الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عادل العضيب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية - أركان الإيمان |
هتف الجن برسالته -عليه الصلاة والسلام- ونادوا قومهم منذرين: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)، فمن يهتف بقومه؟! من يهتف بمجتمعه؟! من يهتف بأقرانه؟! من يهتف بأصدقائه قائلاً لهم: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)؟! من يهتف بالأقربين والأبعدين؟! من يهتف بالعاصين؟! من يهتف بلسان الناصح الأمين؟! من يهتف بالشاردين: عودوا إلى رب رحيم؟! من يهتف بالمذنبين: توبوا إلى رب كريم. من يهتف بمجتمعه ناصحًا ومذكٍّرًا وداعيًا ومحذرًا (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف:31]..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فيا عباد أيها المسلمون: لقد كان مبعث النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الحدث الأعظم والأضخم في تاريخ البشرية؛ فقد غيَّر الله بمبعثه وجه التاريخ، وختم الرسالة وأرسله إلى الثقلين الإنس والجن بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
لذا لما أراد الله بالشمس المحمدية أن تشرق على الدنيا تقدم هذا الحدث وصاحبه أمور عظام تدل على أنه رسول من عند الله.
من ذلك ما رواه العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنِّي عند اللهِ في أمِّ الكتابِ لَخاتم النَّبيِّين، وإن آدمَ لمُنجدلٌ في طينتِه، وسوف أنبِّئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبِشارة عيسى قومَه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قُصور الشام، وكذلك أمَّهات النَّبيِّين يَرَين" صلوات الله عليهم. (رواه أحمد والطبراني والبزار والبيهقي).
ومن عجيب ما وقع حين بعث -عليه الصلاة والسلام- أن الجن هتفت تبشّر بمبعثه وتدعو لاتباعه، وقع هذا لسواد بن قارب -رضي الله عنه- والذي رآه عمر -رضي الله عنه- وكان ذا فراسة فلما رآه قال: "أظن أن الرجل على دينه في الجاهلية أو كان كاهنا في الجاهلية"، ثم قال: "عليّ بالرجل"، فسأله عمر -رضي الله عنه- وقال: "إني أعزم عليك إلا أخبرتني" قال سواد: "كنت كاهنا في الجاهلية"، فقال عمر -رضي الله عنه- "فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟"
قال: "بين أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان أتاني رَئي من الجن، فقال: يا سواد بن قارب! قم فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل؛ إنه قد بُعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:
عجبت للجــــن وتطلابها | وشدها العيس بأقتابها |
تهوي إلى مكة تبغي الهدى | ما صادق الجن ككذابها |
فارحل إلى الصفوة من هاشم | ليس قداماها كأذنابها |
ثم ذكر أنه أتاه ليلتين بعد الأولى، وقال له: "قم يا سواد واعقل إن كنت تعقل؛ إنه قد بُعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته".
قال: "فوقع حب الإسلام في قلبي، فانطلقت إلى رحلي حتى أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت".
وأنشد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
أتاني نجيي بعد هدأة ورقدة | ولم يك فيما قد تلوت بكاذب |
ثلاث ليال قوله كل ليلة | أتاك رسول من لؤي بن غالب |
فشمرت عن ذيلي الإزار ووسطت | بي الدعلب الوجناء غبر السباسب |
فأشهد أن الله لا شيء غيره | وأنك مأمون على كل غالب |
وأنك أدنى المرسلين وسيلة | إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب |
فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى | وإن كان فيما جاء شيب الذوائب |
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة | سواك بمغنٍ عن سواد بن قارب |
قال فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، وقال: "أفلحت يا سواد"، فقال له عمر -رضي الله عنه-: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونِعْمَ العِوَض كتاب الله -عز وجل- من الجن".
جني يأتي بإنسي لينطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليضع كفّه في كفه ويشهد شهادة الحق، ويسلم لله رب العالمين.
كما هتف الجن بقومهم يدعونهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وذلك عندما أراد الجن استراق السمع من السماء على عادتهم، فأُرسلت عليهم الشهب كما قال الله عنهم (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) [الجن: 8- 9]، فقال الجن: ما حيل بينكم وبين خبر السماء إلا لأمر.
فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبحثون عن هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء فانصرفوا حتى وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بوادي نخلة عامدًا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن سمعوا كلاما عجيبا تقشعر له القلوب والأبدان فطلب بعضهم من بعض أن ينصتوا لاستماعه. قال الله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ) [الأحقاف:29].
لقد هزتهم آيات الكتاب الحكيم حتى قالوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن: 1- 2]، وما أن انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قراءته حتى انطلق نفر الجن إلى قومهم يهتفون بهم منذرين قال الله (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الأحقاف: 29- 32].
هكذا هتف الجن بمبعثه كما هتف الكون كله فرحًا بمقدمه المبارك وبرسالته التي أنارت الطريق للعالمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:128].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيا معاشر المسلمين هتف الجن برسالته -عليه الصلاة والسلام- ونادوا قومهم منذرين: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)، فمن يهتف بقومه؟! من يهتف بمجتمعه؟! من يهتف بأقرانه؟! من يهتف بأصدقائه قائلاً لهم: (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)؟! من يهتف بالأقربين والأبعدين؟! من يهتف بالعاصين؟! من يهتف بلسان الناصح الأمين؟!
من يهتف بالشاردين: عودوا إلى رب رحيم؟! من يهتف بالمذنبين: توبوا إلى رب كريم. من يهتف بمجتمعه ناصحًا ومذكٍّرًا وداعيًا ومحذرًا (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأحقاف:31].
يا قومنا احذروا عذاب الله، يا قومنا لا تكونوا كالذين (بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم: 28- 29].
يا قومنا (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39]، يا قومنا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلام للعبيد. يا قومنا لا تركبوا مركب العصيان ولا تتعدوا حدود الملك الديان.
من يهتف كما هتف الجن؟! من يحمل هم الدين، ويمشي في طريق الأنبياء والمرسلين؟! يرحم الناس، ويسعى لهدايتهم بلا شدة وغلظة، يأخذ بأيديهم إلى الجنة ويدفعهم عن النار دفعا، من يقف أمام المنكرات، من يقطع الطريق على المفسدين.
عباد الله كلنا خطاء فلينصح بعضنا لبعض وليذكِّر بعضنا بعضا، تناصحوا وتذاكروا هكذا أراد الله، وهكذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان سلفكم الصالح عليهم رحمة الله، وإذا رأيتم المخطئ فخذوا بيده وارحموه وانصحوه لا تجرحوه ولا تفضحوه لا تؤنبوه خذوا بيده كما كان نبيكم -عليه الصلاة والسلام-.
عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله امتثالا لأمر الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..