العربية
المؤلف | علي بن يحيى الحدادي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - التوحيد |
وإذا كان الله -عز وجل- هو المتفرد بالخلق والإيجاد والإحياء والإماتة, وتدبير أمر السماء والأرض؛ فهو المستحق للعبادة وحده, لا يستحق منها شيئاً أحد سواه, لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دونهما؛ لأن من سوى الله لا يخلق ولا يرزق, ولا يحيي ولا يميت, ولا يملك ضراً ولا نفعاً...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومِن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102] (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1] (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله: فإن العبد الصالح إذا مات ووضع في قبره تعاد روحه في جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي منادٍ من السماء: "أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة"، قال: "فيأتيه من رَوحها وطيبها, ويفسح له في قبره مد بصره, ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح, فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وأما العبد الكافر فإذا مات ووضع في قبره وأعيدت إليه روحه, أتاه الملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: "أن كذب فأفرشوه من النار, وافتحوا له باباً إلى النار", فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه, قبيح الثياب منتن الريح, فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي توعد فيقول: ومن أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر, فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة" [رواه أحمد وأبو داود وغيرهما]. وهذا مختصر منه.
عباد الله: هذا من الغيب الذي كشفه الله لنبيه مما يجري للعبد بعد موته, مما لا تدركه العقول إلا عن الطريق الوحي الإلهي الكريم، وقد قرر هذا الحديث الكريم ما يكون من السؤال في القبر عن الأصول الثلاثة العظيمة, وهي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه -صلى الله عليه وسلم-, والجواب في ذلك اليوم العظيم على حسب إيمان العبد وعمله في الدنيا, كما قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27].
فعلى كل مسلم ومسلمة أن يعرف هذه الأصول الثلاثة معرفة صحيحة, موافقة لكتاب الله ولسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، معرفة مثمرة للإيمان بالله والخضوع له, والانقياد لشرعه, والمتابعة لنبيه -صلى الله عليه وسلم-.
أما الأصل الأول: وهو معرفة العبد ربه, فإن العبد يعرف ربه بآياته ومخلوقاته العظيمة الباهرة, ومنها الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والأرض, وكل ما خلق الله من صغير وكبير وحقير وخطير, فهو دال على وجود الله وعلى وحدانيته -سبحانه-.
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه واحدُ |
قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37].
وإذا كان الله -عز وجل- هو المتفرد بالخلق والإيجاد والإحياء والإماتة, وتدبير أمر السماء والأرض؛ فهو المستحق للعبادة وحده, لا يستحق منها شيئاً أحد سواه, لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دونهما؛ لأن من سوى الله لا يخلق ولا يرزق, ولا يحيي ولا يميت, ولا يملك ضراً ولا نفعاً.
فكيف يصح أن تعبد مخلوقاً عاجزاً ضعيفاً مثلك، فالعبادة كلها أقوالها وأعمالها ظاهرها وباطنها كلها حق لله وحده, فالدعاء له وحده, والاستغاثة به وحده, والنذر له وحده, والسجود له وحده, والخوف منه وحده, والرغبة والرهبة والخشوع له وحده, وهكذا بقية أنواع العبادة لله وحده, لا يجوز صرف شيء منها لغير الله. قال تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون: 117], وقال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18], وقال تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36], وقال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].
فدلت هذه النصوص وأمثالها على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله, وأن من عبد مع الله غيره فقد أشرك, وهذا هو معنى (لا إله إلا الله), فإن معناها: لا معبود بحق إلا الله -عز وجل-، كما قال -سبحانه-: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج: 62].
وقد استزل الشيطان كثيراَ ممن ينتسب إلى الإسلام, فزين لهم عبادة غير الله, بدعوى التوسل ومحبة الأولياء وطلب شفاعتهم, فصرفوا أنواعاً كثيرة من العبادة للمخلوقين بدعاء الموتى, والذبح لهم, والنذر لمقاماتهم, والاستغاثة بهم عند الشدائد.
والواجب على جميع الثقلين أن يفردوا الله بالعبادة، وواجب على أهل العلم أن يبينوا هذا الأصل العظيم لجمهور المسلمين, فإنه الحكمة التي خلق الله من أجلها الجن والإنس, قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]. أي إلا ليوحدوه فلا يشركوا معه في عبادته أحداً سواه.
وأما الأصل الثاني: فهو معرفة دين الإسلام, ومعنى الإسلام: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة, والبراءة من الشرك وأهله.
والإسلام ثلاث مراتب: الأولى؛ مرتبة الإسلام, وأركانها خمسة: وهي الشهادتين, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, والحج.
والمرتبة الثانية: الإيمان وأركانه ستة: وهي الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, والإيمان بالقدر خيره وشره.
فالإسلام في الأصل للأعمال الظاهرة, والإيمان في الأصل للأعمال الباطنة القلبية. وإذا أطلق الإسلام شمل النوعين، وإذا أطلق الإيمان شمل النوعين أيضاً.
والمرتبة العليا هي الإحسان: وهي أن تؤدي العبادة على أكمل الوجوه, ولا يكون ذلك حتى يجمع العمل كمال الإخلاص لله وكمال المتابعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لهذه الأمة وأكمله لها, وهو مبني على قاعدتين عظيمتين: ألا يعبد إلا الله, وألا يعبد إلا بما شرعه لنا في كتابه, وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: فالأصل الثالث من أصول الدين: معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي, من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-.
اختاره الله من خير القبائل وأشرفها، ولد في مكة أحب البقاع إلى الله, وأوحى إليه وعمره أربعون سنة, وكان إذ ذاك يتعبد في غار حراء في الجبل المعروف اليوم, والصعود إليه من البدع التي فتن بها كثير من الناس.
نبِّئ بإقرأ وأرسل بالمدثر, فجمع الله له بين النبوة والرسالة, فمكث عشر سنين يحذر من الشرك ويدعو إلى التوحيد, ولم يشرع له غير التوحيد شيء, ثم عرج به إلى السماء ففرضت عليه الصلوات الخمس, وكان المعراج في ليلة لا يدرى تاريخها, فمن حددها فقد قال بغير علم, ومن احتفل بها فقد أحدث في الدين.
فمكث في مكة بعد المعراج ثلاث سنوات ثم هاجر إلى المدينة, وفي المدينة شرع الله عامة أحكام الشريعة كمقادير الزكاة والصيام والحج والعيدين وغيرهما, وكان -صلى الله عليه وسلم- معنياً بأمر التوحيد يبينه ويقرره, ويحذر مما يضاده أو يقدح في كماله.
وبعد أن أتم الله له الدين قبضه إليه في ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة, وغسل وكفن وصليّ عليه, ودفن في بيت عائشة -رضي الله عنها- ولم يدفن في المسجد, ولم يبن المسجد على قبره.
وإذا كان قد مات فدينه باقٍ لم يمت -والحمد لله-, وسيبقى هذا الدين ماضياً باقياً حتى يقبض الله أرواح المؤمنين بريح طيبة في آخر الدنيا, ثم لا يبقى إلا شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو آخر الرسل وخاتمهم, وينزل عيسى بن مريم نبياً رسولاً, لكنه يحكم بشريعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإجماع المسلمين.
والرسول -صلى الله عليه وسلم- بشر فلا يُدعا ولا يستغاث به, ولا يذبح له ولا ينذر له, كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) [الكهف: 110] فالعبادة حق خالص لله, وميزه الله بالنبوة والرسالة, وتجب محبته فوق محبة النفس, وطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر, وتصديقه فيما أخبر وألا يعبد الله إلا بما شرع.
فدينه خاتم الأديان لا يقبل الله من أحد ديناً بعد بعثته إلا دين الإسلام الذي بعث به -عليه الصلاة والسلام- قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
وقد بين لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- كل خير علمه لنا, وحذرنا من كل شر علمه لنا, فبلغ البلاغ المبين, وجاهد في الله حق جهاده, وتركنا على بيضاء نقية واضحة لا يزيغ عنها إلا هالك، وهي المحجة التي سلكها الصحابة والتابعون لهم بإحسان وساروا عليها. ومن أراد النجاة لنفسه فليسلك طريقهم وليحذر ما خالفها, قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
اللهم فقهنا في دينك وارزقنا العمل الصالح الذي يرضيك اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.