السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزكاة |
اعلَمُوا أنَّ الزكاة هي الركنُ الثالث من أركانِ الإِسلام، وهي المواليةُ للصلاة بينَ تلك الأركان، وقرينتها في الذكر في كثيرٍ من آي القرآن، حيثُ قَرَنَها الله -سبحانه- بالصلاة في نيفٍ وثلاثين آيةً، مما يدُلُّ على أهميتِها، وعظيمِ مكانتها، وفيها مصالحُ عظيمةٌ؛ أعظمُها: شكرُ الله -تعالى-، وامتثالُ أمرِه بالإِنفاق مما رَزَقَ، والحصولُ على وعده الكريم للمنفقين بالأجر. ومنها: مواساةُ الأغنياء لإِخوانهم الفقراء في سَدِّ حاجاتهم، ودفع الفاقة عنهم. ومنها: تطهيرُ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، جَعَلَ في أموالِ الأغنياء حقّاً للفقراء والمساكين، وللمصارف التي بها صلاحُ الدنيا والدين.
وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، ولا نعبدُ إلا إيَّاه مخلصين موحدين، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلَمُوا أنَّ الزكاة هي الركنُ الثالث من أركانِ الإِسلام، وهي المواليةُ للصلاة بينَ تلك الأركان، وقرينتها في الذكر في كثيرٍ من آي القرآن، حيثُ قَرَنَها الله -سبحانه- بالصلاة في نيفٍ وثلاثين آيةً، مما يدُلُّ على أهميتِها، وعظيمِ مكانتها، وفيها مصالحُ عظيمةٌ؛ أعظمُها: شكرُ الله -تعالى-، وامتثالُ أمرِه بالإِنفاق مما رَزَقَ، والحصولُ على وعده الكريم للمنفقين بالأجر.
ومنها: مواساةُ الأغنياء لإِخوانهم الفقراء في سَدِّ حاجاتهم، ودفع الفاقة عنهم.
ومنها: تطهيرُ نفس المزكِّي من البُخلِ والشُّحِّ، والأخلاقِ الذميمةِ، وجعلُه في صفوف المحسنين الذين يُحبُّهم الله ويحبهم الناسُ، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة:103].
وقال تعالى: (وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:93].
ومنها: أنَّها تسببُ نماءَ المال، وحلولَ البركة فيه، قالَ تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].
وفي الحديث الصحيح: "يقولُ الله -تعالى-: يا ابنَ آدم أَنفقْ أُنْفِقْ عليك".
ومنع الزكاة يسببُ أضراراً عظيمة، منها: الحرمانُ من هذه المصالح المترتبة على إخراجِها، ومنها: تعريضُ المال للتلَفِ والهلاك، ففي الحديث الذي رواه البزارُ عن عائشة -رضي الله عنها-: "ما خالَطَتِ الزكاةُ مالاً قَطُّ إلا أهلَكَتْه".
وأنتم تَرَوْنَ وتسمعون اليومَ ما يُصيبُ الأموالَ من الكوارث التي تتلفُها من حريقٍ، وغَرَقٍ، ونَهْبٍ، وسلبٍ، وخسارةٍ، وإفلاسٍ، وما يصيبُ الثمارَ من الآفاتِ التي تقضي عليها أو تُنقُصها نقصاً ظاهراً.
وهذا من عقوباتِ منع الزكاة.
ومنها: منعُ القطرِ من السماء الذي به حياةُ الناس والبهائم، ونموُّ الأشجار والثمار، وفي الحديث: "وما مَنَعَ قومٌ زكاةَ أموالهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ".
كما تشاهدون انحباسَ الأمطارِ عن كثير من البلاد، وما نَتَجَ عن ذلك من الأضرار العظيمة.
هذه عقوبات عاجلة.
وأمَّا العقوباتُ الآجلة، فهي أشدُّ من ذلك، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة:34-35].
وكلُّ ما لا تؤدَّى زكاتُه، فهو كنزٌ يعذّبُ به يومَ القيامة، يدُلُّ على ذلك الحديثُ الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قالَ: "ما مِنْ صاحبِ ذهبٍ ولا فضة لا يؤدِّي حقَّها إلا إذا كانَ يوم القيامة صُفِحَت له صفائحُ من نارٍ، فأُحْمِيَ عليها في نارِ جهنم، فَيُكوى بها جنبهُ وجبينه وظهرُهُ، كلَّما بَرَدت أُعيدت له في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة حتى يُقْضَى بينَ العباد، فيرى سبيلَه إما إلى الجنةِ وإما إلى النار".
وقال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران:180].
يدُلُّ على ذلك الحديثُ الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قالَ: "مَنْ آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَهَ مُثِّلَ له شجاعاً أقرع -أيْ: ثعباناً عظيماً- كريهَ المنظر، له زبيبتان يطوِّقُهُ يوم القيامة، ثم يأخُذُ بِلَهْزِمَتَيْه -يعني: شدقيه- ثم يقولُ: أنا مالُك، أنا كنزُك".
هذه عقوبةُ مانعِ الزكاة في الآخرة، قد بيَّنها الله ورسوله، وهي أنَّ المال غيرَ المزكى يجعَلُ صفائح تُحْمَى في نار جهنم يُكْوَى بها جبهتُه وجنبُه وظهرهُ، ويُجْعَلُ أيضاً ثعباناً عظيماً يطوِّقُ به عنقَه، ويُمسكُ بشدقيه ويلدَغُه، ويُفرغُ فيه السمَّ الكثيرَ الذي يتألَّم منه جسمه.
وليسَ هذا العذابُ يحصُلُ في ساعةٍ وينقطعُ، بل يستمرُّ خمسين ألفَ سنة.
نعوذُ بالله من ذلك.
ومانعُ الزكاة إذا عُرِفَ عنه ذلك، فإنه لا يجوزُ تركُه، بل يجبُ الإِنكارُ عليه ونصحه، فإن أَصَرَّ على منعِها وَجَبَ على وليِّ الأمر أن ينظُرَ في شأنِه، فإن كان جاحداً لوجوبِها، وجبَ أن يُستتابَ، فإن تاب وأدَّى الزكاة، وإلا وَجَبَ قتلُه مرتدّاً عن دين الإِسلام.
وإن كان مقرّاً بوجوبِها، ولكنه منعَها بُخلاً، وجبَ تعزيرُه، وأخذُها منه قهراً.
وإن لم يمكن أخذُها منه إلا بقتالٍ، فإنه يقاتَلُ، كما قاتَلَ الصحابةُ -رضي الله عنهم- مانعي الزكاة، بعد وفاةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى خَضَعُوا لدِفعِها، والتزموا بحُكْمِها.
واعلم -عبادَ الله-: أنَّ الأموالَ التي تَجِبُ فيها الزكاةُ أربعة أنواع:
النوع الأول: النقدان: الذهب والفضة، وما يقومُ مقامَهما من الأوراق النقدية التي يتعامَلُ بها الناس اليوم، سواء سُميت دراهم، أو ريالات، أو دنانير، أو دولارات، أو غير ذلك من الأسماء.
فمن كان عنده نصاب من الذهب أو الفضة، أو ما يعادِلُ النصابَ من تلك الأوراق النقدية، أو أكثر من النصاب، وحالَ عليه الحَوْلُ، فإنه تجبُ فيه الزكاة.
ومقدارُها: ربعُ العشر.
أي: ريالان ونصف من كل مئة.
سواءٌ ادَّخرها للتجارةِ، أو للنفقة، أو للزواج، أو لشراء بيت، أو سيارة، أو غير ذلك من حوائجِه.
وسواءٌ كانت هذه النقودُ لكبيرٍ أو لصغير أو لمجنون.
فتجبُ الزكاةُ في أموال الأيتام والقصار، ويخرجها عنهم وليُّهم.
ورِبْحُ الدراهم حولُه حولُها، فيُزكي الربحَ معَ رأسِ المال ولو لم يَمْضِ على الربحِ إلا مدةٌ يسيرة، أو لم يَمْضِ عليه شيءٌ.
والموظَّفُ الذي يدَّخِرُ من مُرَتَّبِه كُلَّ شهر مبلغاً، الأحوطُ له، والأسهل عليه: أن يجعَلَ شهراً من السنة كشهرِ رمضان وقتاً لإِخراجِ زكاةِ ما اجتمع لديه من النقودِ إلى مثل هذا الشهر من السنةِ القادمة.
ومَنْ كان له ديونٌ في ذمم الناس، سواءٌ كانت قروضاً، أو أثمانَ مبيعات مؤجَّلة أو أُجوراتٍ، فإن كانت هذه الديون على أناسٍ مُوسرين باذلين، يستطيعُ الحصولُ عليها عندما يطلبها منهم، فإنه يُزَكِّيها إذا تَمَّ لها حولٌ من حينِ العقد، سواءٌ قبضَها منهم أو لم يقبِضْها، كما يزكِّي المالَ الذي بيده.
وإن كانت هذه الديون على معسرين أو على مماطلينَ، ولا يدري هل يحصُلُ عليها، أم تذهَبُ، فإنه يُزَكِّيها إذا قَبَضَها عن سنة واحدة فقط على الأصح.
وإذا كان على الإِنسان ديونٌ للناس وعنده نقودٌ، أو عروض تجارة، فالأصحُّ من قولي العلماء: أنَّ الديْنَ لا يمنَعُ وجوبَ الزكاة فيما عنده فيزُكي ما عندَه من النقودِ والعروض.
النوع الثاني من الأموال التي تجبُ فيها الزكاة: عُروضُ التجارة، وهي السلعُ المعروضة للبيع طلباً للربحِ، كالأقمشة، والسيارات، والآليات، وقطع الغيار، والأراضي، والعمارات المعدة للبيع، ومحتويات البقالات من أنواعِ الأطعمة، والأشربة، والمعلبات، ومحتويات الصيدليات من الأدوية والأدوات الطبية، وأدوات البناء بأنواعها، وما تحويه المكتباتُ التجارية من الكتبِ وغيرها، فإنه عندَ تمامِ الحول عليها أو على ثمنِها الذي اشتُريت به يُقَوِّمها، أي: يقدرُ قيمتَها التي تساويها عندَ تمامِ الحول، سواءٌ كانت قدرَ قيمتها التي اشتراها بها أو أقلَّ أو أكثرَ، ولا ينظرُ إلى ما اشتراها به، ويُخرجُ ربعَ العشر من القيمة المقدرة.
ولا يتركُ شيئاً مما أُعِدَّ للبيعِ كبيراً كان أو صغيراً إلا ويُقَدِّرُ قيمتَه، بأن يُجرِّدُ كُلَّ ما عنده، ويقوِّمَه لإِخراج زكاتِهِ، ولا زكاة فيما أُعِدَّ للتأجيرِ من العمارات والسيارات والدكاكين والآليات وغيرِها، فلا زكاة في نفسِ هذه الأشياء، وإنما الزكاة في أُجرتِها إذا حالَ عليها الحولُ من حينِ عقد الإِجارة.
ولا زكاة على الإِنسان فيما أعدَّه للاستعمالِ كالمسكن والمتجر، أي: المحل الذي يجلسُ فيه للبيع والشراء، والسيارات التي يركبها، وغير ذلك من مستعملاته.
والذي عنده مصنعٌ، أو ورشةٌ للحدادة، أو لإِصلاح السيارات، أو عنده مطبعةٌ، لا زكاةَ عليه في الآليات التي يستخدمُهَا للعمل، وإنما الزكاةُ في الغَلَّةِ التي يحصُلُ عليها من ذلك المصنع أو الورشة أو المطبعة، بأنْ يُخْرِجَ ربعَ العشر مما حال عليه الحول من الدراهمِ التي يحصُلُ عليها من هذه الأشياء.
والأسهُمُ التي للإنسان في الشركات: إن كانت شركاتِ استثمارٍ، كشركات المصانع، أو شركات النقل، وشركات الكهرباء والإِسمنت.
فهذه تجبُ الزكاة في غلتها، فإذا حَصَلَ المسهمُ على شيءٍ من غلة أسهُمِه في الشركة، فإنه يزكيه.
وأما الأسهمُ التي له في الأراضي التجارية، فتجبُ عليه زكاة أسهمه منها بأن يقوِّمَ تلك الأراضي عند تمامِ حولها، ويخرجَ ربع عشر قيمة نصيبه منها.
النوع الثالث: من الأموال التي تجب فيها الزكاة: بهيمةُ الأنعام من الإِبل والبقر والغنم.
والنوعُ الرابع: الخارجُ من الأرض.
وتفاصيلُ أحكام زكاةُ هذين النوعين، مبسوطة في كتب الفقه، وبإمكان مَنِ احتاج إلى شيءٍ منها أن يسأَلَ أهلَ العلم؛ لأنه لا يتسعُ هذا المقامُ لذكرِها.
واعلموا -رحمكم الله-: أنه لا بُدَّ من النيةِ عندَ دفع الزكاة، لأنها عبادة، والعبادة لا تَصِحُّ إلا بنيةٍ، لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّما لِكُلِّ امرئٍ ما نَوَىَ".
فينوي عندَ دفعها أنَّها زكاةٌ.
ولو دَفَعَ دراهِمَ وهو لم ينوِها زكاةً، ثم نَوَىَ بعد زكاة لم تجز، وعلى المسلمِ أن يُحصيَ ما لديه من المال الذي تجبُ فيه الزكاة إحصاءً دقيقاً لئلا يبقى من ماله شيءٌ لم تُخْرَجْ زكاتُهُ.
فيوجبَ ذلك محقَهُ وتلفَه.
ويجوزُ للإِنسان: أن يوكِّلَ مَنْ يُحصي مالَه، ويخرجُ زكاته نيابةً عنه.
ويجبُ على المزكي: أن يُخرجَ الزكاة طيبة بها نفسُه غير متمنِّن بها، ولا مستكثرِ لها، ولا كاره لإِخراجها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [البقرة:264].
وكراهية إخراج الزكاة من علامات النفاق، قال تعالى في المنافقين: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة:54].
ويستحَبُّ: أن يدعو عند إخراجها، فيقول: "اللهُمَّ اجعَلْها مغنماً، ولا تجعلْها مغرماً".
ويقول آخذُها: "آجرَك الله فيما أَعطيتَ، وباركَ لك فيما أبقيتَ، وجعلَه لك طَهوراً".
فاتقوا الله -عبادَ الله- في أمور دينِكم عامةً، وفي زكاةِ أموالكم خاصة.
عبادَ الله: وينبغي للإِنسان: الاستكثارُ من صدقة التطوع أيضاً في هذا الشهر الكريم، والموسمِ العظيم، لحديث أنس: "سُئِلَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ فقال: "صدقة في رمضانَ"[رواه الترمذي].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تصدَّقَ بعَدْلِ تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ، ولا يصعَدُ إلى الله إلا الطيبُ، فإن الله يقبَلُها بيمينه، ثم يربيها لصاحبِها حتى تكونَ مثلَ الجبل العظيمِ"[متفق عليه].
وعن أنس مرفوعاً: "إنَّ الصدقةَ لتُطفئُ غضبَ الرب، وتدفَعُ ميتةَ السوءِ".
والآيات والأحاديث في هذا كثيرةٌ معروفة.
والصدقةُ في هذا الشهر فيها اقتداءٌ بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يتضاعَفُ جودُه فيه أكثر من غيره.
نسألُ الله أن يوفِّقَنا وإيَّاكم لما يُحِبُّه ويرضاه، وأن يشملَنا بعفوِهِ ومغفرته ورحمته.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:103-104].
بارك الله لي ولكم في القرآن.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله رب العالمين، له الحمدُ في الآخرة والأولى، أغنى وأقنَى، ووَعَدَ من أعطى وأتقى، وصدَّق بالحسنى، أن ييسرَه اليُسرى، وتوعَّدَ مَنْ بَخِلَ واستغىَ وكَذَّبَ بالحسنى، أن يُيسرهَ للعُسرى.
وأشهَدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماءُ الحسنى، وأشهَدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله صاحب المقام المحمود. والحوض المورود والشفاعة العُظمى، صَلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين بَذَلُوا أنفسَهم وأموالَهم في سبيل الله، واستمسكوا من الإِسلام بالعروِة الوثقى، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلمُوا أنَّ ما تُخرجونه من الزكاةِ وغيرها من الصدقاتِ بنية خالصة، ومن كسبٍ حلالٍ: أنه يكون قرضاً حسناً تُقرضونه رَبَّكم، وتجدونه مدَّخراً لكم، ومضاعفاً أضعافاً كثيرة، فهو الرصيدُ الباقي، والتوفيرُ النافع، والاستثمار المفيدُ، مع ما يخلفُ الله لكم في الدنيا، من نموِّ أموالكم، وحلولِ البركة فيها.
فلا تستكثروا مبالغَ الزكاةِ التي تدفعونها، فإنَّ بعضَ الناس الذين يملكون الملايينَ الكثيرة قد يستكثرون زكاتها، ولا ينظرون إلى فضلِ الله عليهم حيثُ مَلَّكَهم هذه الملايين، وأنه قادرٌ على أن يسلُبَها منهم، ويحوِّلَهُم إلى فقراءَ مُعْوزِين في أسرع لحظة، أو يأخُذَهم على غِرَّةٍ فيتركوها لغيرهم، فيكونَ عليهم مسؤوليتها ولغيرِهم منفعتُها.
ثمَّ اعلَمُوا: أنَّ الله -سبحانه- عيَّنَ مصارفَ للزكاة لا يجوزُ ولا يُجزئُ في غيرها، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:60].
فمن كان يملكُ ما يكفيه، ويكفي من يمونَهم لمدةِ سنة، أو له إيرادٌ من راتبٍ، أو غيره يكفيه، فهو غنيٌّ لا يجوزُ ولا يجزئُ صرفُ الزكاة إليه.
ولا يجوزُ له هو أن يأخُذَها.
وكذا مَنْ كانَ عنده القدرةُ على الكسب الذي يكفيه -وهناك فرصٌ للكسب-، فإنه لا يجوزُ ولا يجزئُ دفع الزكاة إليه، ولا يجوز له هو أخذها.
فلا يجوز للمزكي: أن يدفَعَ زكاته إلا لِمَنْ يغلِبُ على الظنِّ أنه من أهلِ الزكاة، فقد جاءَ في الحديث: "أَنَّ الزكاة لا تَحِلُّ لغنيٍّ، ولا لقويٍّ مكتسِب"[رواه أبو داود والنسائي].
وكذا لا يجوزُ صرفُ الزكاة في المشاريع الخيرية، كبناءِ المساجد والمدارس وغيرها.
وتُمَوَّلُ هذه المشاريع من بيتِ المال، أو من التبرعاتِ.
فالزكاةُ حقٌّ لله شَرَعَهُ لهذه المصارف المعينة، لا تجوز المحاباةُ بها لِمَنْ لا يستحقُّها، ولا أَنْ يجلِبَ بها لنفسه نفعاً دنيوياً، أو يدفَعَ بها عنه ضرراً، ولا أن يقيَ بها مالَه بأن يجعلَها بدلاً من حق يجبُ عليه لأحد.
ولا يجوزُ أن يدفَعَ بالزكاةِ عنه مذمةً، ولا يجوزُ دفعُها إلى أصوله، ولا إلى فروعهِ، ولا إلى زوجته أو إلى أحد ممن تلزمه نفقته.
فاتقوا الله -عبادَ الله-، وليكُنْ إخراجُ الزكاة وصرفُها وسائر عباداتكم على مقتضى كتابِ الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فإنَّ خيرَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهَدْيِ هَدْيُ محمد -صلى الله عليه وسلم-... إلخ.