الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
ومن معاني حُسن الخُلق أنه طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى عن الناس، هذا مع ما يلازم المسلم من كلام حَسَن، ومدارة الغضب، واحتمال الأذى، وكظم الغيظ لله، وإظهار الطلاقة والبشاشة إلا لمبتدع أو للفاجر، والعفو عن المخطئين إلا تأديبًا وإقامة لحدٍّ، وكفّ الأذى عن كل مسلم ومعاهَد، إلا لتغيير منكر أو أخذ بمظلمة لمظلوم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليم القدير؛ خلق الخلق ودبّرهم بعلمه وقدرته، وقضى فيهم بأمره، وسلّط بعضهم على بعض بحكمته، وأمد للظالم يستدرجه، نحمده على قضائه، ونشكره على عافيته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, من تفكر في خلقه وأفعاله أقر بربوبيته، وأذعن لألوهيته، وعظّمه تعظيمًا، وكبّره تكبيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ اصطفاه الله تعالى واجتباه، وللهدى هداه، ومن كل الفضائل أعطاه (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) [الضُّحى:6-8]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه قبل أن يدهمكم العذاب، وأنكروا ما يقع من ظلم العباد، فلقد عجَّت الأرض بالفساد، وتذكروا جميل ما وصاكم الله به من الإيمان به وبرسوله والاستقامة على شرعه، وحسن تقواه وطاعته، وأحسنوا إلى عباد الله وحسنوا أخلاقكم معهم، واعلموا أن من التزم ذلك كتب الله له أجرًا ورفعه قدرًا، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30- 32]، أسأل الله أن يحبب الإيمان إلى قلوبنا، وأن يدخلنا بفضله في رحمته، آمين.
عباد الله: لا شك أن من الأماني والآمال التي يطمح إليها كل عاقل حصيف، ويسعى جاهدًا في كسبها وتحقيقها، أن يكون ذا شخصية جذابة، ومكانة مرموقة، محببًا لدى الناس، عزيزًا عليهم, وإنها لأمنية غالية، وهدف سامٍ، لا يناله إلا ذوو الفضائل والخصائص الذين تؤهلهم كفاءتهم لبلوغها، ونيل أهدافها، كالعلم والأريحية والشجاعة، ونحوها من الخلال الكريمة, إلا أن جميع تلك القيم والفضائل، لا تكون مدعاة للإعجاب والإكبار وسمو المنزلة، ورفعة الشأن، إلا إذا اقترنتْ بحسُن الخُلق، وازدانت بجماله الزاهر، ونوره الوضاء، فإذا ما تجردت عنه فقدت قيمتها الأصيلة، وغدت صورًا شوهاء تثير السأم والتذمر. لذلك كان حسن الخلق ملاك الفضائل ونظام عِقْدها، ومحور فلكها، وأكثرها إعدادًا وتأهيلاً لكسب المحامد والأمجاد، ونيل المحبة والاعتزاز.
أيها الإخوة: إن حُسن الخلق هو حالة نفسية تبعث على حُسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة، وهو أن تلين جناحك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشْر حسن... إلخ تلك الصور الني تدل على طيب النفس وقوة سماحتها.
ومن معاني حُسن الخُلق أنه طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى عن الناس، هذا مع ما يلازم المسلم من كلام حَسَن، ومدارة الغضب، واحتمال الأذى، وكظم الغيظ لله، وإظهار الطلاقة والبشاشة إلا لمبتدع أو للفاجر، والعفو عن المخطئين إلا تأديبًا وإقامة لحدٍّ، وكفّ الأذى عن كل مسلم ومعاهَد، إلا لتغيير منكر أو أخذ بمظلمة لمظلوم، كل ذلك من غير تعدٍّ.
أيها المسلمون: الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة أساس لكل خير وفضيلة، وأساس لكل رقي يُحرز في الحياة، كما أن حسن الخلق مقياس لمقدار تقدم الأمة والجماعة في مضمار الحياة, لأن الحياة عقيدة وجهاد.
وقد حثَّ النبي -صلى اللّه عليه وسلم- على حُسن الخلق، والتمسك به، وجمع بين تحصيل التقوى وحسن الخلق وجعلهما من أسباب دخول الجنة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: " أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى اللّه وحسن الخلق" [الترمذي (2004) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(2642)]. بل وجعل -صلى اللّه عليه وسلم- الخُلق الحسن مقياسًا يرفع صاحبه ويفضله على غيره، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلاقاً" [البخاري (3559)، واللفظ له، ومسلم (2321)].
وأرشد النبي -صلى اللّه عليه وسلم- أصحابه إلى أن حسن الخلق يكسب محبة الخلق ورضا الرب، وأن العباد لن يستطيعوا مد أيديهم بالمال لكل محتاج ولكنهم يستطيعون أن يكونوا نبلاء أصفياء معهم، يسعونهم بأخلاقهم وحسن سلوكهم، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صلى اللّه عليه وسلم- : "إِنَّكُم لن تسعوا النَّاس بأموالكم ، وَلَكِن يسعهم مِنْكُم بسط الْوَجْه وَحسن الْخلق" [مسند أبي يعلى (6550) وقال الألباني في صحيح الترغيب (3/9): حسن لغيره].
وتأمل - أخي الكريم- الفضل العظيم والثواب الجزيل لهذه المنقبة المحمودة والخصلة الطيبة، فقد جاء من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال -عليه الصلاة والسلام-: " إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم" [أبو داود (4800) وصححه الألباني في صحيح الترغيب(2643)]. كما عدَّ النبي -صلى اللّه عليه وسلم- حُسن الخلق من كمال الإيمان، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال - عليه الصلاة والسلام-:"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً " [أبو داود (4682) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1230)].
وأخبرنا -صلى الله عليه وسلم- بأن صاحب الخلق الحسن تحرم عليه النار، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللّه عليه وسلم-، قَالَ: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ"؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ" [صحيح ابن حبان (469) وصححه الألباني]. وأشار صلى الله عليه وسلم إلى مكانة الخُلق الحسن في ميزان العباد يوم القيامة، ذلكم الميزان الذي يجد الناس فيه كل ما قدموه من اعتقاد وقول وفعل، ونبّه إلى أن العبد قد لا يجد أثقل في ميزانه من حسن خُلقه مع عباد الله، فعن أبي الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء" [الترمذي (2002) وصححه الألباني]. نسأل الله أن يثقل موازيننا.
عباد الله: وحسن الخلق مع الناس عبادة لطيفة وخفيفة، وجه مبتسم وكلمة طيبة، وكف أذى، والمسلم مأمور بالكلمة الهيِّنة الليِّنة لتكون في ميزان حسناته صدقة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "والكلمة الطيبة صدقة" [البخاري (2989) ومسلم (1009)]، وليست الكلمة فقط بل وحتى التبسم الذي لا يكلف المسلم شيئاً، له بذلك أجر، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة " [البخاري في الأدب المفرد (891) وصححه الألباني].
عباد الله: مكارم الأخلاق صفة من أخص صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، بها تُنال الدرجات، وتُرفع المقامات، فكفى بحسن الخلق شرفًا وفضلاً، أن الله -عز وجل- لم يبعث رسله وأنبياءه للناس إلا بعد أن حلاهم بهذه السجية الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان شخصياتهم
.
وقد خص اللّه -جل وعلا- نبيه محمدًا -صلى اللّه عليه وسلم- بآية جمعت له محامد الأخلاق ومحاسن الآداب فقال -جل وعلا-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، فلقد كان سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في حسن الخلق، وغيره من كرائم الفضائل والخلال. واستطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب ويسحر العقول، وحينها استحق ثناء الله تعالى عليه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]. وقد حفلت سنته بكثير من التوجيهات النبوية في الحث على حسن الخلق واحتمال الأذى، وسيرته -صلى اللّه عليه وسلم- نموذج يُحتذى به في حُسن الخُلق مع نفسه، ومع زوجاته، ومع جيرانه، ومع ضعفاء المسلمين، ومع جهلتهم، بل وحتى مع الكافر، قال تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].
نعم لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم قومه حفظًا للأمانة، وخيرهم جوارًا، وأصدقهم حديثًا، وأكثرهم اتصافًا بمكارم الأخلاق، وكانت حياته كلها هداية ونورًا، وأفعاله وأقواله جميعها مددًا يَستمد منه الخلق سدادهم وإرشادهم في معاشهم ومعادهم, ولهذه الخلال الطيبة، والصفات المحمودة أثنى الله عليه ثناءً بالغًا، واختاره على سائر الخلق وجعله أفضل ولد آدم، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، وقال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) [النجم:3،4].
ومن حُسن خلقه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصل الرحم، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر، ويغيث ذا الحاجة الملهوف، وقد مدحته أمنا خَدِيجَةُ -رضي الله عنها- بفضائل الأخلاق ومحاسنها، فقالت: "وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" [البخاري: 3]. وبينت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- خُلقه العظيم، وفسَّرته حينما سُئلت عن خلق النبي قالت: "كان خلقه القرآن" [مسند أحمد (24645) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4811)]، أي يتأدب بآدابه، ويأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه.
ويصور أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه- أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- فيقول: "كان أجود الناس كفًّا، وأجرأ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة, من رآه بديهة هابه, ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده".
وحسبنا أن نذكر ما أصابه من قريش، فقد تألبت عليه، وجرعته ألوان الغصص، حتى اضطرته إلى مغادرة أهله وبلاده، فلما قويت شوكته وزاد مناصروه, رجع فاتحًا مكة ونصره الله عليهم، وأظفره بهم، فلم يشكّوا أنه سيثأر منهم، وينكّل بهم، فيُرْوَى أنه ما زاد على أن قال: "ما تقولون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: "أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء".
واعلم -عبد الله- أن حسن الخلق يورثك محبة سيد المرسلين والقرب من خاتم النبيين، ومنه ترتقي لمحبة رب العالمين، ويؤهلك لشرف رؤية وجه الكريم وسكنى دار النعيم، عن عبدالله بن عمر بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أحبكم إلىّ أحسنكم أخلاقاً " [البخاري (3759)]. وحسن الخلق يقربك من منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدنيك منه يوم القيامة، ويمنحك شفاعته، فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا،" [صحيح الترمذي (2018)].
فعلى المسلم أن يدرس سيرته في كل جوانب حياته ليعلم كيف كان تأدبه مع ربه ومع الناس ومع أهله وأصحابه وغير المسلمين، ومما يعين على حسن الخلق مجالسة الأتقياء, لأن الإنسان يتأثر بمن يجالسه ويخالطه, وأن يذكر نفسه بفضل وعظيم ثواب وأجر هذه الخصلة التي قل من يحوزها, وتمرين النفس عليها فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلم, والاستعانة بالله, وكثرة الدعاء والتضرع إليه.
عباد الله: إن حسن الخلق له صور متنوعة، وأشكال مختلفة، في حياة العباد الواسعة, فمن حسن الخلق بر الوالدين، وصلة الأرحام وإن قطعوها، وفي الحديث: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها" [البخاري 5991].
ومن حسن الخلق الإحسان إلى الجيران، وإيصال النفع إليهم ولو جفوك، ومنه إفشاء السلام على القريب والبعيد، ومنه طيب الكلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام، فقد بشر النبي من كان هذا خلقه بدخول الجنة بسلام، ومنه أن تبدأ أهلك بالسلام إذا دخلت عليهم، فهذه سنة مشهورة، وقد أصبحت عند الكثير من الناس اليوم مهجورة، مع أنها بركة على الداخل المسلم وأهل بيته كما بين ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام-.
ومن حسن الخلق معاشرة الزوجة بالإكرام والاحترام، وبشاشة الوجه وطيب الكلام، قال -صلى الله عليه وسلم- كما من حديث عائشة -رضي الله عنها-: "خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي" [الترمذي (3895) وصححه الألباني].
ومن حسن الخلق: معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء، وترك التنكر لهم والجفاء، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والنصيحة لهم، فذلك من أهم أخلاق دين الإسلام، ومن حسن الخلق معاهدة الجسم والثياب المنزل بالنظافة، فإن الله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، وإن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثرها عليه.
نسأل الله أن يرزقنا حسن الأخلاق، وأن يجنبنا أراذلها، وأن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
عباد الله: وثمرات حُسن الخلق كثيرة لا يسعها الحصر، ولا يستوفيها العدّ, لكنها إضاءات على طريق الطامحين لهذا المقام، والطامعين لرفقة سيد الأنام، والمتشوقين لرؤية الملك العلام بعد أن منحهم مكارم العطاء، وجزيل الإنعام، ولِمَ لا؟ وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- الأخلاق الفاضلة سببًا للوصول إلى درجات الجنة العالية، يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133، 134].
وبحسن الخلق يفتح العبد لنفسه بابًا إلى الجنة، ويضرب العبد حول نفسه حصارًا يقيه من النار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُل:ٌ يَا رَسُولَ اللَّه،ِ إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ: "هِيَ فِي النَّارِ"، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: "هِيَ فِي الْجَنَّةِ" [مسند أحمد (9673)وصححه الألباني]، ومن هذا يتبين لنا أن حُسن الخلق كفيل بالجنة لمن اتخذه منهجًا وطريقًا، كما أن سوء الخلق ضمين بزج صاحبه في النار لمن سلكه وتقحمه، وتخلق به.
وقد جُمعت علامات حسن الخلق في صفات عدة، فاعرفها - أخي المسلم - وتمسَّك بها. منها: أن يكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، بَرًّا وصولاً، وقوراً، صبوراً، شكوراً، راضياً، حليماً، رفيقاً، عفيفاً، شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً، ولا نماماً ولا مغتاباً، ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخيلاً، ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً، يحب في اللّه، ويرضى في اللّه، ويغضب في اللّه.
عباد الله: وفي مقابل ذلك فإن أصل الأخلاق المذمومة وجماعها: الكبر والمهانة والدناءة، والفخر والبطر والأشَر والعجب والحسد والبغي والخيلاء، والظلم والقسوة والتجبر، والإعراض وإباء قبول النصيحة والاستئثار، وطلب العلو وحب الجاه والرئاسة، وأن يُحمد بما لم يفعل وأمثال ذلك، كلها ناشئة من الكبر.
وأما الكذب والخسة والخيانة والرياء والمكر والخديعة والطمع والفزع والجبن والبخل والعجز والكسل والذل لغير اللّه واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ونحو ذلك، فإنها من المهانة والدناءة وصغر النفس.
عباد الله: ومن الكلمات الجامعة ما كان ينقل عن السلف أن "الدين هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق، فقد زاد عليك في الدين"، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "مَن ساء خلقه عذَّب نفسه"، وقال الفضيل بن عياض-رحمه الله-: "لأن يصحبني فاجر حَسَن الخلق أحب إليَّ من أن يصحبني عابد سيء الخلق". وصحب ابن المبارك رجلاً سيئ الخُلق في سفر، فكان ابن المبارك يحتمله ويداريه، فلما فارقه بكى ابن المبارك فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: "بكيت رحمةً به، فارقته وخلقه السيئ لم يفارقه".
إن الدين كله هو المعاملة والتي تعني حُسن الخلق، وإن مثَل حسن الخلق في الدين كمثل اللآلئ في البحار، واللّباب في الثمار, وإذا تجرّد المؤمن من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات لم يبق من دينه إلا الصورة والشّعائر، ولم يبق من طبعه إلا الشكل والمظاهر. فالدين كلّه خُلق، ومن سبقك في الخلق، سبقك في الدين. مثلما يُعنى المرء بجسده المنسوب إلى الطّين، ينبغي أن يُعنى بتجميل نفسه وتطهير روحه المنسوبة إلى رب العالمين.
إن الخُلق الذي يُعتدّ به يجب أن يكون هيئة راسخة في النفس، كما يقول الإمام الغزالي -رحمه الله-: "تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، من غير ما حاجة إلى رويّة وفكر"، فلا يتلون العبد ولا يتغير بحسب الأهواء.
وصاحب الخُلق الحسن كحامل المسك والطيب، يُحذيك، أو تطلب منه، أو تجد منه ريحاً طيّبة, فعن خُلقه الكريم تصدر الآثار، كما يصدر الشُّعاع عن الأنوار، والأريج عن الأزهار، من غير توقّف أو تكلّف.
إن أَمارات رسوخ الأخلاق في الإنسان لا تخفى على العيان بالمصاحبة والمعاشرة، وما أسرّ أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلَتات لسانه.
ومهما تكن عند امرئ من خَليقة | وإن خالها تخفى على الناس تُعلم |
أيها الإخوة: يظنّ مرضى النفوس أن الأخلاق كلّها فطرية، وأن ليس للإنسان من الخصال إلا ما جبله عليه الكبير المتعال، ولن تجد لما خلق الله تبديلاً ولا تحويلاً، وقد رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف!, وتلك حُجّة لا تستوي على ساق، لمعارضتها لسنّة الخلاّق، فإن الله تعالى يدعو إلى تزكية النّفوس فيقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وقَدْ خَابَ مَنْ دسَّاهَا) [الشمس: 9-10]، والله لم يشرع ما ليس ممكنا ولا ما كان مستحيلا.
ناهيك عن معارضتها لهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- في دعوته إلى تهذيب الأخلاق, كما في حديث علي -رضي الله عنه-, قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهمّ اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيِّئها لا يصرف عني سيِّئها إلا أنت" [مسلم (771)]، ولو كان الأمر كما يزعمون لضلَّت المجاهدة، ولبطلت الوصايا والمواعظ. إن الحيوان يقبل التدريب والانقياد، فكيف يعجز عن مثله العباد؟!.
لو كانت الطباع كلها فطريّة لما وُضع الإنسان تجاهها موضع الابتلاء والتكليف.فالمؤمن مسؤول عن اكتساب ما يستطيع من الفضائل والخصال، فإذا أهمل تربية نفسه وتهذيبها فإن نفسه تنمو مثل أشواك الغاب، وسيُحاسب على إهماله، ويجني ثمرات تقصيره، وصدق من قال:
والنفس كالطفل إن تُهمله شبَّ على | حب الرّضاع وإن تفطمه ينفطمِ |
فلا غَرو إذا دعا رسولنا الأكرم -صلى الله عليه وسلم- إلى التدريب والرياضة النفسية، كما ورد في الأثر عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: "العِلم بالتعلّم، والحِلم بالتحلّم" [صحيح الجامع (2328)] وكما في دعوته عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "من يَستعفِفْ يُعفَّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبَّرْ يُصبِّره الله" [أبو داود (1644) وصححه الألباني]، فلا مناص من أن يرتاض المؤمن، ويصقل قلبه، ويُهذِّب نفسه بأنواع الرياضة، من أجل أن يقوِّم أخلاقه، ويداوي عيوبه، ويدفع نفسه في مدارج الترقي، ويثير فيها كامن المعالي.
والانغماس في بيئة صالحة ينقل من الجماعة إلى الفرد ما تتَّسم به الجماعة من محاسن العادات، ومحامد الأخلاق، وذلك عن طريق السِّراية والمحاكاة، فالجبان في بيئة الشجعان لا يبقى جباناً، والشحيح في كنف الكرماء لا يدوم شحّه.
والأخلاق الفاضلة يمكن أن تتحصّل بالاكتساب، بغرس الفضائل في النفوس، وسقيها بماء النصح والإرشاد، حتى تصبح للمرء ملكة من ملكات النفس، وسجيَّة من سجايا الطبع. فهيا إلى رياضة ينكشف دجاها عن تطهير في الطباع، وينجلي نفعها عن تبديل في الأوضاع!.
إنها مناسبة كريمة أن تحتسب أجر التحلي بالصفات الحسنة، وتقود نفسك إلى الأخذ بها وتجاهد في ذلك، واحذر أن تدعها على الحقد والكراهة، وبذاءة اللسان، وعدم العدل، والغيبة والنميمة والشح وقطع الأرحام. وعجبت لمن يغسل وجهه خمس مرات في اليوم مجيباً داعي اللّه، ولا يغسل قلبه مرة في السنة ليزيل ما علق به من أدران الدنيا، وأمراض القلب، ومنكر الأخلاق!.
واحرص على تعويد النفس كتم الغضب، وليهنأ من حولك؛ مِن والدين، وزوجة وأبناء، وأصدقاء، ومعارف، بطيب معشرك، وحلو حديثك، وبشاشة وجهك، واحتسب الأجر في كل ذلك.
عليك -أخي المسلم- بوصية النبي -صلى اللّه عليه وسلم- الجامعة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- لأبي ذر -رضي الله عنه-: "اتق اللّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلق حسن" [الترمذي (1987) وصححه الألباني]، فحُسن الخلق يوجب التحاب والتآلف، وسوء الخلق يُثمر التباغض والتحاسد والتدابر.
فاتقوا الله -عباد الله- وحسنوا أخلاقكم ما استطعتم، واعلموا أن للنفوس جماحًا، فأحيانًا للهوى، وأحيانًا للحمق، وأحيانًا للشقاق، فخيركم من يملك زمام نفسه ويسيطر على أعصابه، ولا يترك الشيطان والهوى يتحكمان في أفعاله ومصيره.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنها سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.