الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | خالد القرعاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
فِي القِصَّةِ دَرْسٌ لِلزَّوجَينِ والأَبَوَينِ فِي كَيفِيَّةِ عِلاجِ الخِلافَاتِ الأُسَرِيَّةِ فَرَسُولُ اللهِ شَهرٌ كَامِلٌ يَتَأَمَّلُ وَيَسْتَشِيرُ! فَلَمْ يَتَعَجَّل بِطلاقٍ وبَعضُنا عِندَ أدنى خِلافٍ يَكُونُ الفِراقُ والطَّلاقُ جَاهِزا. وَأبُو بَكْرٍ وأُمُّ رُومَانَ كَانَ تَدَخُّلُهُما لإِطفَاءِ الفِتنَةِ وَحَصْرِ المُشكِلَةِ، لا لإشعالِها. ومِنْ القِصَّةِ يَستَفِيدُ الزَّوجُ المُعَاتِبُ ألاَّ يَظْلِمَ زَوجَتَهُ ولا يُقَبِّحَ ولا يَهجُرَ إلاَّ فِي بَيتِهِ وأنْ يَكُونَ عَادِلا مُنصِفاً وَاضِحَاً، لا كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ السُّفَهاءِ هُجرَانٌ وَطَلاقٌ وَطَرْدٌ بِدُون مَعرِفَةِ السَّبَبِ. وفي القِصَّةِ دَرْسٌ لِأهْلِ العِفَّةِ والحِشْمَةِ فَالنِّسَاءُ لا يَخْرُجْنَ إلاَّ لِحاجَةٍ فلا تَكَشُّفَ ولا أصواتٍ ولا خَلْوَةٍ مُحرَّمَةٍ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي خَلَقَنا الإنسانَ وَهُو أَقرَبُ إلينا مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، لهُ المُلكُ ولهُ الحَمدُ وهو على كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ، نَشهدُ ألَّا إِلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ يَفعَلُ مَا يَشاءُ وَيَحكُمُ مَا يُرِيدُ. وَنَشهدُ أنَّ مُحمَّدا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ أَشرَفُ الخَلْقِ وَأَطهَرُ العَبِيدِ. صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عليه وعلى آلِهِ وَأصحابِهِ وَمَنْ تَبِعَهم بِإحسانٍ وإيمَانٍ إلى يَومِ المَزِيدِ. وَعنَّا مَعهُم بِمَنِّكَ وَكَرَمِكَ يَا وَاجِدُ يَا مَجِيدُ.
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ يَا مُؤمِنُونَ وَتُوبُوا إليهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ.
عِبَادَ اللهِ: لَمَّا تَحَدَّثنا فِي الجُمُعَةِ المَاضِيَةِ عَن الإِفْكِ والبُهتَانِ على أُمِّنا عَائِشَةَ الصِّدِّيقةِ بِنتِ الصِّديقِ -رَضِيَ اللهُ عَنها وأرضَاها- كَادَتِ القُلُوبُ تَطيرُ فَرَقَا مِن هَولِ مَا سَمِعَت! حَقَّاً لَقَد كَشَفَت الحَادِثَةُ عن حِقْدٍ دَفِينٍ على شَخْصِ النَّبِيِّ الكَرِيمِ وَعلى أَهلِ بَيتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَكَشَفَتْ عن قَوْمٍ أَفَّاكِينَ وَمُجرِمِينَ حاقِدِينَ على رَأسِهِم رَأْسُ النِّفَاقِ وَحَامِلُ لِوَاءِ الحِقدِ الدَّفينِ عبدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ ابنِ سَلُولٍ، لَعَنَهُ اللهُ وأخزاهُ: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 11].
لمَّا مَرَّ الصَّحابِيُّ الجَلِيلُ صَفْوَانُ ابنُ المُعَطِّلِ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- حَامِلا أمَّ المُؤمِنينَ على جَمَلِهِ وابنُ سَلُولٍ فِي قَومِهِ فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ: "وَاللهِ مَا نَجَتْ مِنه وَلا نَجَا مِنها! امْرَأَةُ نَبِيِّكُم بَاتَت مَعَ رَجُلٍ ثُمَّ جَاءَ يَقُودُها"!
والله إنِّها قولةٌ خبيثةٌ أذاعتها عِصَابَةُ النِّفَاقِ والشِّقَاقِ، حتى مَعَ الأَسَفِ الشَّدِيدِ لاكَتْها أَلْسُنٌ مُؤمِنَةٌ! نالَت جَزَاءَها في الدُّنيا: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور ــ 13].
هَذا هُو الوَاجِبُ تُجاهَ بَيتِ النَّبِيِّ، وكَذَالِكَ بُيُوتُ أصْحَابِهِ أجمعينَ فَلا يُعرَفُ عَنْهم إلَّا خَيرَاً، وَكَذا بُيُوتُ المُؤمِنينَ. سَأَلَ رَسُولُ اللهِ زينبَ بنتَ جَحْشٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- عَنْ ضَرَّتِها وَجَارَتِها عَائِشَةَ فَقَالت يَا رَسُولَ اللهِ: "أَحمِي سَمْعِي وَبَصَرِي واللهِ مَا عَلِمتُ عَليها إلَّا خَيراً. فَعَصَمَها اللهُ بِالوَرَعِ".
إلَّا أنَّ أَهل النِّفَاقِ والشِّقاقِ الذينَ خَرَجُوا مِنْ رَحِمِ اليَهُودِ أَذَاعُوا بِهِ! فَزَنَادِقَةُ العَصْرِ الذينَ يَتَسَتَّرُونَ بِالإسلامِ وَيَتَشَدَّقُونَ بِمَحَبَّةِ آلِ بَيتِ خَيرِ الأنامِ، يَفْرُونَ فِريتَهَم وَيَصُبُّونَ جَامَ غَضَبِهم على خَيرِ صَحْبٍ وأطْهَرِ بَيتٍ. فَالرَّافِضَةُ الاثْنَا عَشَرِيَّةَ يَقُولُونَ في أَبِي بَكْرِ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهما- كَذِبَا وَزُورَا وأنَّهُمَا الجِبْتُ والطَّاغُوتُ، وأنَّهما في النَّار أَمَّا قَولُهُم فِي بَعضِ أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ وَبِالأَخَصِّ ابنَةَ الصِّدِّيقِ فَلا يَكَادُ يَخْطُرُ لَكُم عَلى بَالٍ!
قَال شَيخُ الصَّفَوِيِّينَ المَجْلِسِيُّ الرَّافِضِيُّ -عَليهِ لَعْنَةُ اللهِ- عِندَ قَولِ اللهِ -تَعَالَى-: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) [الحجر ــ 44] يَقُولُ: "البَابُ السَّادِسُ لِعَائِشَةَ"! وَأَقْسَمَ شَيخُهُم القُمِّيُّ الرَّافِضِيُّ أنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ ابْنَةَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ قَد وَقَعَتَا بِالفَاحِشَةِ! نَعُوذُ بِاللهِ مِن ذَلِكَ سُبْحَانَكَ هَذا بُهتَانٌ عَظِيمٌ.
فَيَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ أَتَظُنُّونَ أنَّ بَينَنَا وَبَينَ الرَّافِضَةِ تَوَافُقٌ وَتَقَارُبٌ دِينِيٌ؟ كَلا وَرَبِّي فَمَا بَينَنَا كَمَا بَينَ المَشرِقِ والمَغرِبِ! وَأَنْتُم تُشَاهِدُونَ بِأُمِّ أَعيُنِكُم مَا يَفْعَلُهُ الرَّوافِضُ فِي حُدُودِنَا الجَنُوبِيَّةِ، وفي عِراقِنا الحَزِينِ، وفي شَامِنا الغَالِي، من التَّآمُرِ مَعَ دُوَلِ الرَّفْضِ، وَمَعَ فِرَقِ التَّكفيرِ والتَّفجيرِ والتَّقتيلِ! وَلَكِنَّ اللهَ تَعالَى لَهُم بِالمِرْصَادِ! فَكَيفَ يُنادِي أُناسٌ بِالتَّقَارُبِ مَعَهُم، والتَّجَانُسِ مَعَ تِلكَ الطُّغْمَةِ الفَاسِدَةِ في عَقِيدَتِها، الهَالِكَةِ في مَسِيرَتِها!
يا مُؤمِنُونَ: عقيدَةُ الوَلاءِ لِلمُؤمِنينَ والبَراءَةِ من الكافِرينَ أصلُ الدِّينِ.
عِبادَ اللهِ: ولْنَعْلَمَ أنَّ شَريعَتَنَا جَاءَتْ لِتَحفَظَ الأنفُسَ الْمَعصُومَةَ مِن التَّعدِّيَ عَليها بغَيرِ حقٍّ، حتى لو اختَلَفْتَ مَعَهُم في الدِّينِ والمَذهَبِ! حتى ولو أَجرَمُوا وَفَجَّروا وخَانُوا وتَآمَروا وسَبُّوا! فَضَلالُهم لا يُبَرِّرُ الاعتِدَاءَ عليهم. فلا نَكيلُ لَهم نَحنُ بالغَدْرِ والخِيَانَةِ.
عِبَادَ اللهِ: فِي حَادِثَةِ الإفْكِ نَعلَمُ يَقِينَاً أَهَمِّيَةَ حِفْظِ الأَعرَاضِ، وأنَّ رَمْيَ المُؤمِنَاتِ الغَافِلاتِ مِن السَّبعِ المُوبِقَاتِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور ــ 23]، فَقَذْفُ مُؤمِنٍ أو مُؤمِنَةٍ يُوجِبُ جَلدَاً فِي الدُّنيا وَعَذَابَاً عَظِيمَاً فِي الآخِرَةِ!
فَيَا مُؤمِنُ: "كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبَا أنْ يُحدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"، وبَعضُ النَّاس سَفَهَاً وَفُحْشَاً تَسمَعُهُ يُطلقُ لِسَانَه بِالَّلعْنِ والسَّبِّ على أتفَهِ سَبَبٍ!
وَبَعضُهم يَقُولُ: يا ابنَ الحَرَامِ يَا ابنَ الزِّنَا وَيَعتَذِرُ بِأنَّهُ عَلى سَبِيلِ المِزَاحِ! وَلَمْ يَعلَمُ أنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ عليهِ حَدَّا فِي الدُّنيا وَعَذَابَا فِي الآخِرَةِ وَفِسْقَاً عِندَ النَّاسِ، والمُؤمِنُ كَمَا وَصَفَهُ رَسُولُ اللهِ "لَيسَ بِالطَعَّانِ ولا اللعَّانِ ولا الفَاحِشِ ولا البَذِيء".
في القِصَّةِ دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لنا فِي كَيفِيَّةِ تَلقِّي الأَخبَارِ وَنَقْلِها! فَبَعْضُ المَرضَى يُطلِقُونَ الأَلْسُنَ ويَنشُرُونَ الأَخبَارَ بِلا تَمْحيصٍ ولا تَدْقِيقٍ ولا تَرَوٍّ. وقد أمَرَنا اللهُ بقَولِهِ: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات ــ 6].
وَمَعَ الأجْهِزَةِ الحَديثَةِ كَثُرت الإشَاعاتُ والافْتِرِاءَاتُ، فاحذروا مِمَّن عَنَاهُم رسولُ اللهِ بِقَولِهِ: "لاَ تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ".
أيُّها المؤُمِنُونَ: فِي القِصَّةِ دَرْسٌ لِلزَّوجَينِ والأَبَوَينِ فِي كَيفِيَّةِ عِلاجِ الخِلافَاتِ الأُسَرِيَّةِ فَرَسُولُ اللهِ شَهرٌ كَامِلٌ يَتَأَمَّلُ وَيَسْتَشِيرُ! فَلَمْ يَتَعَجَّل بِطلاقٍ وبَعضُنا عِندَ أدنى خِلافٍ يَكُونُ الفِراقُ والطَّلاقُ جَاهِزا. وَأبُو بَكْرٍ وأُمُّ رُومَانَ كَانَ تَدَخُّلُهُما لإِطفَاءِ الفِتنَةِ وَحَصْرِ المُشكِلَةِ، لا لإشعالِها.
مِنْ القِصَّةِ يَستَفِيدُ الزَّوجُ المُعَاتِبُ ألاَّ يَظْلِمَ زَوجَتَهُ ولا يُقَبِّحَ ولا يَهجُرَ إلاَّ فِي بَيتِهِ وأنْ يَكُونَ عَادِلا مُنصِفاً وَاضِحَاً، لا كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ السُّفَهاءِ هُجرَانٌ وَطَلاقٌ وَطَرْدٌ بِدُون مَعرِفَةِ السَّبَبِ.
في القِصَّةِ دَرْسٌ لِأهْلِ العِفَّةِ والحِشْمَةِ فَالنِّسَاءُ لا يَخْرُجْنَ إلاَّ لِحاجَةٍ فلا تَكَشُّفَ ولا أصواتٍ ولا خَلْوَةٍ مُحرَّمَةٍ إنَّما أخْذَاً بِقَولِ اللهِ تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) [الأحزاب ــ 33].
هذه بعضُ الدُّرُوسِ والعِبرِ وَمَنْ تَأمَّلَ وَجَدَ المَزيدَ. فاللهمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاها وَزَكِّها أَنتَ خَيرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنتَ وَلِيُّها وَمَولاهَا. اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِنْ مُضلاتِ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنها ومَا بَطَنَ، اللهمَّ انصُرْ مَنْ نَصَرَ الدِّينَ واخذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، واستَغفِرُ رَبِّي لِي وَلَكُم وَلِسَائِرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبِ عَظِيمٍ فَاستَغفِرُوه إنِّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطبةُ الثانية:
الحمدُ للهِ جعلَ رمضانَ سيِّدَ والشُّهورِ، نشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له يَعلَمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصُّدورُ، ونشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه بَعَثَهُ اللهُ بالهدى والرَّحمَةِ والنُّورِ، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ البعثِ والنُّشُورِ.
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله سِرًّا وجهرًا، واجعَلوها عُدَّةً لكم وذُخرًا.
أيُّها المؤمنون: أيامٌ قلائلُ ويٌشرفُ على الدُّنيا رَمَضَانُ المُبارَكُ، وسبحانَ اللهِ كأنَّنا بِالأَمْسِ ودَّعناهُ، وها نحنُ نستقبلُهُ بعد عَامٍ كَامِلٍ، اقتَربت أيَّامُهُ وَلَمَعت أَنوارُهُ، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة ــ 185].
شَهرُ الرَّحمةِ وإقالةِ العثَرات، شهرُ التَّوبةِ وإجابةِ الدَّعوات. يُنادَى كلَّ ليلةٍ فيه: "يا بَاغِيَ الخَيرِ أَقْبِلْ، ويَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ"، مَن صامَهُ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنَّبِهِ، ومَنْ قَامَهُ إيمانًا واحتِسَابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذَنَّبِهِ، ومَن قامَ ليلةَ القَدرِ فيه إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذَنَّبِهِ، كُلُّ ذلِكَ ثبتَ عن النَّبِيِّ فيا لهُ من مَوسمٍ مُباركٍ عَظِيمٍ!
أيُّها الأخيارُ: مَنْ أَرَادَ صِياماً مَقبولاً فعَليه أنْ يَتَطهَّر من أَدْرَانِ الذُّنوبِ وأنْ يَغسِلَ قَلْبَه مِنْ أوحَالِ المَعَاصِي، (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور ــ 31].
فالتَّوبةُ والاستِغفار أَولَى مَا يُستَقبَل به رمضانُ! فكيفَ نلقَى الله تعالى وَنَدعُوهُ؟ ونَطلُبُ خيرَه وإِحسانَه وَنرجوهُ، ونحن مثقَلون بالأوزارِ؟! وقد ذكَرَ لنا النَّبيُّ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَر أَشعثَ أغبر يمدُّ يدَيه إلى السَّماء: يا رَبِّ، يا ربِّ، ومَطعمُه حرامٌ، ومَشرَبه حَرام، ومَلبَسه حَرام، وغُذِّي بالحرام: "فأنَّى يستَجَاب لذلك".
يا مسلمون: استقبِلوا شَهرَكم بردِّ المَظَالِمِ إلى أهلها، وبإخلاصِ العِبادَةِ لله وحدَه واتِّباعِ سُنَّةِ رَسولِهِ قولاً وعَمَلاً! وأظهرِوا الفرَحَ واستبشروا بقدومِ برمضانَ، واحذَرُوا من التَّذمُّرِ والتَّسخُّطِ والتأفُّفِ بِحرارَةٍ جَّوٍّ أو طُولِ نَهَارٍ! فَشَرْعُ اللهِ لَنا رَحمَةً! والمِنَّةُ للهِ تعالى أنْ هَدَانَا لِدِينِ اللهِ والعَمَلِ بهِ، فَلقد كان يُبَشِّرُ أصحابَه فيقولُ: "أتاكم رَمَضَانُ شهرٌ مباركٌ، فَرَضَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- عليكم صِيامَه، تُفتَّحُ فيه أبوابُ السَّمَاءِ، وَتُغَلَّقُ فيه أَبوابُ الجَحِيمِ، وتُغلُّ فيه مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من أَلْفِ شَهْرِ، مَنْ حُرِمَ خَيرَها فَقَد حُرِم".
عباد الله: استقبلوا شَهرَكُم بِصَفَاءِ القُلُوبِ وَنَقَاءِ الصُّدورِ! فَنحنُ مُقبلونَ على خَيرِ الشُّهورِ. فإلى متى ونحن مُتعادُون ومُتَقاطعونَ؟ ألا نَستَفْتِحُ شَهرَنَا بِقُلوبٍ مِلؤُها الصَّفَاءُ والمَودَّةُ؟ والأخوةُ والمحبةُ؟ فَقبلَ صيامِنا عن الطَّعَامِ والشَّرَابِ: دعوةٌ أنْ تَصومَ قُلوبُنا عن الشَّحنَاءِ والبغضاءِ، رَدِّدوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر ــ 10].
عبادَ اللهِ: ومِمَّا يُستقبَلُ به رَمَضَانُ التَّفقُّهُ في الدِّينِ. لِيَعبُدَ المسلمُ ربَّه على علمٍ وبصيرةٍ، فَقَد قالَ النَّبِيُّ: "صوموا لرؤيَتِه وأفطروا لِرُؤيَتِهِ"، فَيدخُلُ الشَّهرُ إمَّا برؤيةِ هلالِ رَمَضَانَ أو بِإكمَالِ شَعبَانَ ثلاثين يَوماً،ولا يجبُ الصومُ حتى يَثْبتَ دُخُولُ الشَّهْرِ؛ لِقولِ النَّبِيِّ : "لا يَتَقَدمنَّ أحَدُكم رَمَضَانَ بِصومِ يومٍ أو يَومَينِ إلاَّ أنْ يكونَ رَجُلٌ كانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فلْيصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ" (رواه البخاري).
ولاَ يُصام يومُ الثلاثينَ من شَعبانَ مَعَ عَدَمِ رؤيَةِ هِلالِ رمَضَان سَواءٌ كانتِ الَّليلةُ صَحْواً أَمْ غَيمَاً لِقولِ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ -رَضِي اللهُ عَنه-: "مَنْ صَامَ اليومَ الَّذي يُشَكُّ فِيه فَقد عَصَى أَبَا القَاسمِ".
ولا عِبْرَةَ بِالحِسَابِ الفَلَكِيِّ المُجرَّدِ كَمَا قرَّرَهُ أهلُ العلم! ومعَ وُضُوحِ هذا التَوجِيهَ النَّبَويَّ الكَريمَ إلاَّ أنَّه مع بدايةِ كلِّ رَمَضَانَ يَحلُو لِبَعضِ النَّاسِ التَّشويشُ والتَّشكِيكُ بلا علمٍ ولا بصيرةٍ، ويَتَفَوَّهُونَ بما لا يعلَمونَ، يُصَوِّبُونَ ويُخَطِّئِونَ وهم يجهَلُونَ أبسَطَ مبادِئِ العِلمِ!
عبادَ اللهِ: شهرٌ هذه بعضُ فَضَائِلِهِ حَقِيقٌ بالإجلال والإكرامِ، وَجَدِيرٌ بأن يُصانَ عن القَبَائِحِ والآثامِ، وأن يُغتَنَم بالطَّاعاتِ، ويُبادرَ فيه بالصَّالحاتِ. فَلنُجاهدْ أنفُسَنَا لِتَحقِّيقِ تَقوى اللهِ بالابتعادِ عن القَنَواتِ الهَابِطَةِ، والمُسَلسَلاتِ السَّاقِطَةِ، والشَّبكاتِ الفاتِنَةِ، والأغاني المَاجِنَةِ، فهناكَ مَن يَصُدُّونَ الخلقَ عن خَالِقِهم! ويُضِلُّونهم عن رَشَادِهم! يَعِدُونَ النَّاسَ ويُمَنُّونَهم: (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) [النساء ــ 120]، "فَمَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ فَلَيسَ لِلهِ حَاجةٌ أنْ يدَعَ طَعَامَهُ وشرَابَهُ"، (واللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء ــ 27].
أيُّها الكِرامُ: أنجِزوا أعمالَكُم وَمُستَلزَماتِكم قَبلَ رَمضانَ، فلَيَالِيَهُ غَالِيةٌ وثَمِينَةٌ. فاللهمَّ بَلِّغنَا رَمَضَانَ ونَحنُ على أَحسَنِ حَالٍ وَخَيرِ عَمَلٍ، وأَعِنَّا فيهِ على الصِّيَامِ وَالقِيَامِ إِيمَانَاً واحتِسَابَا.
اللهمَّ أَعِنَّا فيه على ذِكْرِكَ وشُكرِكَ وَحُسنِ عِبَادَتِك. اللهمَّ اجعل مُستَقبَلَنا خَيرا مِن مَاضِينا وَتَوَفَّنا وأَنتَ راضٍ عنَّا غيرَ غَضبَانَ.
اللهمَّ مَنٍ أرادنا وأرادَ دِينَنَا وأَمنَنَا وبِلادَنا بِسوءٍ فَأشغلهُ في نَفْسِهِ واجعَل كَيدَه فِي نَحرِه. اللهم وعليكَ بالحوثيينَ والرافِضَةِ المُعتدين ومن ناصرهم. اللهم احفظ حُدُودَنا وجُنُودَنا وبلادَنا وبلادَ المُسلمينَ يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى وأعنهم على البر والتقوى وارزقهم بطانةً صالحةً ناصحةً يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمناتِ والمُسلمين والمُسلماتِ الأحياء منهم والأموات. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). عبادَ الله: اذكروا الله العظيمَ يذكُركم، واشكروه على عمومِ نعمه يَزِدْكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعونَ.