الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ابشر -يا صاحب التوبة- إن باب التوبة مفتوح، لا يغلق في وجهك أبداً، فأنت تتعامل مع الكريم الغني، الذي لا يرد يدي عبده صفراً، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، لا تحتاج إلى وسائط، بل ارفع يديك إلى مولاك وأعلنها مدوية في الملأ الأعلى: أستغفر الله وأتوب إليه، فـ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، الحمد لله الغفور الرحيم، الحليم الكريم، الغني العظيم، يطلب من العباد الفقراء الضعفاء أن يستغفروه.
يتعدون حدوده، وينتهكون حرماته، ما أحلمك يا ربنا، فاللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك إنك كنت غفاراً.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، نستغفر ربنا حتى يغفر لنا ويرضى عنا.
والصلاة والسلام على خير من عبد ربه وشكره واستغفره وتاب إليه، مع أن ربه ومولاه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، الذين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ممن تقرب إليه فكان من التائبين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: من تدبر في صفات الله وأسمائه وآلائه ونعمائه، يحصل له في قلبه معرفة حقيقية بالرب الرحيم، الرءوف الغفور سبحانه.
وإن مما تكاد النفوس أن تطير به فرحاً، وتمتلئ به القلوب أنساً، هو معرفة حال الرب -سبحانه-، الخلق الرازق، مع عبده الضعيف المذنب، ربنا يدعوه ليتوب ويستغفر وينيب، والعبد معرض.
فسبحان من وسعت رحمتك الوجود! يا غفور يا ودود.
اسمع يا من عصى الله، يا من ترك فرائض الله، يا من غرق في الشهوات، يا من عاقر الخمر والمخدرات، يا من وقع في الفواحش والزنا واللواط والموبقات، يا من أكل الحرام وتعامل بالربا، ولم يخف جبار السموات، اسمع لنداء مولاك: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31].
أيها الموفق المسدد: اعلم أن من علامات توفيق الله لك: أن ييسر لك أمر التوبة، فتعود إلى ربك الرءوف الرحيم الرحمن، الذي يطلبك ويدعوك أن ترجع، فلا تتردد ولا تسوف، ربك يفتح لك بابه وأنت معرض، ربك يدعوك وأنت لا تجيب.
يا حسرة عليك، يا ندامة عليك إذا لم تجب داعي الله!.
واعلم أنَّ ربك يقول لك: يا عبدي، أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، وإن تابوا فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم منها، الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له، أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، هذا ما يريده منك مولاك، وهذه حقيقة بره وكرمه وإحسانه إليك.
أيها المؤمنون: خطاب من ربنا يهز الوجدان والضمير، إليك يا من آمنت ورضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، يا من آمنت بكتاب ربك، وسنة نبيك منهجاً ومرجعاً، ربنا الرحيم الغفور يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31].
ولنا مع هذه الدعوة من ربنا إلى التوبة، وقفات وبشارات؛ وقفات لنتعرف على حقيقة التوبة، وبشارات إلى كل مؤمن مقبل يريد التوبة، فأسرع وحث الخطى ولا تتردد، فإن الباب مفتوح، وابشر برب يفرح بتوبتك، وإقبالك عليه، فإنك إن تقربت شبراً تقرب منك باعاً، وأن أتيته تمشي أتاك هرولة.
سبحان من لا حدود لكرمه ولا لحلمه!.
لنا مع هذه الآية وقفات:
فأما الوقفة الأولى: إن أعظم ما يتقرب العبد إلى ربه ومولاه، هو التوبة إلى الله، التوبة إلى الله في كل وقت، لا تفارقنا في طاعتنا ومعاصينا، في إقبالنا وإدبارنا، في غفلتنا وصحوتنا، في بَرِّنَا وبحرنا، في كل وقت وكل مكان.
فالله -سبحانه- هو التواب الرحيم، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[طه: 82].
واعلم أن هذه العبادة من أعظم وأفضل العبادات التي يحبها ربك ومولاك، فلا تتردد في التوبة والإقبال عليه.
الوقفة الثانية: اعلم -أيها الموفق والمسدد- إذا أردت أن تكون توبتك صادقة وخالصة ومقبولة، فعليك بثلاثة أمور، إذا تحققت فإن التوبة -بإذن الله- مقبولة:
أولاً: الإقلاع عن الذنب وتركه.
والثاني: الندم على الفعل، فمن فعل المعصية ثم تاب بقوله، وهو في قرارة نفسه فرح مسرور لم يندم على فعله المشين، وتعرضه لسخط ربه، فإنها توبة غير كاملة.
ثالثا: العزم الصادق على أن لا يعود إليها مطلقاً، فإن ربك يعلم ما توسوس به نفسك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد، لا تخفى عنه خافية.
فإن من صدق التوبة أن لا تتركها وفي قرارة نفسك العود إليها بعد تحسن حالك، أو عند التمكن من المعصية مرة أخرى.
الوقفة الثالثة: إليك -أيها التائب- يا من أقبلت على ربك، يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي: أزف إليك هذه البشائر التي بشرك بها مولاك وسيدك وحبيبك وقدوتك:
البشارة الأولى: أن الله -عز وجل- يقبل التوبة من العبد، ويغفر ذنبه وزللَه وإجرامه، مهما بلغ عظم ذلك الذنب، حتى لو كان كفراً وشركاً بالله.
يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي، اسمع إلى الكريم -سبحانه- الحليم ماذا يقول لك: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)[الزمر: 53].
هنيئاً لك يا مذنب، يا عاصي، بتوبة الله عليك إذا أقبلت عليه.
البشارة الثانية: أبشر يا صاحب التوبة بأن التوبة طريق الفلاح والرشاد؛ كما قال ربك ومولاك: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ)[القصص: 76].
فلاح عام في دنياك وأخراك، في كل أمورك، تفلح وترشد وتسدد، فهذا كله من بركات التوبة: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: 31].
التوبة مجلبة للخيرات، ورضا رب الأرض والسموات، يقول سبحانه: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود: 3].
ويقول ربنا -جل وعلا- عن هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ)[هود: 52].
البشارة الثالثة: ابشر -يا صاحب التوبة- إن باب التوبة مفتوح، لا يغلق في وجهك أبداً، فأنت تتعامل مع الكريم الغني، الذي لا يرد يدي عبده صفراً، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، لا تحتاج إلى وسائط، بل ارفع يديك إلى مولاك وأعلنها مدوية في الملأ الأعلى أستغفر الله وأتوب إليه، فقد جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -عز وجل- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ؛ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، وربنا ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة، ويقول: هل من مستغفر فأغفر له".
واعلم أن الأمم السابقة قبلنا -كبني إسرائيل- كانت إذا أرادت أن تتوب كانت تقتل نفسها حتى تتوب إلى الله، فاللهم لك الحمد ما أكرمك وما أحلمك عن عبادك.
البشارة الرابعة: أبشر -يا صاحب التوبة- أن من بركات التوبة: أن الله يبدل كل عظائمك وجرائمك ومعاصيك وفواحشك ولياليك التي بارزت الله فيها بالحرام، يبدلك الله عنها حسنات.
يا الله ما أكرمك! ما أكرمك! يا كريم يا حليم ما أعظمك! وما اشد تقصيرنا في حقك!.
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان: 68-70].
البشارة الخامسة: التوبة تجب ما قبلها، وتهدم ما قبلها، ولا عيب عليك بعدها.
وقد تكفل الإسلام بحفظ حقك، وتمارس حياتك بكل شموخ وإباء، ولا خجل ولا حياء، بل تعيش مرفوع الرأس، عزيزاً كريماً؛ لأن حياة المعصية حياة الذلة والمسكنة، وحياة الطاعة حياة الرفعة والعزة، فقد جاء في البخاري: "أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-".
وجاء في البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبْزَى: سَلْ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)[النساء: 92].
وَقَوْلِهِ: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)[الفرقان: 68] حَتَّى بَلَغَ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ)[الفرقان: 70] فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللَّهِ، وَقَدْ قَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَتَيْنَا الْفَوَاحِشَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) إِلَى قَوْلِهِ: (غَفُورًا رَحِيمًا).
وأيضاً جاء في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ، يُقَاتِلُ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيُسْتَشْهَدُ".
الله أكبر! لما ترك المعصية وتاب لم تمنعه توبته من أن يشارك في الغزو، ويعمل الصالحات، بل كانت من أكبر الدوافع على الاستمرار، مع أنه قتل مسلماً قبل ذلك.
البشارة السادسة: إذا صدقت توبتك، ييسر الله لك أمرك، ويحسن ختامك على الخير.
وعلامة صدقك: ترك رفاق السوء، وكل ما يذكرك بالمعصية، فإن الله -عز وجل- إذا علم صدقك آلان لك الحديد، وسخر لك الجبال الرواسي.
وكل الكون معك -أيها التائب الحبيب-، فقد جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَل، فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ".
البشارة السابعة: أبشر -يا صاحب التوبة- يا من أقبلت على الله: أن من وقع في الموبقات نزع منه الإيمان، فإن تاب عاد إليه إيمانه الذي في القلب.
فيا لله ما أعظمها من نعمة ولو افتديت بها كل ما تملك؛ فقد جاء في الحديث في البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَقْتُلُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ".
قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ كَيْفَ يُنْزَعُ الْإِيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا، فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
البشارة الثامنة: أن الله الغني الكريم يفرح فرحاً عظيماً بتوبتك، والله لو لم يكن فضل وشرف للتوبة إلا فرح الله بها لكفى بها لك حافزاً للمبادرة إلى التوبة؛ فقد جاء في البخاري ومسلم واللفظ له عن أنس بن مالك قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ".
البشارة التاسعة: أبشر -يا صاحب التوبة- أنت حبيب الله، قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة: 222].
وقال سبحانه: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)[النساء: 27].
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه وغفرانه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ومن الوقفات مع هذه الآية:
الوقفة الرابعة: أن هذه العبادة -أيها الموفق -أعني عبادة التوبة-، اعتنى بها وطبقها، وعمل بها، صفوة الخلق، وأنبياء الله الكرام؛ كما قال جل وعلا عن آدم -عليه السلام-: (فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة: 37].
وقال عن موسى: (فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[الأعراف: 143].
وهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- لا تفارقه التوبة والاستغفار لا حضراً ولا سفراً؛ كما جاء في البخاري قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً".
وجاء في مسلم عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَغَرَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ".
وكانت التوبة في كل أحواله حتى في سفره، فقد جاء في البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ".
وهكذا أصحابه ونساؤه، ومن حوله من الأبرار الأطهار؛ جاء في البخاري عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها-: "أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَامَ عَلَى الْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟" قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعَذَّبُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ" وَقَالَ: "إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ" ا. هـ.
وجاء في البخاري َقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: "مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: "أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ".
وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: "مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ".
وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ -تعالى-: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران: 135].
الوقفة الخامسة: من هدي السنة: التصدق، الإنفاق عند التوبة، والإقلاع عن الذنب، جاء في البخاري: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبرَ".
وجاء في الموطأ وغيره: أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ وَأُجَاوِرُكَ، وَأَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُجْزِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ".
الوقفة السادسة: قال ابن القيم -رحمه الله- ما ملخصه: "فالتوبة الصحيحة لها علامات:
منها: أن يكون بعد التوبة خيراً مما كان قبلها.
ومنها: لا يزال الخوف مصاحباً له لا يأمن مكر الله طرفة عين.
ومنها: انخلاع قلبه، وتقطعه ندماً وخوفاً، وهذا على قدر عظم الذنب وصغره.
ومنها: تكسر القلب بين يدي الرب؛ كسرة تامة قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً، كحال عبد جانٍ آبق من سيده فأُخذ فأُحضر بين يديه، ولم يجد من ينجيه من سطوته" ا.هـ. بتصرف واختصار.
الوقفة السابعة: قوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا)[النور: 31].
لا يخرج منها أحد من البشر، الصالحين منهم والمفسدين، البررة والفجرة، كل مأمور بالتوبة.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستغفر الله، وهو أفضل الخلق، وشرع لنا الاستغفار عقب العبادات؛ إشعاراً للعبد بالتقصير، وأنه محتاج إلى مغفرة ربه، فلا تغتر بعبادتك أيها الطائع لله، وكلما أطعت الله أكثر من التوبة، ولا يدخلنك العجب والرياء، فرب معصية تعقبها توبة وندم وانكسار وخشوع وخضوع، خير من طاعة يعقبها عجب وغرور.
فاللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وتب علينا يا أرحم الراحمين.