الذي يملأُ وقتَك؟ .. ماذا تحبُ؟ .. ماذا تكره؟ .. مَنْ تصاحبُ؟ .. ما هي مجالِسُك؟ .. ماذا تسمعُ؟ .. ماذا تبصرُ؟ .. ماذا تقولُ؟ .. ماذا تقرأُ؟ .. بماذا تفكرُ؟ .. فإن كانت توافقُ مرادَ اللهِ -تعالى- .. فأبشر بالخيرِ .. فلا يزالُ الإنسانُ كذلك حتى يصلَ إلى أعلى الدَّرجاتِ .. كما قالَ إبراهيمُ بنُ أدهمَ -رحمَه اللهُ تعالى-: "أعلى الدَّرجاتِ أنْ تنقطعَ إلى ربِّك، وتستأنِسَ إليه بقلبِك وعقلِك وجميعِ جوارحِك حتى لا ترجُو إلاَّ ربَّك، ولا تخافُ إلاَّ ذنبَكَ، وترسخُ محبتُه في قلبِك حتى لا تُؤْثِرَ عليها شيئاً، فإذا كنتَ كذلك لم تُبالِ في بَرٍّ كنتَ، أو في بحرٍ، أو في سَهْلٍ، أو في جبلٍ، وكان شوقُك إلى لقاءِ الحبيبِ شوقَ الظمآنِ إلى الماءِ الباردِ، وشوقَ الجائعِ إلى الطَّعامِ الطَّيِّبِ، ويكونُ ذكرُ اللهِ عندَكَ أحلى مِنَ العسلِ، وأحلى من المَاءِ العذبِ الصَّافي عندَ العطشانِ في اليومِ الصَّائفِ".
اللهم وفِّقنا لما تُحبُّ وتَرضى، واجعلْنا أئمَّةً مُهتدينَ، اللهمَّ وفِّقنا للخيرِ وجَنِّبا الشَّرَّ يا ربَّ العالمينَ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمؤمنينَ والمؤمناتِ .. فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .. أَمَّا بَعْدُ:
أما القلبُ وهو ملكُ الأعضاءِ فله مع ربِّه وخالقِه مقامٌ آخرٌ .. فانظرْ فيما أقامَه اللهُ سبحانَه .. هل هو متقلبٌ في تلكَ العباداتِ العظيمةِ .. من حبٍ .. وخوفٍ .. ورجاءٍ .. وتوكلٍ .. واستعانةٍ .. واستغاثةٍ .. واستعاذةٍ .. ورضا .. وصبرٍ .. وشكرٍ .. وتوبةٍ .. وخشوعٍ .. وإنابةٍ .. وشوقٍ .. وأصلُ ذلك كلُه هو الإخلاصُ للهِ -تعالى- .. فليس فيه إلا اللهُ .. فصاحبُ هذا القلبِ هو الناجي يومَ القيامةِ كما قالَ -تعالى-: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89].
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمَه اللهُ-: "فكلما ازدادَ القلبُ حبّاً للهِ: ازدادَ له عبوديةً، وكلما ازدادَ له عبوديةً: ازدادَ له حبّاً، وفضَّله عما سواه، والقلبُ فقيرٌ بالذاتِ إلى اللهِ من وجهين: من جهةِ العبادةِ، ومن جهةِ الاستعانةِ والتوكلِ، فالقلبُ لا يصلحُ، ولا يفلحُ، ولا ينعمُ، ولا يُسرُ، ولا يلتذُ، ولا يطيبُ، ولا يسكنُ، ولا يطمئنُ، إلا بعبادةِ ربِه وحبِه، والإنابةِ إليه، ولو حصَلَ له كلُ ما يلتذُ به من المخلوقاتِ: لم يطمئنْ، ولم يسكنْ؛ إذ فيه فقرٌ ذاتيٌّ إلى ربِه من حيثُ هو معبودُه، ومحبوبُه، ومطلوبُه، وبذلك يحصلُ له الفرَحُ، والسرورُ، واللَّذةُ، والنِّعمةُ، والسُّكونُ، والطُّمأنينةُ .. وهذا لا يحصلُ له إلا بإعانِة اللهِ له؛ فإنه لا يقدرُ على تحصيلِ ذلك له إلا اللهُ، فهو دائماً مفتقرٌ إلى حقيقةِ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)".
فيا عبدَاللهِ .. فتشْ عن نفسِك .. وانظر أين أقامَك اللهُ -عزَّ وجلَّ-؟ .. فالأيامُ تسيرُ .. والعُمُرُ قصيرُ .. تقرَّبَ إلى اللهِ بتقواه .. كرِّرْ سؤالَ هُداه .. فـ (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) .. فإذا هداكَ واصطفاكَ .. ووفَّقكَ واجتباكَ .. وسدَّدَ جوارحَك .. اطمئن قلبُك .. فعشتَ سعيداً .. ومُتَّ حميداً .. وكما قال القائلُ: "إن في الدُّنيا جنَّةً من لم يدخلْها لم يدخلْ جنَّةَ الآخرةِ".
اللهم اجعلْنا ممن إذا أُعطيَ شَكرَ .. وإذا أذنبَ استغفرَ .. وإذا اُبتليَ صبرَ يا ربَّ العالمينَ .. اللهم استعملنا في طاعتِك ولا تستعملنا في معصيتِك .. اللهم اجعلنا من عبادِك المتَّقينَ .. وحزبِك المفلحينَ .. وأوليائِك الصَّالحينَ .. فإن أوليائَك لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنونَ.
اللهمَّ احفظْ بلادَنا وبلادَ المسلمينَ من كيدِ الأعداءِ .. اللهم كُنْ لإخوانِنا المستضعفينَ في كلِّ مكانٍ، فَرِّج همَّهم، ويَسر أمرَهم، اللهمَّ أَمِّنْ خائفَهم، وأَطعمْ جائعَهم، وفُكَّ أسيرَهم، وداوِ جريحَهم .. اللهمَّ أبدلْ خوفَهم أمناً، وأبدلْ حربَهم سِلماً، وأبدلْ ذلَّهم عِزَّاً، وأبدلْ فقرَهم غنىً يا أرحمَ الرَّاحمينَ .. نَسْأَلُكَ اللهمَّ نَصْرًا تُعِزُّ بِهِ الإِسْلاَمَ وَأَهْلَهُ، وَتٌذِلُّ بِهِ البَاطِلَ وَأَهْلَهُ.
اللهمَّ تَوفَّنا وأنتَ راضٍ عنَّا، اللهم اغفرْ لآبائِنا ولأمهاتِنا ولمن له حقٌّ علينا، اللهمَّ اغفر لجميعِ موتى المسلمينَ الذين شهدوا لك بالوحدانيَّةِ ولنبيِّكَ بالرِّسالةِ وماتوا على ذلك .. وآخِرُ دَعْوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.